من هنا بدأت الديانات تسري في أرجاء فلسطين، ومن هنا بدأت التحررات العربية في التوغلات الخارجية، ومن هنا كان أول المحاور التي ضربت مثلاً في التسامح بين الأديان السماوية.
هو ليس المسجد الأول في قطاع غزة فحسب، بل أول المساجد في فلسطين عامة بعد الفتوحات الإسلامية في الأراضي المقدسة، جدرانه وأرضيته ومعالمه كافة، شاهدة على زيارات مختلفة للعديد من حكام وأساطير العالم عبر التاريخ، بل له زوايا وقصص ما قبل الإسلام والمسيح وما بعدهما أيضًا، يُذهل به كل من سمعها.
المسجد يقع بمنطقة حي الزيتون وسط مدينة غزة، على مساحة 6 دونمات ونصف تقريبًا (6500 متر مربع)، وهذه آخر بقعة ثبتت عليها مساحة المسجد بعد اقتطاع أجزاء كبيرة منها خلال الحروب والمعارك التي تصدت لها غزة عبر قرون مختلفة من الزمن، أو من خلال بعض الحوادث الطبيعية كالزلازل، فقد تم اقتطاع أجزاء كبيرة من باحاته لضمها لكنيسة أو معبد آخر مجاور له أو مأوى لزوار الأرض الفلسطينية قديمًا، كلٌ حسب الدين الذي يتبعه.
المسجد العمري في عهد الوثنيين وعبدة الأزلام
المسجد لم يتغير بناؤه منذ أكثر من ألفي عام، فهو المعبد الأكبر للوثنيين وعبدة الأصنام قديمًا، وموضع نصب الإله “زيوس” الذي يعد إله الشرق والغرب والبرق والرعد الذي عبده أهالي الشام ومصر حتى بلاد أوروبا قديمًا.
كانت غزة آخر المدن الفلسطينية والشامية تمسكًا بالوثنية، فهذه المدينة الصغيرة تمسكت بوثنيتها عقب أقرانهم من المدن المجاورة حتى بعد 4 قرون من الزمن، فقد تم الإعلان رسميًا من باحات العمري انهيار دولة الوثنيين بغزة وقيام المسيحية كدين رسمي لها عام 400 ميلادي.
كانت بداية هذه التوجيهات على يد القديس الروماني برفوريوس الذي واجه اضطهادًا وظلمًا هو وأنصاره من المسيحيين في غزة، بل كانت تجري عمليات إعدام بشعة بحق مسيحيي غزة الذين كانوا يتبعون دين المسيح بشكل سري خوفًا من اضطهادهم.
كان المعبد الذي هو عبارة عن مسجد حاليًّا ذي قلاع متينة يزيد حجمه على 70 دونمًا (70 ألف متر مربع) وعقب تعيين برفوريوس راهبًا لمسيحيي غزة خلفًا للقديس الفلسطيني الأول هيلاريون الذي هرب نحو قبرص خوفًا من بطش الوثنيين وتوفي هناك، لاقى برفوريوس ممانعة لدخوله غزة، حيث كان المعبد يحتوي في زواياه البوابة الرئيسية لمدينة غزة، فكان عليهم عقابًا من الرب بالجفاف والجوع الشديد طيلة 6 شهور.
وبحسب ما يوضح المؤرخ التاريخي لفلسطين الدكتور سليم المبيض، فإن الوثنيين توسطوا لبرفوريوس للدعاء لربه بأن يحل عليهم البركات، فاستضافوه في المسجد (المعبد الوثني سابقًا) ودعا ربه من هناك، وبالفعل سقطت الأمطار بغزارة، ما دعا لطرده من المعبد وملاحقته بتهمة التخطيط مع ربه للتشكيك في عبادة الإله زيوس الذي كان منصوبًا مكان مئذنة المسجد اليوم.
ذهب برفوريوس للقسطنطينية عاصمة الروم (إسطنبول حاليًّا)، والتقى زوجة الإمبراطور الروماني ثيودوديوس الأول التي تُدعى “أفظوكسيا” وبالشامي “هيلانا”، وتحدث لها عما يحصل للمسيحيين بغزة من اضطهاد وملاحقة وتعذيب من الوثنيين، وما ساعدهم على ذلك هو الوالي الروماني على غزة حينها إيلاريوس الذي كان يسمح للوثنيين بالتمادي بغزة مقابل رشاوى تُدفع له منهم لغض البصر عنهم.
لم تصدق أفظوكسيا ما سمعته من برفوريوس التي كانت تسمع عنه أنه مباركًا عند الرب، وخاصة أنها كانت عاقرًا لا تلد، فوعدته إن استجاب الله لدعائه بأن رزقها بمولود، بأن تضع حدًا للوثنيين بغزة، وللحاكم الفاسد الذي يُدعى إيلاريوس الذي عينته مسبقًا لإدارة الأوضاع بغزة.
المسجد العمري في عهد المسيحي والبيزنطي
بالفعل رُزقت أفظوكسيا بمولودها الأول الذي أصبح فيما بعد إمبراطورًا للروم واسمه ثيودوديوس الثاني، فسارعت بأخذ الموافقة من زوجها الإمبراطور ثيودوديوس الأول بتحرير غزة من الوثنيين وتحويل معبدهم لأول كنيسة في قطاع غزة، وتحرك أسطولاً كاملاً من جيش الروم نحو غزة، وارتكب مذبحة بحق الوثنيين راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف شخص.
أمرت أفظوكسيا بدفن الإله زيوس تحت الأرض بالقرب من وادي غزة وسط القطاع، وأمرت بتحويل المعبد الوثني لكنيسة سُميت باسمها، ودخلت غزة حينها بالدين المسيحي عام 400 ميلادي، وأقامت فيه أفظوكسيا حتى وفاتها ليتم نقل جثمانها للقسطنطينية، وتغير اسم الكنيسة عام 405 للميلاد حين توفي القديس برفوريوس ودفن بداخلها، وما زال قبره حتى الآن بساحاته، ليصبح اسمها كنيسة القديس برفوريوس.
دارت معركة في أروقة “العمري” بين الروم والفرس، انتصر فيها الروم بعدما تضرر أجزاء كبيرة من الجامع العمري حينما كان كنيسة للمسيحيين، وكان هذا الخراب كبيرًا لم يتم إصلاحه إلا في زمن العثمانيين عام 1895، بعدما استخرجوا الإله زيوس من تحت الأرض ونقلوه لمتحف بإسطنبول.
المسجد العمري في العهد الإسلامي الأول
عام 635 للميلاد، جاء موعد الفتوحات الإسلامية لفلسطين، في عهد خليفة المسلمين عمر بن الخطاب الذي عين عمرو بن العاص قائد الحملة العسكرية لتحرير شبه جزيرة سيناء من الروم ثم واليًا عليها، ليبدأ بتجهيز العدة والجيش لفتح فلسطين وبيت المقدس بإشارة من الخليفة عمر بن الخطاب.
دخل المسلمون غزة عام 635 ولم يُلاقوا أي مقاومة تجاههم وذلك لأن أغلب أهالي غزة كانوا محبين للإسلام، ورغم أنها آخر المناطق الفلسطينية تحررًا من الوثنية ودخولاً بالمسيحية، فإنها أول المناطق الفلسطينية دخولاً بالإسلام، وكان أول ما قدمه أهالي غزة للمسلمين مقاسمتهم نصف الكنيسة، ليصبح جزءًا منها “الجامع العمري الكبير” والنصف الآخر كنيسة “برفوريوس”.
لحق الخليفة عمر بن الخطاب بجيشه الذي فتح غزة وصلى بالمسجد “العمري” الذي سُمي على اسمه، وكانت حينها صلاته الأولى بفلسطين، واستقر بزواياه عامًا كاملاً يجهز من خلاله جيش عظيم من المسلمين ليتوجه به لمدينة القدس، وفرض عليها حصارًا حتى فتحها بلا قتال عام 637 حالها كحال غزة.
في القرن الـ11، كانت فلسطين تُقسم لقسمين: شمالية وجنوبية، تمكن الفاطميون المصريون الشيعة من السيطرة على فلسطين الجنوبية حتى مدينة القدس شرقًا ومدينة غزة غربًا، فيما كانت باقي المناطق الشمالية من الناحيتين الشرقية والغربية بيد “السلاجقة السنة” الذين يتبعون الدولة العباسية التي تتخذ من بغداد عاصمة لها.
حول الفاطميون المسجد العمري بهذه الفترة لمسجد ومركز رئيسي للشيعة في فلسطين، وانتشرت الخرافات على أنقاض هذا المسجد، كخرافة “أربعاء أيوب” حينما كانت المرأة التي لا تلد أو العانس تذهب للبحر لتحضر منه قارورة مياه وتغتسل بها أمام عتبات المسجد، لتعم عليها بركات الرحمن ويحقق لها مطلبها، أو كان بعض الرجال ليدفعوا السحر عن أنفسهم وعن ذويهم وأسرهم، يأتون بكبش يذبحونه على عتبات المسجد، وكان هذا حال الرجل الذي لا ينجب أبدًا.
كانت حماية غزة بالنسبة “للفاطميين المصريين” من خطر “السلاجقة السنة”، أهم عندهم من حماية مدينة بيت المقدس، كون غزة كانت تشكل الدرع الواقي لمصر، ما دفعهم للتعاون مع الصليبيين لاحتلال شمال فلسطين وتخليصهم من “السُنة”، إلا أن الصليبيين غدروا بالفاطميين فلم يكتفوا باحتلال شمال فلسطين فحسب، بل دخلوا القدس وارتكبوا بأهلها أبشع مجازر التاريخ عام 1100 ميلادي، بعدما ذبحوا أكثر من 60 ألف من أبنائها، وتوجهوا نحو غزة أيضًا واحتلوها وتوقفت قواتهم على حدود سيناء.
المسجد العمري في عهد الصليبيين
أما فيما يخص “المسجد العمري” هنا، فقد حوله الصليبيون بقيادة الصليبي جودفري إلى كنيسة “القديس يوحنا”، وهنا أصبح كنيستين متلاصقتين لبعضهما: الأولى كنيسة برفوريوس الذين رفضوا توحيدها مع كنيسة الصليبيين كونها جاءت تحت مسمى “الاحتلال الأوروبي” للأراضي الفلسطينية.
ظل وضع المسجد العمري على ما هو عليه طيلة 87 عامًا، حتى جاء الموعد الثاني للفتوحات الإسلامية لفلسطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1178، وبدأ دخوله لفلسطين من غزة بعدما جاءها من مصر عقب هزيمته للفاطميين، وأول ما قام به هو إعادة “المسجد العمري” لواجهته الإسلامية.
المسجد العمري في العهد الإسلامي الثاني (الأيوبيون)
سار السلطان صلاح الدين الأيوبي على نهج خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، فقد صلى الأخير صلاته الأولى في فلسطين بالمسجد العمري خلال فتحه لهذه البلاد سياسيًا، وكذلك الأيوبي صلى صلاته الأولى بالعمري أيضًا بفتحه العسكري لهذه البلاد.
بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي، انقسمت دولته إلى مملكتين: الشمالية كانت تضم فلسطين وبلاد الشام، والجنوبية ضمت مصر وشمال إفريقيا، ومن الجدير ذكره أن الصليبيين عقب هزيمتهم من صلاح الدين لم ينسحبوا من كل فلسطين، بل بقيت قواتهم على السواحل الغربية من فلسطين باستثناء غزة التي تمتد من مدينة يافا الفلسطينية وصولاً لمدينة صور في لبنان.
وحتى يُبعد الأيوبيون الشاميون خطر المصريين عنهم، فقد سلموا الصليبيين فلسطين كافة بما فيها غزة والقدس ونابلس ورام الله، وسميت بالحملة الصليبية السادسة 1228 ميلاديًا.
هنا تحول المسجد العمري مرة أخرى في إطار الحملة الصليبية السادسة، لكنيسة سُميت بكنيسة “ماريو حنا”، حتى جهز الأيوبيون المصريون العدة لدخولهم بحرب جديدة مع الصليبيين عام 1244، وقد هزموهم بالفعل بعدما تحصن الآلاف منهم خلف جدران المسجد العمري الذي لحق به خرابًا حينها، ونجحوا بطردهم من فلسطين كافة بتلك المعركة التي دارت في زوايا “المسجد العمري”، سُميت بمعركة “غزة الكبرى”.
كان الظاهر بيبرس قائد الهجمة العسكرية حينها بتعيين من قائده السلطان نجم الدين الأيوبي، ثم أصبح سلطانًا للدولة الأيوبية المصرية، حيث أنشأ عام 1260 ميلاديًا مكتبة علمية وشرعية وثقافية داخل المسجد، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا.
المسجد العمري في عهد المماليك
جاء حكم المماليك الذين انقلبوا على أسيادهم الأيوبيين، ووحدوا مصر مع بلاد الشام واهتموا بالجامع العمري وأنشأوا بعهدهم أول مئذنة للجامع، وكانت غزة حلقة وصل بين عاصمتي الدولة المملوكية (دمشق والقاهرة) وكان العديد من الزوار يرتادونها إما بقصد العلم في المدرسة الكمالية الملاصقة للعمري التي أُنشأت بعهد الأيوبيين للقضاء على فكر الفاطميين الشيعة، أو للتجارة بين مصر وسوريا، أو كضيوف للأرض المقدسة، ما دعا لتكبير مساحة المسجد لاستيعاب الضيوف الذين كانوا يحلون بالآلاف على غزة ويقيمون بها لأسابيع أو لأشهر.
من هنا تقاسمت كنيسة برفوريوس جدرانها الشمالية مرة أخرى للمسلمين، وتحديدًا في عهد السلطان المملوكي سيف الدين قلاوون، ولكن الزلزال الذي أصاب غزة عام 1033 ألحق ضررًا كبيرًا بالمسجد والكنيسة معًا، وتعذر إصلاح الضرر الكبير وخاصة في الرقعة التي تم تكبير المسجد بها، ما أدى لتحويل المنطقة المتضررة لشارع للمارة يفصل بين البناء السابق للمسجد والمساحة المقتطعة حديثًا من الكنيسة، فبقي الأول الجامع العمري على ما هو عليه حتى الآن، بينما الآخر تحول لمسجد “كاتب ولاية”.
وسُمي بمسجد “كاتب ولاية” نسبةً لأحمد بيك الذي كان يشغل مهنة كاتب ولاية مدينة غزة، وحمل طلبًا من السلطان المملوكي سيف الدين قلاوون، يطالب رعايا كنيسة برفوريوس باقتطاع جزء من الكنيسة لتكبير باحة المسجد، وتم ذلك بالتراضي، كون الفترة المملوكية شهدت أعظم فترات التآخي بين المسلمين والمسيحيين، وما زال هذا المسجد مُقامًا على أراضٍ تتبع للأوقاف المسيحية.
في إطار الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام من نابليون بونابرت، كان الجنرال “كليبر” من يقود الجيش الفرنسي والحاكم الفعلي لهذه البلاد العربية بعد احتلالها.
من هنا تأسست الخلية الجهادية للإطاحة بهذا الحاكم من داخل “الجامع العمري”، وظلت الخلية تدرس تكتيكها الانتقامي من الاحتلال الفرنسي طيلة ستة شهور داخل المسجد بقيادة سليمان الحلبي الذي جاء من سوريا ومكث بغزة قبل توجهه لمصر واغتياله الجنرال “كليبر” طعنًا بقلبه بخنجره عام 1800 ميلادي، ليتم اعتقاله وإعدامه بالخازوق وقطع رأسه، وما زالت جمجمته والخازوق الذي أُعدم به موجودين بمتحف “اللوفر” بباريس.
المسجد العمري في عهد العثمانيين والعهد الحديث
بدأت أول عملية ترميم للمسجد العمري وللمساجد المحيطة به من آثار الزلزال عام 1895 في عهد العثمانيين، حيث تم إحضار نفس النسخة من الأحجار القديمة من إسطنبول، وبقي على ما هو عليه حتى يومنا هذا.
وكانت الطائفة الأزهرية المصرية دائمة الزيارة إليه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بعدما افتتحوا منزل الإمام الشافعي بنو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد الأئمة الأربع للسنة والجماعة، ومنزله يبعد بضع خطوات عن باب المسجد، لا تزيد على 10 أمتار، وكان الرئيس المصري الراحل أنور السادات أحد زوار المسجد حينها، حيث كان يشغل النائب الأول للزعيم جمال عبد الناصر، وكذلك مؤسس الأزهر الشريف الشيخ محمد عواد.
ويظهر لنا عبر التاريخ المذكور العديد من الأساطير والسلاطين والشخصيات المرموقة التي واكبت جدران المسجد العمري في العهد الإسلامي، ابتداءً من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب والصحابي الجليل عمرو بن العاص، وكذلك صلاح الدين الأيوبي، والسلطان المملوكي سيف الدين قطز، وكذلك سيف الدين قلاوون، مرورًا بالظاهر بيبرس والسلطان الأيوبي نجم الدين أيوب وعبد الرحمن الكواكبي وهو أحد رموز النهضة العربية ومؤسس القومية العربية، وسليم عبد الهادي أحد أهم الثائرين ضد العثمانيين في أواخر عهدهم قبل أن يتم إعدامه، وكذلك الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات ومؤسس الأزهر الشريف الشيخ محمد عواد.
من الجدير ذكره أيضًا أن المسجد العمري أول المساجد الفلسطينية التي دخلها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عندما دخل فلسطين لأول مرة عام 1994 بعد احتلال دام لأكثر من 5 عقود، ليعلن من منبره السيادة الفلسطينية على أولى الأراضي المحررة من الاحتلال الإسرائيلي.