بعد أشهر على تسمم ونفوق ملايين الأسماك في أحواض التربية في وسط وجنوب البلاد، وعقب حادثة تلف محصول الطماطم في البصرة إثر تسمم غامض قبل أشهر أيضًا، التهمت حرائق مهولة مجهولة، حقول القمح والشعير، لتقصم العمود الفقري للزراعة في بلاد الرفدين.
حرائق أتت حتى الآن على قرابة الألفي دونم، ما يطرح كثيرًا من الأسئلة عن أسباب هذه الحرائق وتزامنها والجهات المحلية والإقليمية التي قد تكون مستفيدة منها.
في الأسطر التالية، تحكي “نون بوست” القصة الكاملة عما يجري لحقول الحنطة والشعير في البلاد.
حرائق متزامنة تلتهم مساحات شاسعة
على نحو متزامن لم يسبق له مثيل؛ تعرضت مئات المزارع في محافظات عراقية مختلفة إلى حرائق كبيرة مجهولة الفاعل، في الوقت الذي اتهم فيه نواب ومحللون جهات داخلية وخارجية بالوقوف وراء هذه الحرائق من أجل ضرب الاقتصاد الوطني ومنع تحقيق الاكتفاء الذاتي للمحصولين، وذلك بعد وقت قصير من إعلان رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي تحقيقه.
وتؤكد وزارة الزراعة العراقية أن الحرائق التي اندلعت في حقول الحنطة والشعير “ممنهجة” وتستهدف ثروة البلاد الزراعية، فيما التحقيقات مستمرة لكشف الجهات التي تسببت بتلك الحرائق، بحسب المتحدث باسم وزارة الزراعة حميد النايف.
ما زالت أسباب الحرائق في حقول القمح والشعير مجهولة رسميًا، ولكن العديد من المزارعين يشيرون إلى أنها تمت بفعل فاعل
ويضيف النايف في حديث خص به “نون بوست” أن مساحة الأراضي التي تعرضت للحرق بلغت قرابة الـ4 آلاف دونم حتى الآن من أصل 12 مليون دونم إجمالي مساحة حقول القمح في العراق، مشيرًا إلى أن كميات القمح التي من المتوقع حصادها هذا الموسم تصل إلى 5 ملايين طن تزيد أو تنقص تبعًا للحالة الأمنية، لافتًا إلى أن محافظات صلاح الدين ونينوى وديالى وكركوك والأنبار والنجف شهدت عمليات الحرق.
وأكد النايف أنه مهما كانت الأسباب شخصية أو ثأرية أو إهمال أو تعمد، فإنها تصب مجتمعة في خانة الجريمة المنظمة لتزامنها وفق أطر ممنهجة ولا تخلو من صفة “الإرهاب” على حد تعبيره.
من جهته، وفي تغريدة عبر حسابه الرسمي على تويتر، قال النائب في البرلمان العراقي محمد الكربولي إن إحراق النار المتعمد في حقول القمح والشعير رسالة واضحة “أنكم يا عراقيين مستهدفون في أرضكم وسمائكم ومائكم ومستقبل أجيالكم”.
#نيران_تحرق_حقول_العراق pic.twitter.com/lKYmSwmtBl
— محمد الكربولي (@mohamdalkarboli) May 19, 2019
وكان الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية قد دعا رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي إلى التدخل لوقف الحرائق وإجراء تحقيق لمعرفة الجناة وتعويض المزارعين، وأكد رئيس الاتحاد حسن التميمي في بيان أن الحرائق المتعمدة أتت لافتعال أزمة اقتصادية وزعزعة الأمن الغذائي العراقي، بعد أن بات العراق على مقربة من تحقيق الاكتفاء الذاتي، لافتًا إلى أن محافظة صلاح الدين كانت الأكثر تضررًا، في ظل عدم توافر أي إحصاءات رسمية عن الأرقام النهائية للخسائر المادية التي تسببت بها الحرائق.
أجهزة إحداث شرارات
ما زالت أسباب الحرائق في حقول القمح والشعير مجهولة رسميًا، لكن العديد من المزارعين يشيرون إلى أنها تمت بفعل فاعل. المزارع حمد الجبوري من محافظة صلاح الدين تحدث لـ”نون بوست” قائلاً: “احترقت مئات الدونمات من محصولي القمح والشعير، ووجد بعض الفلاحين دلائل أن الحرائق تمت بفعل فاعل، إذ عثر على مخلفات أجهزة إحداث شرارات يتم التحكم بها من خلال أجهزة الموبايل عبر الاتصال بها”.
وعن كيفية حماية المزارعين لحقولهم، كشف الجبوري أن إرشادات وزارة الزراعة فيما يخص تسيير دوريات أهلية في الحقول لأجل حمايتها مثيرة للسخرية، إذ كيف يمكن لمزارع أن يحمي مزرعة مساحتها 300 دونم دون أن يكون لديه أي وسائل حماية.
كانت إيران قد أعلنت قبل عام من الآن مفاوضات مع روسيا بهدف استيراد القمح الروسي بكميات كبيرة لطحنه وتصديره إلى العراق
ورأى الجبوري أن جهات إقليمية مستفيدة من تدمير الثروة الزراعية في البلاد، وعلى رأسها الدول المصدرة للدقيق إلى العراق، في إشارة إلى إيران التي بدأت تصدير الدقيق الأبيض إلى العراق العام الماضي.
وكانت إيران قد أعلنت قبل عام من الآن مفاوضات مع روسيا بهدف استيراد القمح الروسي بكميات كبيرة لطحنه وتصديره إلى العراق، إذ يصل استهلاك العراق سنويًا إلى 2.5 مليون طن من القمح.
وبحسب تقرير لصحيفة الحياة اللندنية نشر في يونيو/حزيران 2018، فإن تكلفة استيراد العراق للدقيق الأبيض يكلف العراق قرابة 1.2 مليار دولار، إذ اتهم نواب في البرلمان العراقي جهات دولية بالهيمنة على سوق الدقيق الأبيض في البلاد، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة بسبب عدم السماح للمطاحن العراقية الخاصة باستيراد القمح الروسي مباشرة وطحنه محليًا، الذي إن حصل فإنه سيحد من استيراد الدقيق إلى نحو ربع ما هو عليه الآن.
محمد الناصر صاحب مطحنة للقمح والشعير في مدينة الموصل، قال في حديثه لـ”نون بوست”: “إننا نعمل ما بين 3 إلى 4 أيام في الشهر، وعملنا محدود لصالح وزارة التجارة التي تزودنا بالقمح الذي نطحنه ثم يوزع على المواطنين ضمن مفردات البطاقة التموينية التي تزود الحكومة العراقية من خلالها المواطنين بمجموعة من المواد الغذائية الأساسية شهريًا”.
أوضح الخبير الزراعي كرم مظفر في حديثه لـ”نون بوست” أن ملفات الفساد في العراق التهمت البلاد بشكل لا يتخيله أحد، ومن ضمن هذه الملفات ملف المواد الغذائية والتصنيع المحلي
وأضاف الناصر أن لوائح وزارة التجارة تمنع المطاحن الخاصة من استيراد القمح الروسي وطحنه محليًا لأجل توفير الدقيق الأبيض عالي الجودة الذي يشهد طلبًا متزايدًا في الأسواق المحلية، لافتًا إلى أن المطاحن العراقية عاطلة عن العمل في الوقت الذي تسارع فيه دول الجوار كتركيا وإيران من أجل تشغيل مطاحنها على حساب العراق.
أوضح الخبير الزراعي كرم مظفر في حديثه لـ”نون بوست” أن ملفات الفساد في العراق التهمت البلاد بشكل لا يتخيله أحد، ومن ضمن هذه الملفات ملف المواد الغذائية والتصنيع المحلي وعدم السماح للمطاحن الخاصة في البلاد بالإنتاج اعتمادًا على القمح الأجنبي.
وأوضح مظفر أن عدد المطاحن الخاصة في العراق يبلغ 241 مطحنة موزعة في مختلف المحافظات العراقية، فيما يبلغ عدد المطاحن الحكومية 12 مطحنة فقط، لافتًا إلى أنه وفي حال سمحت وزارة التجارة لأصحاب المطاحن بالعمل في القمح الأجنبي، فإن ذلك سيوفر على العراق الاستيراد من كل من تركيا وإيران.
وفي ختام حديثه أشار مظفر إلى أن تركيا مثلاً بنت أكثر من 3 مطاحن في مدن حدودية قريبة من العراق، إذ تستورد هذه المطاحن القمح الروسي في غير موسمه بمبلغ 100 دولار للطن، وبعد طحنه وتحويله إلى دقيق، يباع الطن للعراق بمبلغ يقارب الـ500 دولار، وهذه الأرباح كان العراقيون أولى بها، إذ إنها ستحفظ النقد الأجنبي من الاستنزاف، إضافة إلى توفير آلاف فرص العمل للعاطلين.