في مارس/آذار من هذا العام، التقى العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين بأعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في واشنطن، بكل المقاييس كان الاجتماع المغلق مع العاهل الأردني، وهو حليف قوي للولايات المتحدة، بمثابة رحلة وعرة إلى حد ما.
حينها ذكرت وسائل الإعلام الأمريكية أن الملك عبد الله بدا متشائمًا بشأن احتمالات خطة السلام في الشرق الأوسط أو ما باتت تُعرف بـ”صفقة القرن”، وعبَّر عن إحباطه العميق من عدم إطلاعه على أي تفاصيل عن القضايا السياسية الأشد خطورة المتعلقة بـ”الصفقة النهائية” التي لدى الأردن اهتمام كبير بها، ومن المفترض أن تؤمن السلام بين “إسرائيل” والفلسطينيين.
في المقابل، يحتفظ جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكبير مهندسي الصفقة، بأوراق الصفقة بالقرب من صدره – كما يظهر في اللقاءات الرسمية – مع حفنة فقط من الناس الذين اطلعوا على الجانب السياسي من الخطة، ويقول البعض إن ما لا يقل عن 6 أشخاص فقط يعرفون ماذا تتضمن الخطة بالفعل، مما يجعلها واحدة من أسرار قليلة تمكن البيت الأبيض من الاحتفاظ بها.
عدا ذلك، في المناسبات النادرة التي تحدث فيها كوشنر علنًا عن الصفقة، كما فعل في أوائل مايو/أيار الحاليّ خلال حديثه أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الأسبوع، أكد حينها الفوائد الاقتصادية وأشاد بها باعتبارها “خطة عمل جيدة جدًا”، لكن بشكل حاسم، كشف النقاب عن نقطة أخرى محبطة حين أشار إلى أن خطته لن تأتي على ذكر حل الدولتين أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما أكده كوشنر بقوله: “إن قلتم “دولتين”، فهذا يعني شيئًا للإسرائيليين، وشيئًا آخر للفلسطينيين”، وتابع “قلنا: أتعلمون، دعونا لا نقول ذلك”.
اختبار الأسلحة الاقتصادية للضغط على ملك الأردن
وسط هذه الأجواء التي يكتنفها الغموض، يبدو أن الملك عبد الله الذي يعيش على أرضه ما يقرب من مليوني لاجئ فلسطيني، لم يُمنح أي فرصة للمساهمة في صفقة كوشنر أو التأثير عليها، ويؤكد ذلك ما قاله مسؤول أردني لموقع “أكسيوس“ الإخباري: “عندما سُئل الملك عن الخطة خلال الاجتماع قال إنه لم يرها، وبالتالي لا يمكنه التعليق، كما يعتقد (الملك عبد الله) أن الخطة الاقتصادية دون خطة سياسية ليست كافية”.
وراء هذا التصريح المقتضب والمضطرب يكمن قدر كبير من القلق، إذ يتم دفع الأردن نحو قبول “صفقة كارثية” من شأنها إعطاء الإسرائيليين كل ما يريدونه تقريبًا في مقابل جزء كبير من المساعدات الاقتصادية التي من المفترض أن تقدمها المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، وقد سبق أن أشار البيت الأبيض إلى ذلك بسعيه للحصول على عشرات المليارات من الدولارات.
الملك عبد الله لم يتبق أمامه سوى مجال ضئيل للغاية لمواجهة الضغوط التي يتعرض لها شخصيًا، إضافة إلى تلك التي تمارس على بلاده، بسبب موقفه من القدس ورفضه تصفية القضية الفلسطينية
في هذه العملية سيتم شطب الفلسطينيين وأنصارهم الإقليميين من خلال وعد بمستقبل اقتصادي مشرق لبعض الدول ومنها الأردن، وهو ما جاء منذ أيام قليلة عبر إعلان كوشنر عقد “ورشة عمل” اقتصادية في البحرين الشهر المقبل، لإنتاج إستراتيجيات للاستثمار في الفلسطينيين والعرب الآخرين، في حين تذكر صحيفة “نيويورك تايمز” أنه قيل للدبلوماسيين والمشرعين إن الهدف هو الحصول على نحو 68 مليار دولار للفلسطينيين ومصر والأردن ولبنان.
مثل الفلسطينيين – الذين عليهم أن يقبلوا بـ”صفقة القرن” أو يكفّوا عن الشكوى كما قال ذلك ولي العهد محمد بن سلمان – فإن الملك عبد الله لم يتبق أمامه سوى مجال ضئيل للغاية لمواجهة الضغوط التي يتعرض لها شخصيًا، إضافة إلى تلك التي تمارس على بلاده، بسبب موقفه من القدس ورفضه تصفية القضية الفلسطينية.
وتبدو هذه الضغوط أكثر وضوحًا من الناحية الاقتصادية، فالاقتصاد الأردني – الذي تأثر بارتفاع أسعار السلع العالمية – يبدو قريبًا من نقطة الانهيار، إذ يبلغ الدين العام 28.3 مليار دينار (39.9 مليار دولار)، أي ما يعادل تقريبًا الناتج الاقتصادي للبلاد، كما تسبب الحروب الإقليمية في خسائر للاقتصاد، مع ارتفاع البطالة إلى أعلى مستوياتها منذ عقدين من الزمان، وهو ما اُضطر الأردن مؤخرًا إلى طلب مليار دولار قرض من البنك الدولي لخفض عبء الديون وإحياء اقتصاد يعاني من أكثر من مليون لاجئ سوري.
الملك عبد الله خلال استقباله مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر في عمان في 22 من أغسطس 2017
في الصيف الماضي، وفي الوقت الذي شهد فيه الأردن موجة من الاحتجاجات هي الأكبر منذ الربيع العربي بسبب خطط زيادة ضريبة الدخل، تعهدت المملكة العربية السعودية ودولتان من دول الخليج الحليفة بتقديم حزمة مساعدات أقل من التوقعات، وقاد السعوديون جهود إنقاذ بقيمة 2.5 مليار دولار، في حين التزمت الولايات المتحدة العام الماضي بمنح الأردن أكثر من 6 مليارات دولار كمساعدات على مدى 5 سنوات (ابتداءً من العام المالي 2018 وحتى العام المالي 2022)، أي ما يزيد على مليار دولار سنويًا.
بفضل هذا الدعم السخي، تمكن الملك عبد الله من عكس الزيادة المخطط لها والحفاظ على استقرار الوضع مؤقتًا، لكنه لم يفوت الرسالة بأن السعودية لديها اليد الطولى التي تقدم الدعم السخي سعيًا وراء مصالح أكبر، فمن مصلحة السعوديين ألا يروا الأردن يزعزع الاستقرار بسبب خروج المتظاهرين إلى الشوارع، ولعل آخر شيء يريدون رؤيته هو خلع ملك وراثي يشبههم.
على الرغم من أن كوشنر يبدو حذرًا في الإفصاح عن تفاصيل خطته، فمن الصعب عدم رؤية مشروع تحلية المياه كجزء من الحزمة الاقتصادية المقدمة إلى الأردن
قبل ذلك، اختبر السعوديون مدى قوة هذا السلاح في الضغط على ملك الأردن، فقد أظهر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، المقرب جدًا من كوشنر، أنه قادر على إيقاف وقف برنامج المساعدات الخليجية للمملكة الهاشمية في أسرع وقت ممكن، وفي عام 2017، قرر السعوديون الذين انزعجوا من دعم الملك عبد الله المستمر لدولة فلسطينية وفشله في حظر الإخوان المسلمين وقطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر، فجأة عدم تجديد حزمة المساعدات الخليجية، وهو ما لعب دورًا حاسمًا في تهيئة الظروف لاندلاع الاحتجاجات في الأردن، وقد تم تشغيلها مرة أخرى في العام الماضي فقط عندما ذهب الملك عبد الله إلى الرياض.
أزمة المياه الحادة في مواجهة إغراءات “صفقة القرن”
ثمة نقطة ضغط أخرى قد تدفع الأردن لقبول “صفقة القرن”، وهي أزمة المياه الحادة باعتبارها واحدة من أسوأ الأزمات في العالم، فعشرة من طبقات المياه الجوفية في البلاد البالغ عددها 12 طبقة قد استنفدت بشكل كبير، بالإضافة إلى تراجع منسوب مياه نهر الأردن والبحر الميت، ومن المحتمل أن يزداد نقص المياه في الأردن خلال السنوات المقبلة، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها جامعة ستانفورد.
وتتفاقم هذه الأزمة مع زيادة تدفق اللاجئين من سوريا الذين يزيدون من الاستهلاك وتفاقم الوضع، فقد تم توطين معظم اللاجئين السوريين البالغ عددهم مليون لاجئ في المخيمات والمناطق الريفية الفقيرة في شمال البلاد حيث ندرة المياه هي الأشد قسوة.
أزمة المياه الحادة في الأردن واحدة من أسوأ الأزمات في العالم
وفي البحث اليائس عن المياه الصالحة للشرب، يجري حفر آبار غير قانونية عميقة مما يزيد من نفاد طبقات المياه الجوفية وتهدد البنى التحتية والسياحة في المنطقة، ومع الاحترار العالمي والارتفاع المستمر في درجات الحرارة من المتوقع أن يزداد نقص المياه سوءًا.
في هذا الشأن، كان أحد الحلول لدى “إسرائيل”، عن طريق مشروع قناة البحر الميت، ويسمى أيضًا “قناة البحرين”، وهو مشروع أردني فلسطيني إسرائيلي يجري بموجبه بناء قناة تنقل المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت، ويتصور المشروع تحلية مياه البحر الأحمر في ميناء العقبة الأردني لخلق مياه عذبة مع ضخ المياه المالحة في البحر الميت لإبطاء انكماشه.
لكن المشروع يحتاج إلى مبالغ باهظة تتخطى حاجز المليار دولار، وذكر تقرير نشرته وكالة” بلومبرج الأمريكية أن الإسرائيليين عرضوا دفع ثمنه، في حين ذكرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أن “إسرائيل” ستدفع ما لا يقل عن مليار دولار للمشروع، وهو أمر غير حيوي لاقتصادها المائي، لكن لضمان مصلحة إستراتيجية في الحفاظ على نظام مستقر في الأردن.
مثل السعوديين، يرى الإسرائيليون فائدة في استقرار الأردن، على الرغم من ذلك، يمكن دائمًا سحب العرض، وعلى الرغم من أن كوشنر يبدو حذرًا في الإفصاح عن تفاصيل خطته، فمن الصعب عدم رؤية مشروع تحلية المياه كجزء من الحزمة الاقتصادية المقدمة إلى الأردن.
ملك الأردن وحيدًا أمام كوشنر وحلفائه
لا يمكن فصل ما سبق استعراضه من محاولات كوشنر وحلفائه عن أنباء أوردتها صحيفة “القدس” العام الماضي نقلاً عن مصادر مطلعة قالت إن دولتين عربيتين تمارسان ضغوطًا على الرئيس الفلسطيني والعاهل الأردني لتغيير موقفيهما وإقناعهما بالانخراط في “صفقة القرن”، مشيرة إلى تحركات تقوم بها عاصمة إحدى الدولتين اللتين تحفظت على ذكرهما لثني الرئيس عباس والملك عبد الله عن رفضهما للخطة الأمريكية التي يرى فيها الفلسطينيون تصفية لقضيتهم.
ووفقًا للمصادر فإن جاريد كوشنر أجرى حينها زيارة سرية إلى عاصمة عربية بحث خلالها موقفي الرئيس الفلسطيني والملك الأردني وطلب منه الضغط عليهما وهو ما باشرته تلك العاصمة.
الإدانة والتنديد قد يعزلان الملك عبد الله عن شريان الحياة المالي الذي يعرضه السعوديون والإسرائيليون للمساعدة في إدارة الأزمة الاقتصادية الحادة
هذه الضغوط الاقتصادية التي تُقدم الآن على أنها حلول لأزمات الأردن الاقتصادية والمائية تجعل صهر الرئيس الأمريكي يعتقد أنه وضع الملك عبد الله في “كماشة اقتصادية” مع الإسرائيليين من جهة والسعوديين من جهة أخرى، فهو يعلم أنه يحتاج إلى الحصول على دعم الملك، ويبدو أنه يحسب بهذا النوع من الضغط أنه سيحصل عليه.
ومع ذلك، حتى الخبراء والدبلوماسيين الذين يؤيدون الجانب الإسرائيلي أو يعارضوه يجادلون بأن الخطة لا بد أن تفشل ويمكن أن تؤدي إلى ارتفاع كبير في العنف، ورغم أن نتنياهو بكل بساطة يواصل إحكام قبضته على الضفة الغربية والقدس الشرقية، فإنه “يعلم أن الأمريكيين لن يقفوا في طريقه”، كما يقول ميشال فارشوفسكي، وهو محلل إسرائيلي ومدير مركز القدس للإعلام البديل.
العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يتحدث إلى الرئيس دونالد ترامب خلال زيارته للبيت الأبيض في يونيو 2018
وبالنسبة للملك عبد الله، يبدو هذا خيارًا مستحيلاً، فالفلسطينيون في الأردن (اللاجئون وأولئك الذين يحملون الجنسية) سيطالبونه باتخاذ موقف قوي ضد الصفقة، لكن الإدانة والتنديد قد يعزلان الملك عبد الله عن شريان الحياة المالي الذي يعرضه السعوديون والإسرائيليون للمساعدة في إدارة الأزمة الاقتصادية الحادة.
وفي الوقت نفسه، يواجه الملك ضغوطًا للتنازل عن وصاية الأردن على المسجد الأقصى إلى السعودية التي لديها نوايا دفينة في نزع الوصاية الهاشمية عن الأقصى لتحقيق مكاسب سياسية في إستراتيجيتها بتوثيق العلاقات مع “إسرائيل”.
مثل هذه الخطوة من شأنها أن تدمر الشرعية المتبقية التي لا يزال الملك عبد الله والسلالة الهاشمية يمثلها، خاصة أن العرش الذي يجلس عليه يقع على أرضية مهزوزة، فهل سيذعن الأردن وملكه في النهاية للضغوط المستمرة عليه؟