ترجمة وتحرير: نون بوست
جلست فاتن رمضان على السرير في شقتها تشاهد مقطع فيديو تلو الآخر على هاتفها المحمول لرجال منهكين وهم يبكون بعد تحريرهم من سجن في حماة بعد أن استولى الثوار على المدينة السورية.
أظهر أحد المقاطع رجلًا يرتدي رداءً تقليديًا بني اللون وسترة رمادية، فأعادته عدة مرات، فقط لتتأكد، ثم صاحت “أبي، أبي، أبي لا يزال على قيد الحياة!”.
وبينما يبدأ السوريون في التأقلم مع نهاية نظام دام أكثر من 50 عامًا، ويحاولون معرفة كل شيء بدءًا مِن مَن سيدير البلاد إلى المكان الذي خبأت فيه عائلة الأسد ثروتها، ولكن لا توجد قضية أكثر تعقيدًا من مصير عشرات الآلاف من الأشخاص الذين فُقدوا على أيدي أجهزة أمن بشار الأسد وأجهزة أمن والده حافظ من قبله.
بالنسبة لفاتن، البالغة من العمر 39 عامًا، والتي تعرضت بنفسها للاعتقال والتعذيب في عام 2013، فإنها تسعى لمعرفة ما حدث لوالدها محمد، والذي سُجن قبل عقد من الزمن وأُعلن عن وفاته لاحقًا، على الرغم من أنهم لم يستلموا رفاته أبدًا.
تبددت فرحة ابنته عندما اتصل بها الرجل الذي ظهر في الفيديو من سوريا ليخبرها أنه ليس الشخص الذي كانت تعتقد هي وأمها وأخواتها والدهم، وعاد بصيص من الأمل مرة أخرى بعد سيطرة الثوار على دمشق ونزول الناس إلى سجن صيدنايا سيء السمعة شمال العاصمة للبحث عن أحبائهم.
وأظهر أحد مئات مقاطع الفيديو من اقتحام صيدنايا أسم بلدها وأسماء والدها وشقيقها أنور – الذي كان مسجونًا أيضًا وأعلن النظام موته على الورق فقط – محفورة على جدار إحدى الزنزانات في السجن.
قالت فاتن، وهي طبيبة تلقت تدريبها وحصلت على حق اللجوء في فرنسا عام 2020، عبر الهاتف من مدينة روان: “سأستمر في البحث عن والدي وعن كل مفقود”. فقدت فاتن زوجها وابنتها في الحرب الأهلية في سوريا، وأضافت: “أريد أن أجمع كل الأدلة لمحاسبة المجرم بشار وضباطه وشبيحته”.
وقد أطلقت منظمة هيومن رايتس ووتش على شبكة أجهزة أمن الدولة المعقدة التابعة لآل الأسد اسم “أرخبيل التعذيب“، وكانت هذه الأجهزة تدير أو لديها إمكانية الوصول إلى أكثر من 100 مركز احتجاز في جميع أنحاء سوريا؛ حيث قامت باعتقال وتعذيب معارضي النظام ومنتقديه بشكل تعسفي.
وبحسب تقرير صدر في 6 ديسمبر/كانون الأول عن الهيئة الدولية المحايدة والمستقلة، وهي كيان أنشأته الأمم المتحدة لجمع الأدلة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا، فإن النظام السوري “متورط في إخفاء العدد المتزايد من المعتقلين الذين قتلوا في المعتقلات”.
إن محاسبة النظام على وحشيته ستحدد إلى حد كبير ما إذا كانت الفصائل المتحاربة في سوريا وطوائفها الطائفية والعرقية المختلفة ستتصالح مع الماضي أو ستغرق في دوامة جديدة من الانتقام.
إن دول أوروبا والشرق الأوسط التي عانت بسبب موجات اللاجئين والهجمات الإرهابية السابقة المرتبطة بسوريا لها مصلحة مباشرة في استقرار الدولة الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط ذات الموقع الاستراتيجي.
يقول فضل عبد الغني، مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي حققت في الفظائع وجمعت البيانات المتعلقة بالحرب الأهلية التي دامت 13 عاماً ونصف العام في البلاد: “ملف المفقودين ملف ضخم ينطوي على العديد من العوامل والمتغيرات”.
يعد تحديد العدد الدقيق للأشخاص الذين اختفوا أمرًا صعبًا، على الرغم من أن أحد التقديرات الأخيرة للجنة الدولية المعنية بالمفقودين قدرت العدد بحوالي 150,000 شخص.
وقد قدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أن هناك ما لا يقل عن 160 ألف شخص اعتقلوا واختفوا قسراً منذ مارس/آذار 2011 وحتى أغسطس/آب الماضي، عندما سحق الأسد الاحتجاجات السلمية ضده وأطلق حربًا متعددة المستويات شاركت فيها جهات داخلية وخارجية.
ومع ذلك؛ لم يعانوا جميعهم على يد نظام الأسد، فقد اختطف 87 بالمئة من هؤلاء الأشخاص على يد الحكومة والبقية على يد أطراف أخرى متحاربة، ومن بينهم هيئة تحرير الشام التابعة لتنظيم القاعدة سابقًا، والتي قادت الإطاحة بالأسد واستولت على السلطة في دمشق، ويقدر عبد الغني أنه تم تحرير 31,000 شخص منذ أن بدأ الثوار هجومهم الخاطف الشهر الماضي.
سيكون العدد الإجمالي للمحتجزين والمفقودين أعلى في نهاية المطاف مع بدء اكتشاف المزيد من السجون المؤقتة والمقابر الجماعية.
يُعتقد أن النظام كان في بداية النزاع يقوم بشكل منهجي بإلقاء جثث أولئك الذين تم شنقهم في السجن، والذين تم تعذيبهم حتى الموت، والذين تم إعدامهم خلال الغارات على مناطق المعارضة، وكذلك الجنود الذين عصوا الأوامر، في مقبرة نجها على الطريق المؤدي إلى مطار دمشق.
غير أن جمعية المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا وآخرين استخدموا صور الأقمار الصناعية لتوثيق التوسع السريع لموقعين آخرين شمال العاصمة.
وقال دياب سرية، المؤسس المشارك للجمعية والمعتقل السابق في سجن صيدنايا نفسه: “ريف دمشق هو عملياً مقبرة جماعية كبيرة”، ويشعر سرية، المقيم في تركيا ولديه فريق عمل على الأرض في سوريا، بالقلق من احتمال ضياع بعض الأدلة وسط الفوضى مع بحث الناس عن أقاربهم وأصدقائهم.
وقد تابعت فدوى محمود وهي جالسة في شقتها في برلين المشاهد من صيدنايا وهي في حالة صدمة؛ فقد كانت تبحث عن ابنها ماهر وزوجها عبد العزيز الخير.
كان عبد العزيز الخير معارضًا قديمًا لآل الأسد، وقد سجنه حافظ في التسعينيات، وأفرج عنه بشار في عام 2005، ثم أعيد اعتقاله في عام 2012، وقد تم اعتقاله وابنه ورفيق ثالث لهما لدى وصولهما إلى مطار دمشق بعد زيارة لبكين، وانقطعت أخبارهما منذ ذلك الحين.
وقالت فدوى: “هذه القضية تهم كل سوري، إنها في صميم الحقيقة والعدالة التي نتوق إليها جميعًا”
بعد اقتحام صيدنايا، توجهت أمية خنشو، وهي ناشطة معارضة ومنظمة احتجاجات من مدينة دوما قرب دمشق، إلى المساجد التي اقتيد إليها المعتقلون المحررون ومشارح المستشفيات التي أودع فيها القتلى بحثاً عن “أصدقاء الثورة”.
وقد تم اعتقالهم جميعًا في السنوات الأولى للثورة، وأُطلق سراحهم فيما بعد، لكنهم اختفوا، وتقول أمية، البالغة من العمر 51 عامًا: “لقد ماتوا بالتأكيد لأن النظام كان حاقدًا على دوما بشكل خاص، لكن الناس لا زالوا يريدون الحصول على خاتمة”.
في التلال المحيطة بمدينة اللاذقية الساحلية، يقول الموظف المدني مالك سليم إنه يشعر بسعادة غامرة لرؤية النظام وقد سقط بعد أن عارضه سراً لعقود، ولأنه علوي مثل آل الأسد، فإنه وأمثاله من العلويين كانوا يخشون العقاب الآن لأن الأجهزة الأمنية كانت تتآلف إلى حد كبير من أفراد من نفس الطائفة الدينية.
فقد سليم شقيقه وابن أخيه عندما شنّ مسلحون إسلاميون من بينهم جبهة النصرة، سلف هيئة تحرير الشام، هجومًا في قريته وقرى أخرى مجاورة في أغسطس/آب 2013، ولا يزال العديد من حوالي 200 قتيل وأكثر من 100 مختطف في ذلك الوقت في عداد المفقودين حتى يومنا هذا. وقال سليم: “نحن نتألم أيضًا”.
المصدر: بلومبيرغ