ترجمة وتحرير: نون بوست
مع توغّل قوات إسرائيلية في عمق الأراضي السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، عاد مصطلح “إسرائيل الكبرى” إلى الظهور في التغطيات الإعلامية، واستُخدم المصطلح في الأيام الأخيرة لوصف التوسع العسكري الإسرائيلي خارج حدودها المعترف بها حاليًا، وهو تعريف متغيّر لحدود الدولة الإسرائيلية، وغالبًا ما يحاكي الخرائط المستخدمة وفق الرؤية التوراتية التي يعتبرها الكثير من الصهاينة واقعا تاريخيا. لكن ما هي فكرة “إسرائيل الكبرى”؟ وهل هناك حقًا مشروع إسرائيلي من هذا القبيل؟ وما مدى إمكانية تحقيقه على أرض الواقع؟
رغم أن أحلام التوسع الإقليمي لليمين الصهيوني بدت ذات يوم مجرد أوهام استعمارية، إلا أن الأحداث الحالية في غزة ولبنان وسوريا، تُظهر أن آمال اليمين الإسرائيلي المتطرف الصاعد بقوة قد تكون أقرب إلى التحقق مما كان يعتقده الكثيرون.
ما هي “إسرائيل الكبرى”؟
يشير مصطلح “إسرائيل الكبرى” إلى فكرة قيام دولة يهودية تتوسع في أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط تجسيدا لما يصفه الكتاب المقدس بأرض بني إسرائيل القديمة، أو مملكة بني إسرائيل، أو الأرض التي وعد الله بها إبراهيم ونسله، وهناك ثلاث نسخ على الأقل من “إسرائيل الكبرى” في الكتاب المقدس.
في سِفر التكوين، وعد الله إبراهيم وذريته بالأرض “من نهر مصر إلى الفرات”، وفي سِفر التثنية أمر الله موسى أن يقود الشعب العبراني للاستيلاء على الأرض التي تشمل كل فلسطين وكل لبنان وأجزاء من الأردن وسوريا ومصر، ويصف سِفر صموئيل “المملكة الموحدة” التي أنشأها الملك شاول في التوراة، ثم وسعها الملك داود لتشمل فلسطين دون صحراء النقب، وكامل لبنان، وأجزاء من الأردن وسوريا.
بعد أن قامت بريطانيا وفرنسا بتقسيم بلاد الشام إلى مناطق نفوذ، وبعد إقامة إمارة عربية في الأردن، وهي المملكة الأردنية الهاشمية اليوم، حدد التيار الصهيوني المهيمن آنذاك مشروعه لإقامة دولة يهودية ضمن حدود فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني، إلا أن الزعيم والمنظّر الصهيوني زئيف جابوتنسكي، الذي أسس “التيار التحريفي” داخل الصهيونية، عارض الخطة وشدد على أن المشروع الصهيوني يجب أن يشمل الأردن، ثم أسس عصابة “إرغون” شبه العسكرية التي أصبحت فيما بعد مسؤولة عن العديد من الفظائع التي ارتُكبت خلال نكبة 1948، والتي كان شعارها يتضمن خريطة فلسطين والأردن مع نقش “أرض إسرائيل”، وأصبح ذلك التصور هو المفهوم السياسي الحديث لـ”إسرائيل الكبرى”.
“إسرائيل الكبرى” في السياسة الإسرائيلية
بعد إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، أفسحت المناقشات النظرية المجال للبرغماتية السياسية، ولم تُدرج إسرائيل قط “إسرائيل الكبرى” في خطابها الرسمي، ولم تدّعِ رسميًا الحق في احتلال الأراضي العربية الواقعة خارج حدود عام 1948، حتى بعد احتلالها للضفة الغربية وغزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان السورية عام 1967، وأصرت على أنها “أراضٍ خاضعة لإدارتها” لأسباب أمنية، قبل أن تضم الجزء الشرقي من القدس والجولان في أوائل الثمانينيات.
ولكن بما أن إسرائيل لم تحدد حدودها أبدًا، فقد بقيت فكرة “إسرائيل الكبرى” راسخة في مخيلة اليمينيين المتدينين كأسطورة تأسيسية أخذها بعض المتطرفين على محمل الجد، وبدأ الجناح اليميني الديني يزداد قوة بعد عام 1967، ولا سيما في السبعينيات والثمانينيات. ومن الأفكار التي اكتسبت زخمًا في تلك الفترة ، أطروحات التيار المسيحاني الذي يرى في توسع إسرائيل خارج حدودها جزءًا من نبوءات آخر الزمان ونزول مخلص اليهود، وقد قادت هذه الحركة الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، وغالبًا ما كانت ترسم الخطط التي ستتبناها الدولة الإسرائيلية لاحقًا.
عاد مصطلح “إسرائيل الكبرى” إلى الظهور في وسائل الإعلام خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، عندما توغلت القوات الإسرائيلية في عمق الأراضي اللبنانية وراء نهر الليطاني، والذي يعتبر في إحدى الروايات التوراتية الحد الشمالي لـ”إسرائيل الكبرى”.
لم يكن من قبيل المصادفة أن تبرز “إسرائيل الكبرى” في تلك الفترة؛ فقد كان يقود إسرائيل حينها زعيم “إرغون” السابق، مناحيم بيغن، المعروف بآرائه المتطرفة، وعندما انسحبت إسرائيل من لبنان عام 2000، أعلن زعيم حزب الله حسن نصر الله في خطابه الشهير في بنت جبيل أن “مشروع إسرائيل الكبرى قد انتهى”.
عاد المصطلح إلى الخطاب السياسي من خلال اليمين الديني المتطرف الذي يقود حركة الاستيطان، والذي انتُخب العديد من رموزه في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأشهرهم بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل الآن منصب وزير المالية، ويتمتع بصلاحيات غير مسبوقة في سياسة الاستيطان في الضفة الغربية.
وقال سموتريتش في مقابلة قديمة ظهرت في فيلم وثائقي لقناة “آرتي” الفرنسية الألمانية، إنه يحلم بـ”إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات”، وتشمل العاصمة السورية دمشق. وفي مارس/ آذار 2023، أثار سموتريتش الجدل بإلقائه خطابًا أمام مجموعة من النشطاء المؤيدين لإسرائيل في باريس على منصة ظهرت عليها خريطة “إسرائيل الكبرى” التي رسمها جابوتنسكي، والتي تشمل فلسطين والأردن.
ومع تزايد دعوات الصهاينة المتدينين لضم الضفة الغربية، بدأ المصطلح يُستخدم كاختزال لرؤية إسرائيل الممتدة على كامل فلسطين التاريخية، وأصبح مرادفًا لرفض قيام دولة فلسطينية، وقد تعززت هذه النسخة من إسرائيل الكبرى بإقرار قانون الدولة القومية الذي أقرته إسرائيل في 2018، وقرار الكنيست في فبراير/ شباط الماضي برفض إقامة دولة فلسطينية في أي مكان بين النهر والبحر.
الأطماع الإقليمية في غزة ولبنان وسوريا
بثت الإبادة الجماعية في غزة، والأحداث في كل أنحاء المنطقة، روحا جديدة في فكرة “إسرائيل الكبرى”.
فمنذ بداية الإبادة الجماعية الحالية، تزايدت دعوات اليمين الديني المتطرف، ومعظمها من حركة المستوطنين في الضفة الغربية، لإقامة مستوطنات إسرائيلية في قطاع غزة، وقد حظيت هذه الدعوات بدعم وزراء وأعضاء في الكنيست.
وفي يناير/ كانون الثاني، عقدت المنظمات الاستيطانية مؤتمرًا في القدس للدعوة إلى استيطان غزة، حضره وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير وألقى فيه خطابا. وفي أكتوبر/ تشرين الأول، احتشد مئات الإسرائيليين بالقرب من حدود غزة للدعوة إلى الاستيطان في القطاع، وحضر بن غفير وسموتريتش وسياسيون إسرائيليون آخرون وألقوا خطابات في هذا الحشد.
تحاصر إسرائيل شمال قطاع غزة منذ 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتجبر السكان على مغادرته، وهي المنطقة التي تأمل الحركة الاستيطانية في أن تقيم فيها مستوطناتها. وكان وزير الحرب الإسرائيلي السابق موشيه يعلون قد اعترف في وقت سابق من هذا الشهر أن إسرائيل ترتكب تطهيرًا عرقيًا في شمال غزة، مما أثار ردود فعل عنيفة في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
في الواقع، بدا أن التطبيق العملي لفكرة “إسرائيل الكبرى” يجري على قدم وساق من خلال الدعوات إلى استيطان غزة والجهود الرامية إلى ضم الضفة الغربية، ومنع إقامة دولة فلسطينية. لكن التطورات المتسارعة في لبنان وسوريا خلال الأشهر الأخيرة أحيت أوهام النسخة المتطرفة من “إسرائيل الكبرى”.
أدت مطالب إسرائيل بإقامة منطقة عازلة داخل لبنان، إلى جانب اجتياحها للأراضي السورية بعد انهيار نظام بشار الأسد، إلى توسيع الخريطة. ومع وصول القوات الإسرائيلية إلى مسافة تصل إلى 23 كيلومترًا من دمشق، بدأ اليمين الديني المتطرف يروج مجددا الخطاب التوراتي لوصف أطماعه الإقليمية.
ففي يونيو/ حزيران، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية اليومية خبرًا عن مؤلف كتب أطفال إسرائيلي، كتب قصة عن طفل إسرائيلي يدعى ألون يريد الذهاب إلى لبنان، قائلًا إن “لبنان لنا”، وأنه لا يستطيع الذهاب إلى لبنان لأن “العدو لا يزال هناك”. ويوم الخميس الماضي، ذهبت مجموعة من المتدينين الأرثوذكس الإسرائيليين إلى قمة جبل الشيخ في سوريا، والذي احتله الجيش الإسرائيلي مؤخرًا، وأقاموا احتفالًا دينيًا هناك تحت أنظار الجنود الإسرائيليين.
تصر إسرائيل على أن عملياتها في سوريا مؤقتة، وأنها تهدف إلى منع فصائل المعارضة من ملء الفراغ الذي نتج عن انهيار الجيش السوري في جنوب سوريا. وكرر كل من مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، الرواية الإسرائيلية، وأكدا أن الولايات المتحدة ستحرص على ألا يصبح الوجود الإسرائيلي في سوريا دائمًا.
لكن احتلال إسرائيل للضفة الغربية ومرتفعات الجولان عام 1967 قيل أيضًا إنه مؤقت، وأدارت إسرائيل الأراضي التي احتلتها عام 1967 من خلال الجيش الإسرائيلي وهيئة “الإدارة المدنية”، ودخلت في مفاوضات مع سوريا ومصر والقيادة الفلسطينية على أساس أنها ستعيد هذه الأراضي.
لم تنسحب إسرائيل من سيناء المصرية إلا بشرط نصت عليه معاهدة كامب ديفيد للسلام مع مصر عام 1979، وهو أن تبقى سيناء منزوعة السلاح، مع عدم وجود الجيش المصري في المنطقة، باستثناء الحد الأدنى من القوات على الحدود، وأن تبقى مفتوحة للاستثمار الإسرائيلي. كما انسحبت إسرائيل من قطاع غزة عام 2005، لتعود وتفرض عليه حصارًا شاملًا، وهي تقوم حاليًا بطرد الفلسطينيين من شمال القطاع، بينما يطالب المستوطنون بإقامة مستوطنات هناك. وضمت إسرائيل مرتفعات الجولان والجزء الشرقي من القدس عام 1981، وتستعد حاليًا للإعلان عن ضم الضفة الغربية.
في ظل هذه الوقائع التاريخية، ومع صعود النزعة القومية الدينية في إسرائيل، وممارسات إسرائيل في غزة ولبنان وسوريا دون رادع خلال العام الماضي، وتوغلها الحالي في سوريا، هل يمكن لأحد أن “إسرائيل الكبرى” مجرد خيال في أذهان القادة الإسرائيليين؟ على العكس تمامًا، يبدو أن الأيديولوجية التوسعية الاستعلائية التي يغذيها التعصب الديني، والتي تشق طريقها حاليًا فوق جثث الأبرياء وأنقاض مدن بأكملها، ليست مجرد ذكرى مقيتة من الماضي الاستعماري.
المصدر: موندويس