لم تجد السعودية وحليفتها الإمارات أفضل من باكستان التي تمر في الوقت الراهن بضائقة مالية خانقة لدعم تحالفاتها الإقليمية في ظل التوتر المتصاعد مع إيران من جانب الولايات المتحدة، مستغلة في ذلك أوضاعها الاقتصادية المتردية ومساعيها لتحسين الأجواء المعيشية لسكانها.
عروضًا سخية قدمتها الدولتان الخليجيتان للدولة النووية في إطار خططتهما لتقوية جبهتهما التي تعاني من شروخ متعددة في الوقت الأخيرة في مواجهة طهران التي نجحت خلال السنوات الأخيرة في سحب البساط من تحت أقدام الهيمنة السعودية في كثير من الميادين على رأسها اليمن وسوريا ولبنان والعراق.
تأجيل الرياض مطالبة إسلام آباد بدفع المستحقات الشهرية المقرر دفعها طيلة السنوات الثلاثة المقبلة، تزامنًا مع إلغاء مدفوعات النفط مع الإمارات، تحركان أثارا الكثير من التساؤلات عن دوافعهما الحقيقية في هذا التوقيت على وجه الخصوص.. ليبقى السؤال: هل تنجح مثل هذه المساعي في استقطاب باكستان للمحور السعودي الإماراتي؟
عروض سخية
أعلنت السعودية تأجيلها مطالبة باكستان بدفع 275 مليون دولار شهريًا على مدار الأعوام الثلاث المقبلة، وهو ما يبلغ إجمالي قيمته 9.6 مليار دولار، وذلك حسبما نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن وزير المالية الباكستاني عبد الحفيظ شيخ الذي قال إن هذا الإجراء “سيعزز قوة وضع المدفوعات الباكستانية”.
القرار السعودي يأتي بعد منح المملكة حكومة عمران خان في أكتوبر 2018 قرضًا بقيمة 6 مليارات دولار، ليستخدم نصف المبلغ لتقوية وضع الاحتياطي المتراجع، أما النصف الثاني فيستخدم لدفع المستحقات النفطية، وهو التحرك الذي أثار ترحيبًا وقبولاً كبيرًا لدى الباكستانيين.
يرى مراقبون أن الهدف الأكبر من وراء هذا الدعم في هذا التوقيت الحساس هو إبقاء باكستان التي تمتلك ترسانة نووية في المعسكر السعودي الأمريكي
تزامن هذا الإجراء مع تحرك إماراتي آخر، إذ يبدو أن تأجيلاً منفصلاً لمدفوعات النفط مع أبو ظبي قد ألغي، وفقًا لمسؤول حكومي كبير رفض توضيح سبب هذا القرار، فيما تترقب الدولة الإسلامية قرضًا إماراتيًا بمليار دولار آخر بنهاية يونيو/حزيران القادم، وبذلك يصل إجمالي الدعم المقدم من الإمارات في السنة المالية الحاليّة 3 مليارات دولار.
السخاء السعودي الإماراتي يأتي في وقت تشهد فيه باكستان أزمة مالية خانقة، أدت إلى تراجع معدلات احتياطات التبادل الأجنبي التي لا تغطي بالكاد شهرين من الاستيراد، الأمر الذي دفع حكومة خان إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض لمعالجة تلك الأوضاع، وبالفعل تم التوصل إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق ليقدم رزمة إنقاذ بـ6 مليارات دولار على مدى ثلاثة أعوام، وتأتي هذه الرزمة بشروط تقضي بإصلاحات بنيوية صارمة.
السعودية تكثف استثماراتها في باكستان
لماذا في هذا التوقيت؟
العروض الخليجية تأتي في وقت تقبع فيه المنطقة على صفيح ساخن، إثر التصعيد المتبادل بين طهران وواشنطن الذي وصل إلى حد التلويح بنشوب حرب واستهداف مصالح البلدين في المنطقة، الأمر الذي دفع الجميع إلى تقوية جبهته عبر حزمة من التحالفات التي يضمن بها تغليب كفته في مواجهة الطرف الآخر.
وعليه يرى مراقبون أن الهدف الأكبر من وراء هذا الدعم في هذا التوقيت الحساس هو إبقاء باكستان التي تمتلك ترسانة نووية في المعسكر السعودي الأمريكي، وعلى الرغم من تأكيد إسلام آباد أنها لن تنضم لأي معسكر مفضلة التزام الحياد في المسألة الإيرانية الأمريكية فإن البعض ذهب إلى أنه حال خروج التوتر عن نطاق السيطرة، ستهرع الرياض إلى الدولة الإسلامية لنجدتها للحصول على الدعم الأمني، فلطالما نظرت السعودية إلى باكستان على أنها جزء من شبكتها الأمنية بما في ذلك أسلحتها النووية.
حرص خان على الإبقاء على علاقات جيدة مع طهران أقلق السعوديين بشكل كبير، الأمر الذي دفعهم إلى التقارب، إن لم يكن من باب الحصول على دعم الدولة الإسلامية في هذه المعادلة فعلى الأقل الإبقاء عليها في موقف الحياد
أستاذة العلاقات الدولية في معهد إدارة الأعمال في كراتشي، هوما باقاي، علقت على السخاء السعودي الإماراتي بقولها: “التوقيت مهم، فالنزاع في المنطقة وتصاعد التوتر يخلقان مرة أخرى سياسة التحالفات”، مضيفة في تصريحات نقلتها الصحيفة الأمريكية أن تأجيل الدفع هو محاولة للحفاظ على باكستان في المعسكر السعودي الأمريكي، مع أن حكومة إسلام آباد أعلنت حيادها في موضوع النزاع الأمريكي الإيراني.
الصحيفة نقلت عن وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي قوله في الأسبوع الماضي إن إسلام آباد لن تنضم إلى أي معسكر في النزاع، فيما قال المحلل السياسي زاهد حسين، إنه في حالة خروج النزاع عن السيطرة فإن السعودية قد تعتمد على دعم باكستان الأمني، مضيفًا: “لطالما تعاملت السعودية مع باكستان على أنها جزء من شبكتها الأمنية بما في ذلك ترسانتها النووية، تتوقع الرياض مسارعة باكستان لدعمها في حال اندلاع حرب مع إيران”.
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الرياض إلى عقد صفقة مع الباكستانيين خلال السنوات الأخيرة، وإن تغيرت الاتجاهات والدوافع هذه المرة، إذ أبرمت أخرى قبل 21 عامًا حين تعرضت إسلام آباد لعقوبات دولية عقب إجراء أول اختبار نووي.
وزير الخارجية الإيراني ونظيره الباكستاني
إيران كلمة السر
تعد إيران كلمة السر الرئيسية وراء التحركات التي تستهدف من خلالها السعودية استمالة باكستان والتقرب إليها عبر بوابة المال والاستثمارات، تكشفت هذه المساعي مع إعلان فوز عمران خان في الانتخابات الباكستانية التي جرت قبل عدة أشهر، حيث أوفدت المملكة وزير إعلامها عواد بن صالح العواد للقاء نظيره الباكستاني فؤاد حسين شودري، سبتمبر الماضي، لبحث سبل التعاون بين البلدين، بعد أيام قليلة من فوز خان رسميًا.
الأمور تجلت بشكل أكثر وضوحًا مع الزيارة التاريخية التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لباكستان في الـ17 من فبراير الماضي، تلك الزيارة التي أحيطت بسياج من التساؤلات عما شهدته من مظاهر بذخ غير مسبوقة، أسفرت حينها عن استثمارات سعودية بقيمة 7 مليارات دولار خلال العامين المقبلين، ويشمل ذلك الاستثمار مصفاة نفطية في ميناء غوادر الإستراتيجي على بحر العرب، فيما ذهبت مصادر أخرى إلى أن إجمالي الاستثمارات يتجاوز 15 مليار دولار.
رد الجميل لم يتأخر كثيرًا، ورغم تحفظ خان على الخروج بتصريحات تأتي في صالح حليفه الجديد، فإن العديد من الأصوات الباكستانية الأخرى قامت بهذا الدور على أكمل وجه، على رأسها رئيس مجلس علماء باكستان الشيخ طاهر محمود الأشرافي الذي حث خلال مؤتمر “الدفاع عن أرض الحرمين الشريفين والأقصى” الذي عقد في جامعة المنظور الإسلامية بلاهور بباكستان، مايو الماضي، جميع المسلمين حول العالم على الوقوف بجانب المملكة والدفاع عنها أمام ما تواجهه من إرهاب وعدوان من المليشيات الحوثية المدعومة من إيران.
الأشرافي خلال كلمته في المؤتمر أعلنها صراحة: “نحن جميعًا سوف نلبي نداء الملك سلمان قائلين: لبيك يا خادم الحرمين الشريفين، وسيرى الجميع قوافل المسلمين رافعين رايات الإسلام بجيوش جرارة مضحين بأنفسهم من أجل أرض الحرمين الشريفين”.
موقف رئيس حكومة باكستان من طهران ربما لم يتغير كثيرًا عما سبق، فمنذ عام 2016 دأب خان وحزبه “الإنصاف” على إطلاق تصريحات إيجابية عن إيران، لافتًا إلى أن بلاده لا ينبغي أن تصبح جزءًا من أي تحالف ولا أن تنخرط في أي حرب بالوكالة ضد طهران، مضيفًا أن أحد أطراف الصراع، في إشارة إلى الرياض، كان صديقًا مقربًا من باكستان، والطرف الآخر، هو جار، في إشارة إلى طهران.
الرياض تعي جيدًا أهمية الموقف الباكستاني الذي بات من الواضح أنه أذكى من توريط نفسه بالانضمام إلى أي من المعسكرين
حرص خان على الإبقاء على علاقات جيدة مع طهران أقلق السعوديين بشكل كبير، الأمر الذي دفعهم إلى التقارب، إن لم يكن من باب الحصول على دعم الدولة الإسلامية في هذه المعادلة فعلى الأقل الإبقاء عليها في موقف الحياد، خاصة في ظل محاولات إيران استمالة جارتها في إطار مساعيها لتعزيز تحالفاتها في مواجهة التهديدات الأمريكية، علمًا بأن وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف من المقرر أن يزور إسلام آباد بعد أيام قليلة.
الرياض تعي جيدًا أهمية الموقف الباكستاني الذي بات من الواضح أنه أذكى من توريط نفسه بالانضمام إلى أي من المعسكرين، إلا أنه وفي المقابل، تمتلك الرياض ورقة ضغط قوية تتعلق بعلاقاتها القوية مع الهند، الخصم اللدود للدولة الباكستانية التي تحسنت بشكل كبير منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وهو ما ترجمه قيام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بزيارتين رسميتين للمملكة منذ توليه منصبه عام 2014.
بعد آخر ربما يكون وراء السخاء الخليجي إزاء باكستان، أوردته “فايننشال تايمز” نقلاً عن المحلل في شؤون جنوب آسيا في جامعة ستانفورد أسفنديار مير الذي قال إن الولايات المتحدة ربما استخدمت السعودية لدفع باكستان للمساعدة في تحقيق اتفاق سلام دائم مع حركة طالبان في أفغانستان، مضيفًا: “يمكن لباكستان زيادة الضغط على حركة طالبان في أفغانستان.. الأمور لا تبدو جيدة، وأعتقد أن الولايات المتحدة تريد من باكستان أن تعمل المزيد”.
وبين مطرقة العروض السعودية الإماراتية من جانب وسندان الحفاظ على علاقات جيدة مع الجارة الإيرانية من جانب آخر، يبدو أن خان وحكومته سيكونان تحت ضغوط كبيرة، فمصالح الدولة الباكستانية تقتضي الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات الطيبة مع البلدين، بأن تلتزم الحياد كوسيلة للخروج من هذا المأزق، وهو الخيار الأقرب وفق الكثير من المحللين.