نعلم جميعًا أنّ الإناث والذكور مختلفون في كثيرٍ من الجوانب، سواء في السلوكيات أو الأحماض الأمينية أو الهرمونات وغير ذلك. والكثير من الثقافات المختلفة تحتوي على بعض الأساطير والقصص عن تلك الاختلافات بدءًا من فترات الحمْل الأولى؛ كأنْ ترتبط الفتاة بأعراض تقلّبات المزاج والعاطفة عند أمّها فيما لا يجعل الصبيّ أمه عدوانية، وغيرها الكثير من الخرافات.
وأيًّا كانت صحة تلك الأقاويل والخرافات، تُخبرنا الدراسات بكلّ تأكيد أنّ الاختلافات بين الأولاد والبنات تبدأ في مرحلة مبكرة جدًا من الحياة، حتى قبل تكوين الأعضاء التناسلية والجنسية أثناء المرحلة الجنينية. أيْ أنّ ثمّة اختلافاتٌ في أداء كلٍّ من الجنسين داخل رحم أمّه من الممكن أنْ تنعكس على ولادته وعلى مراحل حياته اللاحقة جميعها.
معركة بقاء بين الجنسين
قد تستغرب أنّ الأجنّة الذكور هم الأكثر تعرّضًا لخطر الإجهاض أكثر من غيرهم من الإناث. ففي الأوقات الصعبة، كالأوضاع الاقتصادية أو السياسية غير المستقرة على سبيل المثال، تميل النساء بشكلٍ طبيعيّ إلى إجهاض نسبة أعلى من الأجنّة الذكور. يُطلق الباحثون على الظاهرة مصطلح “إعدام”، لكنّ السبب الحقيقي وراء ذلك ليس معروفًا بشكلٍ مؤكّد بعد.
يختار جسم الأمّ عمدًا إعدام وإجهاض الجنين الذكر عن طريق ضخّ الكورتيزول ورفع مستوياته لحدٍ أقصى في محاولة للتخلّص من طفلٍ ربّما يكون عرضةً لعدم النجاة في العالم خارج رحم أمّه
وعلى ما يبدو، قد تكون مستويات هرمون الكورتيزول المرتفعة التي تفرزها الأمّ في أوقاتها العصيبة تشكّل خطرًا وضررًا ممكنيْن للجَنين الذكر، الذي قد يستجيب لتلك المستويات بردّ فعلٍ عنيف كالإجهاض. تمامًا، يبدو أنّ الأجنّة الأنثوية لا تتأثّر بارتفاع نسبة الكورتيزول كما يتأثّر الذكر.
لكن في المقابل، ثمّة نظرية أكثر متعةً وإثارةً للاهتمام يمكننا الرجوع إليها. تقول النظرية أنّ جسم الأمّ يختار عمدًا إعدام وإجهاض الجنين الذكر عن طريق ضخّ الكورتيزول ورفع مستوياته لحدٍ أقصى في محاولة للتخلّص من طفلٍ ربّما يكون عرضةً لعدم النجاة في العالم خارج رحم أمّه وغير قادرٍ على مقاومة الظروف الصعبة هناك. وبكلماتٍ اخرى، يفرز الجسم مستويات مرتفعة من الكورتيزول كوسيلة بيولوجية لإجهاض الذكر سريعًا وتهيئة الرحم لحملٍ آخر بدلًا من إضاعة الوقت في ولادة لا ينتج عنها طفلٌ صحيّ يستطيع البقاء والمقاومة.
ربّما تعدّ السويد مثالًا جيّدًا هنا. فقد قام مجموعة من الباحثين بفحص سجّلات المواليد في السويد ما بين عاميْ 1751 و 1912، وهي الفترة المشهورة بمزيجٍ من المناخ القاسي والظروف البيئية السيئية والحروب المتكرّرة، ليجدوا أنّ الذين وُلدوا في أوقات اقتصادية سيئة أو في فترات التوتر الشديد، ذكورًا أو إناثًا، أظهرت سجّلاتهم حياةً أطول من جهة، وأنّ نسب الإجهاض كانت أعلى بين الذكور.
غالبًا ما يكون الأطفال الذكور أكثر عرضة للموت أو الإصابة بمرضٍ خطير بعد الولادة
تستند تلك النظرية أساسًا إلى الرأي الذي يفترض أنّ الأجنّة الذكور غالبًا ما يكونون أضعف من الأجنّة الإناث. وبالتالي، فإنّ محاولة إحضار صبيٍّ تحت وطأة المشقّة إلى هذا العالم أمرًا غير مواتٍ مقارنةً بإنجاب فتاة، الأقوى والأكثر قدرةً على البقاء كما تُخبر نظريّات التطوّر.
ففي المملكة الحيوانية، من الممكن الاستغناء عن الذكور أكثر من الإناث؛ حيث من المرجّح أنْ يتكاثر الذكور المتبقّين مع العديد من الإناث في كلّ موسم. وبالتالي، يصبح الذكر الأقوى والأصلح للبقاء هو الأكثر قدرة على التكاثر. وعلى العكس من ذلك، من المفترض أنْ تكون الأنثى أكثر قدرةً على البقاء إلى مرحلة البلوغ وما بعدها بهدف التكاثر ونقل الجينات.
هل الذكر أضعف حقًّا؟
الكثير قد لا تقنعه نظريّات التطوّر تلك. لكن لو جئنا إلى لغة الأرقام والأبحاث، لوجدنا فعلًا أنّ الأولاد أكثر عرضة للولادة قبل الأوان وخطر الإجهاض أكثر من البنات. أمّا الأمّهات اللواتي يحملن بذكر فيكنّ أكثر عرضةً لارتفاع ضغط الدم أثناء الحمل أو سكّر الحمل في المراحل المتقدّمة أو تسمّم الحمل الذي يعدّ اضطرابًا خطيرًا في الحمل يتميّز بارتفاع ضغط الدم واحتباس السوائل والبروتين في البول.
بعد الولادة، غالبًا ما يكون الأطفال الذكور أكثر عرضة للموت أو الإصابة بمرضٍ خطير؛ فهم يشكّلون 75٪ من وفيات متلازمة موت الرضيع الفجائي (SIDS)، أي الموت الذي يحدث في العام الأول من عمر الرضيع دون أيّة أسباب أو مخاطر واضحة. فيما يشكّل الذكور أيضًا نسبة 54٪ من تشخيصات مرض السرطان و 60٪ من الرضّع المصابين بإعاقات جسدية. وذلك تبعًا لواحدة من الإحصائيات.
أجنّة الإناث قادرة على الاستثمار أكثر في نموّ أنسجة جنينية إضافية بشكلٍ أكبر من الأجنة الذكور، ما يعني أنّ الفتيات الصغيرات أكثر قدرة على البقاء والحفاظ على الحمل وتبنّي استراتيجيات للتعامل مع المخاطر التي تهدد حياتهنّ
ومع تقدّم العمر يبقى الرجال هم الأكثر عرضةً للإصابة بالأمراض المختلفة، مثل أمراض القلب والسرطان واضطرابات الغدد الصمّاء ومرض السكّري وغيرها. أمّا عن الأسباب الكامنة وراء ذلك فمن المحتمل أنّ الاختلافات الوراثية بين الذكور والإناث يمكن أن تسهم في حدوث اختلافات في رحم الأمّ، ما ينعكس على الجَنين نفسه بدءًا من تلك المرحلة وحتى المراحل اللاحقة.
من المتوقّع أنّ الاختلافات الجينية بين الجنسيْن ممكن أنْ تؤثّر على المشيمة ووظائفها بطرقٍ مختلفة. وقد أظهرت الدراسات أنّ هرمونات المشيمة غالبًا ما تكون أعلى عند الأجنة الإناث مقارنةً بالذكور. ونتيجة لذلك، يكون الأطفال الذكور أكثر عرضة لخطر نقص التغذية مما يقيد نموّهم ويخفض وزنهم عند الولادة ويعرضهم لخطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في مرحلة البلوغ. ما يعني أنّ المشيمة هي المساهم الرئيسي في النتائج المختلفة التي نراها بين أداء الجنسيْن.
أمّا الرأي الآخر المطروح هنا فهو أنّ أجنّة الإناث قادرة على الاستثمار أكثر في نموّ أنسجة جنينية إضافية بشكلٍ أكبر من الأجنة الذكور، ما يعني أنّ الفتيات الصغيرات أكثر قدرة على البقاء والحفاظ على الحمل وتبنّي استراتيجيات للتعامل مع المخاطر التي تهدد حياتهنّ. تدعم هذه الدراسات الرأي القائل بأنّ الجنين مبرمجٌ منذ وجوده في الرحم على وضعه الصحّي أو المرضيّ طوال حياته. وإنْ كان الأمر غير ذلك، فلا شكّ لدينا من أنّ نموّ الجنين وصحّته وتطوّره يتأثر بالعديد من العوامل سواء البيولوجية والتطوّرية أو العوامل البيئية الموجودة في رحم الأم.