” نداء إلى الجهات المعنية.. أنا مواطن سوري وفنان أعيش في مصر منذ أكثر من 30 عامًا، وابني مصري الجنسية، وحاليًا في المطار في دبي وطالع للقاهرة وللأسف تم منعي من السفر إلى مصر بناء على القرار الجديد الذي لا أعلمه”.
أثارت تلك الاستغاثة التي نشرها -قبل أن يحذفها لاحقًا- الفنان السوري سامو زين على حسابه في فيسبوك يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، والتي كشف من خلالها منعه من دخول مصر رغم امتلاكه للإقامة، حالة من القلق لدى السوريين على منصات التواصل الاجتماعي، سواء المقيمين في مصر أو الراغبين في السفر إليها.
وكانت السلطات المصرية قد فرضت اشتراطات جديدة، منتصف الشهر الحالي، تتضمن حصول السوريين من حاملي الإقامة الأوروبية والأميركية والكندية ودول الخليج على موافقة أمنية (قد تستغرق عدة أشهر)، إلى جانب تأشيرة دخول من إحدى السفارات المصرية بالخارج قبل السفر إلى مصر، وبذلك تُلغى الاستثناءات السابقة التي كانت ممنوحة للسوريين القادمين من تلك الدول بالدخول إلى الأراضي المصرية دون أي اشتراطات مسبقة.
الفنان سامو زين مش عارف يدخل مصر. pic.twitter.com/YRZG9qUyUD
— 🍷 (@enooo) December 15, 2024
الاشتراطات شملت كذلك السوريين حاملي تأشيرات شنغن الأوروبية، وإن كانت التأشيرة سارية المفعول، حتى السوريين المرتبطين بعلاقات زواج مع مصريين عليهم كذلك الحصول على موافقة أمنية لدخول مصر، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات حول دوافع تلك الخطوة وتوقيتها المثير للجدل وتداعياتها على مستقبل الجالية السورية في مصر، ومسألة لمّ الشمل بين الأسر السورية المقيمة هناك.
تأتي تلك القيود الجديدة بعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وسيطرة المعارضة السورية على المشهد الداخلي، وهو التطور الذي أحدث حالة ارتباك لدى بعض العواصم العربية من بينها القاهرة، فيما شنّ الإعلام المناصر للنظام هناك حملة انتقادات وهجوم لاذع ضد القيادة السورية الجديدة، قبل أن يتحول الأمر إلى تحريض علني ومباشر على بعض السوريين في مصر، وهو ما صعّد من حالة القلق والترقب لدى قطاع كبير من السوريين المقيمين فوق التراب المصري.
وتتباين التقديرات بشأن عدد السوريين المقيمين في مصر في ظل عدم وجود إحصاء رسمي، إذ يبلغ عددهم ما يقرب من مليون ونصف المليون سوري وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، فيما لا يتجاوز عدد المسجلين رسميًا لدى مفوضية شؤون اللاجئين في القاهرة نحو 148 ألف لاجئ فقط، بعدما كانوا 242 ألفا قبل 3 أعوام.
المقيمون في الخارج فقط
تتعلق تلك الاشتراطات الجديدة بالسوريين المقيمين في الخارج والراغبين في دخول مصر، لكنها لا تخصّ إقامة السوريين المتواجدين بطبيعة الحال داخل الدولة المصرية، حسبما أشار الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر راسم الأتاسي، الذي لا يرى وجود أي تضييق على وجود السوريين في مصر.
من جانبه، يشير رجل الأعمال السوري المقيم في مدينة السادس من أكتوبر (38 كيلومترًا من العاصمة القاهرة)، سامر الأسود، إلى أن أوضاع الجالية السورية في مصر لم تشهد أي تغيرات إدارية أو قانونية فيما يتعلق بالإقامات وتجديد الأوراق الثبوتية، كما لم يخبرهم أي أحد بأي اشتراطات جديدة كتلك المفروضة على السوريين خارج الحدود المصرية والراغبين في دخولها.
وأضاف الأسود في حديثه لـ”نون بوست” أن من يحمل الإقامة المصرية من السوريين المقيمين في مصر لا مشكلة معهم في الدخول والخروج من الدولة، لافتًا أنه خلال اليومين الماضيين هناك من السوريين من خرجوا مصر وعادوا دون أي مشكلة أو عائق، منوّهًا أن تلك الاشتراطات الجديدة تخص حاملي الإقامات الأجنبية فقط، لا سيما الدول سالفة الذكر، الخليج والولايات المتحدة وكندا وأوروبا.
كما أوضح أن آخر تحديث اتخذته السلطات المصرية بشأن إجراءات دخول السوريين إلى أراضيها كانت في أغسطس/ آب الماضي، حين قررت إلغاء الإعفاءات المقررة على تأشيرات وإقامات الرعايا السوريين، مقيمين ومترددين، وفرض رسوم على التأشيرات والإقامات على كل السوريين دون استثناء، مع ضرورة الحصول على الإقامة الرسمية بدلًا من التأشيرات السياحية لتجنُّب الترحيل، منوهًا أن هذا الإجراء طُبّق على جميع الجاليات الأجنبية في مصر وليس السوريين فقط.
وبحكم العلاقة التي تربطه ببعض المسؤولين عن الجوازات والتأشيرات من مسؤولين مصريين، يرى رجل الأعمال السوري أن أوضاع الجالية السورية في مصر مستقرة ولا داعي للقلق، رغم الحملات التي يشنّها البعض بين الحين والآخر على منصات التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية ضد السوريين، والتي سرعان ما يتم احتواؤها في ظل التزام السوريين بقوانين الدولة المصرية، وعدم خروجهم عن النص وتركيزهم في العمل والحياة بأمن وأمان واستقرار، حتى تحين فرصة العودة لوطنهم مرة أخرى حين تسمح الظروف بذلك.
دواعٍ أمنية
لا يمكن قراءة تلك الاشتراطات والتضييقات الجديدة بمعزل عما يحدث في سوريا، وهو ما أوضحه مدير عام مؤسسة “سوريا الغد” ( مؤسسة إغاثية أنشئت عام 2011 وتقدم خدماتها للاجئين السوريين في مصر)، ملهم الخن، الذي أشار في تصريحات صحفية إلى اتخاذ الحكومة المصرية إجراءات أمنية احترازية على وقع التغيير الذي تشهده سوريا، مضيفًا أن “إلغاء السلطات المصرية الإعفاءات للسوريين حاملي الإقامات بدول الخليج وأوروبا وأمريكا، جاء لعدم وجود جهات أمنية سورية يتم التنسيق معها”، وأن الحكومة المؤقتة في سوريا لا يمكن التعويل عليها حاليًا لعدم الاعتراف الدولي بها حتى الآن، على حد قوله.
ويرجع البعض تلك الاشتراطات إلى قلق السلطات المصرية من فتح الأبواب على مصراعيها أمام موجات جديدة من فلول نظام الأسد الفارّين من الملاحقة، أو قدوم أنصار الفكر الثوري الداعم لما حدث في سوريا، بما يشكّل تهديدًا على أمن واستقرار الدولة (النظام) وعليه كان هذا التضييق، أما فيما يتعلق بمن هم في الداخل ممّن حصلوا على إقامات مصرية، فهم على أعين السلطات الأمنية ومراقبتها ولا قلق بشأنهم.
راسم الأتاسي يناشد الإدارة المصرية الإفراج عن بعض السوريين الذين قبض عليهم أمس بعد احتفالات سقوط بشار الأسد في اكتوبر والعبور
شاهدوا #الحكاية على #MBCMASR من الجمعة إلى الاثنين 10م بتوقيت القاهرة من هنا https://t.co/StD4kGX5VV pic.twitter.com/9jCT1qGv08
— MBC مصر (@mbcmasr) December 8, 2024
ومنذ سقوط نظام الأسد وسيطرة المعارضة المسلحة ذي السمت الإسلامي على المشهد، وهناك هاجس من القلق والرعب يخيّم على الخطاب الإعلامي الموالي للنظام الحاكم في مصر، والذي ينظر إلى الإسلاميين بعين الريبة والشك، إذ يعتقد أن نجاح الثورة في سوريا ربما يكون طريقًا نحو نقل العدوى للقاهرة وغيرها من العواصم، التي نجحت فيها الثورة المضادة في إجهاض الإرادة الشعبية التي تفجرت عام 2011.
ومنذ هروب الأسد فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ويتبنى رموز الإعلام في مصر استراتيجية واحدة، تقوم على شيطنة الإدارة الجديدة لسوريا، حيث إلصاق الاتهامات والأكاذيب بشأنها، والعمل على كسر موجة الإعجاب والتأييد المصري لها ولقدرتها على الإطاحة بنظام الأسد، خاصة بعد الكشف عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها بحق الشعب السوري على مدار أكثر من 13 عامًا.
وكان المئات من السوريين قد خرجوا في بعض المدن المصرية للاحتفاء بسقوط نظام الأسد وتحرير بلادهم من قبضته الحديدية، ما أثار حفيظة السلطات الأمنية التي ألقت القبض على عدد منهم مدفوعة بحملة إعلامية للتصدي لتلك التجمعات والمطالبة بترحيلهم إلى سوريا الجديدة، قبل أن تُطلق سراحهم بعد ذلك.
حملة ممنهجة
ركز خطاب الإعلام المناصر لنظام السيسي مع الأيام الأولى لنجاح الثورة السورية وإسقاط الأسد، على تشويه المعارضة السورية والتشكيك في قدرتها على إدارة الدولة الجديدة وإلصاق العديد من التهم بها، حتى جاءت الصورة المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي في السابع عشر من الشهر الجاري، والتي تُظهر زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، وعن يمينه القيادي بجماعة الإخوان محمود فتحي، وعن يساره مستشار العلاقات الخارجية بحزب العدالة والتنمية التركي، ليتحول الخطاب الإعلامي 360 درجة.
التقط الإعلاميون الداعمون للنظام تلك الصورة بعين مختلفة، فالأمر لم يعد يتعلق بمستقبل سوريا فقط، بل تحول إلى شأن مصري خالص، فاستضافة قائد الإدارة السورية الجديدة لشخص بحجم فتحي، المحكوم عليه في عشرات القضايا بتهم الإرهاب على رأسها قضية مقتل النائب العام المصري هشام بركات عام 2015، اُعتبرت رسالة تستهدف زعزعة الاستقرار المصري حسبما جاء على لسان هؤلاء الإعلاميين، المعروف أنهم لم ولن يتحدثوا أبدًا من تلقاء أنفسهم، حيث التوجيه الفوقي وتبنّي رسالة واحدة وسكريبت موحّد على الجميع لتحقيق هدف ما، فيما عُرف بـ”إعلام السامسونج”.
نتنياهو بنفسه على جبل الشيخ.. أحمد موسى: كنتوا حتى روحو احدفوهم بالطوب #صدى_البلد #على_مسئوليتي pic.twitter.com/4ai0mZQWg8
— صدى البلد (@baladtv) December 17, 2024
وبعد دقائق معدودة من نشر تلك الصورة غير معروفة المصدر، بدأ السُّعار يتصاعد على منصات التواصل الاجتماعي من الموالين للنظام، إعلاميين وساسة، حيث كتب البرلماني والصحفي المقرب من السيسي مصطفى بكري قائلًا:” الجولاني يستقبل الإرهابي المصري محمود فتحي، قاتل المستشار هشام بركات، ومعه ياسين أقطاري مستشار أردوغان ومحتضن جماعة الإخوان. البدايه تكشف عن حقيقة النوايا”، وهو نفس ما كتبه الإعلامي أحمد موسى.
كما لحق بهما البرلماني محمود بدر قائلًا: “كلها شبكة واحدة ومحدش يحاول قنعنا بالعكس.. ادي ابو محمد الجولاني سابقًا أحمد الشرع الأمريكاني حاليًا بيستقبل في القصر الجمهوري في دمشق الإخوانجي محمود فتحي مؤسس ما يعرف بتيار الأمة المصرية المعارض وطبعًا برعاية اسيادهم الاتنين في تركيا.. محاولة ابتزاز حقيرة وتلويح عفن بتحريك العرايس من تاني، لكن البلد دي أكبر من أنها تخضع لابتزاز العصابات واللي مشغلهم”.
"الكلام الي بيقوله الأخ الجولاني ده كلام بيأثر على أمه وأبوه في مصر".. لم يستطع إخفاء حقده على الثورة السورية المنتصرة، بوق السيسي إبراهيم عيسى يهدد الجولاني بوالديه اللذين يعيشان في مصر! pic.twitter.com/B3D77hkG1x
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) December 18, 2024
بل وصل الأمر إلى التحريض العلني على أسرة الشرع التي تقيم في مدينة السادس من أكتوبر المصرية منذ سنوات، وعلى رأسها والده ووالدته، حيث شنَّ الإعلامي إبراهيم عيسى هجومًا عنيفًا عليهما بعد نشر صورة فتحي مع ابنهما، مطالبًا باستخدام والديه كورقة ضغط ضد قائد الإدارة السورية الجديدة وابتزازه بها، في رسالة قوبلت بالتحقير والاستنكار من الكثيرين من رواد التواصل الاجتماعي.
سبق هذا الهجوم تحذيرات أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقاء جمعه مع عدد من إعلامييه المقربين، وبعض قيادات القوات المسلحة والأجهزة التنفيذية، حين أشار إلى وجود ما أسماهم “خلايا نائمة” بين المصريين تستهدف زعزعة استقرار الدولة المصرية، مثمّنًا دور الشعب المصري في التصدي لها، محاولًا في الوقت ذاته تبرئة ساحته من الاتهامات التي تواجهه منذ توليه السلطة، والإيحاء بأنه ليس كبشار الأسد، وهي التحذيرات التي اعتبرها الإعلام المناصر له رسالة أمر واجبة التحرك فورًا لشنّ حملة جديدة ضد المعارضة لا سيما الإسلامية.
الجالية الأكثر نجاحًا في مصر
لم تنجح جالية عربية كانت أو أجنبية في مصر على مرّ تاريخها كما نجح السوريون، فهم الأقرب لقلوب المصريين تاريخًا وحضارة وثقافة، ولم يشعر سوري بدفء خارج حدود بلاده كما شعر بين الشعب المصري، الذي يكنّ -والعكس- للأشقاء مشاعر تفيض بالحب والدعم والتكاتف والاحتواء، فهما شعب واحد في بلدين تربطهما أواصر الصداقة الممتدة بجذورها في أعماق التاريخ.
وتوثق منصات التواصل الاجتماعي، منذ الحديث عن احتمالية عودة الكثير من السوريين لوطنهم بعد تحريره من نظام الأسد، وعبر عشرات المقاطع المصورة والمنشورات المكتوبة، حالة التناغم والترابط والتآلف بين الشعبَين المصري والسوري، حيث تمسّك المصريون ببقاء إخوانهم السوريين وحثهم على عدم مغادرة بلادهم بعدما نضجت بينهم وشائج من الصعب تفكيكها.
وبعيدًا عن الاشتراطات والتضييقات التي تصدرها السلطات المصرية بين الحين والآخر لاعتبارات أمنية أو سياسية سلطوية، فضلًا عن الحملات الممنهجة التي تقف خلفها جهات بعينها على منصات التواصل الاجتماعي، يبقى السوريون الشعب الذي يحتل المكانة الأكبر في قلوب المصريين، والأكثر اندماجًا في المجتمع المصري حتى لا تدري أيهما اختلط على الآخر.
الحضور السوري في مصر لم يتعاظم فقط بحكم العلاقات الطيبة التي تجمع بين الشعبَين، إذ نجحت الجالية السورية في غضون عقد تقريبًا في فرض نفسها كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد المصري، اقتصاديًا واجتماعيًا، حتى باتوا رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله مهما كانت التحديات، إذ تشير التقديرات إلى أن إجمالي الاستثمارات السورية في مصر تتجاوز 800 مليون دولار، بينما ذهب آخرون إلى أن القيمة أكبر من ذلك بكثير، إذا ما وُضعت في الاعتبار رغبة بعض السوريين في عدم تسجيل أعمالهم بشكل رسمي أو تسجيلها بأسماء مصرية.
وتذهب الأرقام إلى وجود أكثر من 30 ألف رجل أعمال سوري لديهم استثمارات في السوق المصري، يمتلكون أكثر من 1300 شركة، برأس مال يقدَّر بـ 23 مليار دولار، ومن أشهر المجالات الاستثمارية التي يعمل بها السوريون صناعات الإسفنج والورق، والصناعات البلاستيكية، والمنتجات الغذائية، والنشاط التجاري والخدمي، ما جعلهم رافدًا مهمًّا للاقتصاد المصري.
ويؤمل السوريون أنفسهم أن تعيد الحكومة المصرية النظر في تلك الاشتراطات الجديدة، حتى وإن كانت بصفة مؤقتة، والتي تحول دون لمّ الشمل الأسري بين العائلات السورية، وتضيّق من حركة السوريين الراغبين في القدوم لمصر، لا سيما في ظل تقديم الجالية السورية على مدار عقد كامل النموذج الأبرز في الالتزام بقوانين الدولة وعدم الخروج عن النص، رغم ما تعرضت له من حملات تشويه واعتداءات بين الحين والآخر، إذ إنه ليس من العدل ولا المنطق أن يتعرضوا لعقاب جماعي لمجرد القلق من هواجس وأوهام لا وجود لها إلا في مخيلة السلطة وأنصارها من الإعلاميين.