بعد 8 سنوات من الثورات التي كانت تونس أول شرارتها منذ احتراق محمد البوعزيزي بمدينة سيدي بوزيد التونسية، ليشعل باحتراقه النار في تاريخ من الاستبداد عايشته شعوب المنطقة، ويحرق مع ذلك النبؤات الكاذبة عن شعوب الاستبداد قدرها والحرية مستحيلها، نقضت الثورات المشتعلة منذ 17 من ديسمبر 2010 كل أساطير الاستبداد والاستعمار، لتجعل المنطقة من تونس وحتى مصر وما أبعد منهما أمام لحظة تاريخية فارقة، وهي لحظة أخرى الآن عنوانها أمل ما ينبعث في الجزائر والسودان.
وكأنّ الثورات التي انطلقت في أواخر 2010 تنظر لهذا الأمل كمصباح نور آخر يعيد إشعاع النور ويذكي شرارة القبس الذي لم ينطفئ رغم كل طوفان الموت واليأس وتقهقر الثورة وزحف الثورة المضادة وانتصارها المعلن في مصر، ومرواغتها في تونس بإعادة رسكلة النظام القديم وسياساته ووجوهه، وتواصل الحرب في مواجهة الثورة في سوريا وتكالب الغزاة القدماء الجدد على سوريا التي أعلن شعبها ثورة واجهها النظام بوحشية لا توصف، واستدعى كل الغزاة ليقاوم بهم شعبه.
أما اليمن فيتعرض لعدوان تقوده المملكة السعودية في إطار استغلال التناقضات التي تفجرت به جراء عقود من القهر والقمع من أجل منع أي تسرب لفكرة التحرر للمملكة وأخواتها وضرائرها، خوفًا من ثورة تنخر خاصرة الاستبداد بالجزيرة العربية وتفتح المجال لنموّ الحرية وتسربها لصحراء العرب.
الجزائر والسودان.. أمل جديد ينبعث من رحم حركة الجماهير
تعيش الجزائر والسودان منذ أشهر على وقع احتجاجات أدت لتراجع من النظامين في إطار محاولات التفافية على إرادة الثوار في هذين البلدين، بينما تتقدم حركة الشعبين السوداني والجزائري في مواجهة هذه المساعي الالتفافية التي تتقنها أنظمة موغلة في ممارسة التحايل بكل أشكاله إضافة لتاريخها الاستبدادي والإجرامي في حق جماهير الناس من أبناء الأرض وأصحاب الحق الذين يبدون يومًا بعد يوم إرادة تزداد صلابة وإصرارًا على مواصلة المسار الذي بدأوه.
تبدو رسالة الثورات الناشئة في السودان والجزائر واضحة في مواجهة الرواية التي تروّج لمجتمعاتنا باعتبارها محكومة بالتخلف ولا يمكن أن تحكمها إلا أنظمة بوليسية أو عسكرية
إن المسار الذي أطلقته الجماهير في الجزائر والسودان يأتي ليشير مرة أخرى إلى أن الثورات ممكنة مغربًا ومشرقًا، ولينقض مرة أخرى الدعاية الاستعمارية القديمة الجديدة التي تنظر لبلداننا وشعوب منطقتنا كمجرد مصدر للموارد الأولية واليد العاملة الرخيصة وسوق للسلع، كما أنها تطعن رواية الأنظمة سواء منها التي تعيش على وقع احتجاجات منذ أشهر تطالب بإسقاطها أم الأنظمة التي أعادت رسكلة نفسها في البلدان التي شهدت ثورات منذ 2011.
تبدو رسالة الثورات الناشئة في السودان والجزائر واضحة في مواجهة الرواية التي تروّج لمجتمعاتنا باعتبارها محكومة بالتخلف ولا يمكن أن تحكمها إلا أنظمة بوليسية أو عسكرية وهي نفس دعاية المستعمِرين منذ القدم، هذه الدعاية التي تتقنها أيضًا نخب أيديولوجيا الاستشراق في الداخل والخارج.
في تجاوز هزائم النخبة وتحالفاتها
بالإضافة إلى ذلك فإن مجريات الأحداث الحاليّة تلفت انتباهنا إلى خطايا الفاعلين السياسين والنخب الفكرية في الدول التي عاشت على وقع الثورات منذ 2011، فإحدى المسائل التي عجلت بزحف الثورات المضادة تلك التحالفات والخصومات التي قامت منذ 2011 بين القوى السياسية المعارضة سابقًا التي استفاد منها النظام الذي جاءت الثورات لإسقاطه.
ففي مصر أدت تلك التحالفات والخصومات بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين أي الإسلاميين والقوى المدنية واليسارية لانتصار ساحق للثورة المضادة توّج بتدشين حكم عسكري يقوده الفريق عبد الفتاح السيسي منذ سبع سنوات، فرغم خلعة لبزّته العسكرية وتعويضها بزيّ مدني لم ينجح في إخفاء نزعته الاستبدادية التي تتركّز سنة بعد سنة بآلاف المعتقلين في السجون المفتوحة على طول مصر وعرضها وتجويع ملايين المصريين مقابل حملات تطبيل إعلامية لا تنتهي من نخب إعلامية موالية لا تتراجع عن تزيين كل سوءاته التي تتناسل يومًا بعد يوم.
بعد انتخابات 2014 أقامت حركة النهضة تحالفًا حكوميًا مع حزب نداء تونس ثمّ مع رئيس الحكومة الذي أعلن انشقاقه عن حزب نداء تونس بعد خلافه مع ابن رئيس الجمهورية والرمز الأول للحزب
أما في تونس فقد تبادلت القوى السياسية المعارضة سابقًا للنظام التطبيع ثم التحالف مع رموز النظام القديم والواجهة السياسية التي تمثلهم، فبداية من “حركة نداء تونس” التي فاز رئيسها الباجي قايد السبسي برئاسة الجمهورية في انتخابات 2014، وبالعودة لسنة 2013 عندما تحالفت القوى السياسية اليسارية والقومية ممثلة في “الجبهة الشعبية” خاصة مع “حزب نداء تونس” لتطبّع وتشرعن وجود حزب نداء تونس على الساحة السياسية عندما كان ينعت بأزلام النظام القديم وذلك في إطار صراع النخب المدنية واليسارية في مواجهة “حركة النهضة”.
وبعد انتخابات 2014 أقامت حركة النهضة تحالفًا حكوميًا مع حزب نداء تونس ثم مع رئيس الحكومة الذي أعلن انشقاقه عن حزب نداء تونس بعد خلافه مع ابن رئيس الجمهورية والرمز الأول للحزب، وما زال حزب رئيس الجمهورية يتوالد وينقسم على نفسه بطرق شتّى.
ويعتبر حاليًّا “تحيا تونس” الحزب السياسي الذي أسسه رئيس الحكومة يوسف الشاهد – الذي كان أحد قياديي حزب نداء تونس – أحد امتدادات رسكلة سياسات ورموز نظام بن علي، إضافة لحزب رئيس الجمهورية الذي يشهد صراعًا لا ينتهي أدى مؤخرًا لانقسام الحزب إلى شقين: شق يمثل حافظ قايد السبسي ابن رئيس الدولة وشق آخر يمثل منافسيه من وزراء وقياديين بنفس الحزب وكلاهما يتنازعان على اسم الحزب.
تم اختصار الصراع السياسي بشأن قضايا الحريات السياسية والحقوق الفردية في إطار تصور سياسي ليبرالي للصراع
هكذا فإنه من العار أن ينتصب النخب والناشطون الذين كانوا جزءًا من حرب تموقع سياسي ساهمت في هزيمة الحركة الجماهيرية وخدمت تكتيكاتهم الأنظمة التي أتت الثورات لإسقاطها كأوصياء على حركة الجماهير في السودان والجزائر، فخبراء الفشل هؤلاء مطالبون أولاً بنقد ممارستهم السياسية ومساراتهم التي لا تخلو من مواقف وانحيازات لم تخدم إلا الثورات المضادة، فمتى يخجل هؤلاء ويتواضعوا ليتعلموا من حركة الناس بدل تقديم أنفسهم كخبراء في الديمقراطية والانتقال الديمقراطي والثورات، واكثر ما يمكن يكونوا خبراءً فيه هو إفشال الثورات وخدمة الأنظمة وإنقاذها.
الكرامة أولاً ودائمًا.. سياسات اقتصادية تعيد إنتاج النظام
مسألة أخرى لا بد من الالتفات لها وتتعلق بطبيعة المعركة مع النظام الذي قامت ضدّه الثورة، إذ تمّ اختصار الصراع السياسي بشأن قضايا الحريات السياسية والحقوق الفردية في إطار تصور سياسي ليبرالي للصراع، فبينما بدت الثورات منذ اندلاعها تتمحور حول مسألة جوهرية مرتبطة بالخيارات السياسية والسياسات العامة التي انتهجتها الأنظمة في الشؤون الاقتصادية، حيث شهدت تلك الدول بشكل عام منذ أواخر الثمانينيات توجهًا نحو الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية تحت إشراف مؤسسات التمويل والإقراض الدولية التي فرضت نهجًا يدعم تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي والاقتصادي بشكل تدريجي.
وهو الأمر الذي تضاعف مع حقبة التسعينيات ومع دخول سنوات الألفية الثانية، منذ الفترة الأولى لاندلاع الثورات رفعت المطالب الاقتصادية بشكل واضح وتجلت الطبيعة التدميريّة للسياسات النيوليبرالية التي استهدف الطبقات الشعبية والمتوسطة الدنيا خاصة سواء في المدن أم الأرياف، لكن انشغال الفاعلين السياسيين عن هموم جماهير المفقرين للتركيز على المسائل السياسية الشكلية جعل الديمقراطية مجرد آلية لإعادة إنتاج الخيارات السياسية والتوجهات الاقتصادية للنظام الذي رفعت الثورة مطلب إسقاطه، مما ساهم في تدهور الظروف الاقتصادية والحالة المعيشية لأغلبية الناس.
التحركات الشعبية التي انطلقت منذ شهور وتطورت في اتجاه واضح تزاداد تجذّرًا، لتكشف إدراكًا مجتمعيًا لطبيعة الأنظمة الحاكمة وتحالفاتها
اليوم، تستأنف الجماهير في السودان والجزائر مسار الثورة والتحرير في مواجهة الأنظمة التي مارست الاستبداد السياسي واحتكرت الثروات وحافظت على نمط اقتصادي ريعي أدى لحرمان أغلبية المواطنين مقابل استيلاء النخبة السياسية وحلفائها في المؤسسة العسكرية والأمنية باختلاف التفاصيل الداخلية لكل حالة، فالتحالفات التي تحكمت في العملية السياسية واحتكرت القرار السياسي وأمّمت الشأن العام لعقود استفادت من اقتسام الغنائم الاقتصادية في إطار تفاهمات مع القوى الغربية أو حلفائها الخلجيين (في حالة السوادن خاصة) التي حافظت على امتيازاتها من خلال هذه النخب التابعة والمستعدّة للمحافظة على معادلة اقتصادية تضمن عدم المساس بمصالحها ونفوذها.
التحركات الشعبية التي انطلقت منذ شهور وتطورت في اتجاه واضح تزاداد تجذّرًا، لتكشف إدراكًا مجتمعيًا لطبيعة الانظمة الحاكمة وتحالفاتها وهو ما بات واضحًا في شعارات المحتجين واستمرارية حراكهم وعدم قبولهم بتنازلات شكلية تحافظ على امتيازات النظام الحاكم وتحالفاته العميقة داخليًا وخارجيًا.
فسواء في السودان أم الجزائر لم تخل الشعارات السياسية من الإشارة إلى التناقض مع القوى الغربية (فرنسا في الجزائر) أو القوى الإقليمية التي تدور في فلك القوى الغربية (الدول الخليجية في السودان وخاصة الإمارات والسعودية) أو الأنظمة التي أجهضت ثورات الشعوب وتقدم نموذجها الاستبدادي المتوحش (نظام السيسي).
إن درس الجزائر والسودان نحتاجه لإعادة تأصيل المسار الثوري المغدور به بينما تغرق المنطقة في الانتكاسات سواء من خلال تكريس انتصار الثورة المضادة في مصر أم الإيهام بنموذج تونسي يُمّكن النظام القديم من مفاصل الدولة عبر سياسة التوافق مع الفساد والاستبداد والتبعيّة والاندماج في النظام الاقتصادي والسياسي المُهيمن وجعل الانتخابات مجرّد آلية شكلية تعيد إنتاج النظام مع اقتسام المصالح بين بعض الأحزاب السياسية بما لا يهدّد استمرارية النظام الذي طالبت الثورة بإسقاطه.
كما أن الأمل الذي تشير إليه يقظة الشعوب في السودان والجزائر يذكّر أن مشاهد الحروب الطاحنة التي تواجهها الثورات خاصة في سوريا واليمن تعبر عن رهبة النظام المحلي والإقليمي والدولي من قدرة الشعوب على الوقوف في مواجهة كل أشكال العدوان الداخلي والخارجي.