مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، برزت الحاجة لتقييم أداء المؤسسات التي شكّلت دعائم حكمه، وأهمها مصرف سوريا المركزي الذي استنزف النظام احتياطياته الأجنبية التي بلغت 18 مليار دولار عام 2011 لتمويل حربه ضد السوريين، لينخفض هذا الرقم بشكل حادّ وصولًا إلى حد العجز الكامل بحلول عام 2024.
هذا التدهور انعكس على الاقتصاد السوري، حيث فقدت الليرة السورية أكثر من 90% من قيمتها، وارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، ما أدّى إلى انهيار المستوى المعيشي للسوريين وزيادة الفقر بمستويات غير مسبوقة في تاريخ سوريا بأكمله.
ترك النظام المخلوع تركة اقتصادية ثقيلة للحكومات المقبلة، وفق مراقبين، بما فيها حكومة تصريف الأعمال برئاسة محمد البشير التي تم تشكيلها مؤخرًا. إذ كشف أن خزائن المصرف تحتوي فقط على أوراق نقدية بالليرة السورية، مع غياب شبه كامل للسيولة بالعملات الأجنبية، وأكد أن الحكومة تعمل حاليًا على جمع البيانات المتعلقة بالقروض والسندات، واصفًا الوضع المالي للبلاد بأنه “بالغ السوء”.
نشأة المصرف ودوره في زمن الأسد
تأسّس مصرف سوريا المركزي بموجب المرسوم التشريعي رقم 87 الصادر في 28 مارس/ آذار 1953، والذي تضمّن نظام النقد الأساسي في سوريا. بدأ المصرف نشاطه الرسمي في 1 أغسطس/ آب 1956، بعد انتقال مهام إصدار النقد من مصرف سوريا ولبنان إليه.
اكتتبت الدولة بكامل رأسماله البالغ 10 ملايين ليرة سورية، ما عزز دوره كمؤسسة مالية مركزية ذات استقلال مالي وإداري، ويقع مقرّه الرئيسي في ساحة السبع بحرات بالعاصمة دمشق، وله 11 فرعًا موزعة في مراكز المحافظات السورية، بما في ذلك حلب، حمص، حماة، اللاذقية، طرطوس، السويداء، درعا، دير الزور، إدلب، الحسكة، والرقة.
تولى المصرف مهام إصدار العملة الوطنية، وإدارة الاحتياطيات النقدية، والإشراف على السياسة النقدية في البلاد، كما لعب دورًا محوريًا في تنظيم القطاع المصرفي ومراقبة تنفيذ السياسات التسليفية، بهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز التنمية الوطنية.
إلى جانب ذلك، كان المصرف أداة لتعزيز السيطرة السياسية والاقتصادية للنظام، حيث نجح مرارًا في التلاعب بسعر الصرف للحدّ من انهيار العملة، لكنه فشل في مواجهة هيمنة السوق السوداء، كما ساهم في تمويل الاقتصاد الموازي الذي يديره مقرّبون من النظام للالتفاف على العقوبات الدولية.
في الوقت نفسه، فرض قيودًا صارمة على التحويلات المالية وحجز أموال المودعين في البنوك بذريعة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، ما عمّق الأزمات الاقتصادية.
خلال حكم عائلة الأسد على سوريا تعرّض المصرف لسرقات كبيرة عديدة من قبل أفراد العائلة، أبرزها استيلاء رفعت الأسد على مبلغ مالي ضخم من المصرف قبل مغادرته البلاد في ثمانينيات القرن الماضي، بعد محاولة انقلاب فاشلة قام بها ضد شقيقه حافظ الأسد.
حيث أصبحت هذه الأموال لاحقًا حجر الأساس الذي بنى عليه إمبراطوريته المالية في أوروبا، وأتاحت له عيش حياة مترفة مع زوجاته الأربع وأبنائه الستة عشر، شملت عددًا كبيرًا من الشقق الفاخرة ومزارع الخيول في فرنسا، وعشرات الفنادق والمطاعم في إسبانيا قُدّرت قيمتها بما لا يقل عن 600 مليون يورو.
تاريخ العقوبات على المصرف
تأثر مصرف سوريا المركزي بشكل مباشر منذ عام 1979، عندما أُدرجت سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وحتى العقوبات المشددة التي تلت اندلاع الثورة السورية عام 2011.
هذه العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، استهدفت المصرف باعتباره أداة للنظام السوري لدعم سياساته القمعية وتمويل عملياته العسكرية، وقد نتج عن ذلك عزل المصرف عن النظام المالي العالمي، ما أدّى إلى شلل كبير في التعاملات الدولية واعتماد النظام بشكل أكبر على حلفائه روسيا وإيران.
بدأت العقوبات في مايو/ أيار 2011، حين اعتمد الاتحاد الأوروبي حظرًا على تصدير السلع والتقنيات التي قد تُستخدم لقمع المدنيين، يشمل قطاع النفط السوري الذي كان يشكّل حوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب.
بحلول أغسطس/ آب 2011، فرضت الولايات المتحدة قيودًا إضافية على قطاع النفط، وجمّدت الأصول المالية للدولة وعدد من الشخصيات البارزة في النظام، ووُسّعت العقوبات لاحقًا لتشمل حظر تصدير المنتجات الأمريكية ذات القيمة المضافة بنسبة 10% أو أكثر، ما أدى إلى ارتفاع حادّ في أسعار السلع الأساسية والمنتجات الطبية داخل سوريا.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، أعلنت الجامعة العربية تجميد الأصول المالية للنظام، وإنهاء التبادل المالي مع المصرف المركزي، إلى جانب تعليق الرحلات الجوية ووقف الاستثمارات في سوريا.
في الوقت ذاته، تبنّت تركيا إجراءات مماثلة شملت تجميد الأصول وإيقاف التعاون الاقتصادي، تبعتها دول كندا وأستراليا وسويسرا التي فرضت بدورها قيودًا صارمة على تصدير السلع الفاخرة والاستثمارات المرتبطة بسوريا.
في فبراير/ شباط 2012، عزز الاتحاد الأوروبي عقوباته من خلال إضافة حظر على قطاع الطاقة والتعدين، وتجميد الأصول المالية لـ 120 مسؤولًا ومؤسسة سورية، بما في ذلك بشار الأسد والمصرف المركزي. وفي أبريل/ نيسان 2017، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 270 موظفًا حكوميًا، عقب استخدام النظام للأسلحة الكيميائية في هجوم خان شيخون.
في عام 2019، صدر قانون “قيصر” ليكون من بين أقسى العقوبات المفروضة، مستهدفًا كل من يدعم النظام السوري عسكريًا أو اقتصاديًا، مع التركيز على قطاعات النفط وإعادة الإعمار. وفي عامَي 2021 و2024، أقرّ الكونغرس الأمريكي قوانين “مكافحة الكبتاغون”، التي ركزت على تجفيف مصادر تمويل النظام من تجارة المخدرات.
كما سبق أن لاحقت العقوبات الأوروبية مدير المصرف السابق أديب ميالة، للاشتباه في مساعدته النظام بتمويل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بين عامي 2011 و2017 خلال فترة عمله، تضمنت تجميد أصوله ومنعه من السفر، تلاها فتح القضاء الفرنسي تحقيقًا عام 2016 حول دوره في تمويل الجرائم المرتكبة خلال الحرب، إلا أنه تم إسقاط التهم لاحقًا دون تفسير واضح.
احتياطي المصرف حاليًا
تعرّض المصرف، بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، ومرور العاصمة دمشق بحالة من الفوضى، إلى سرقة على يد مجهولين، بينما قال رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي، إن اللصوص لم يسرقوا سوى القليل من النقود، دون إلحاق الضرر بخزائن المصرف أو التعدي عليها. وقال مصدر آخر مقرب من إدارة العمليات العسكرية إن جميع الاحتياطيات موجودة في المصرف.
ورغم إحجام صندوق النقد الدولي عن التعليق على حالة مصرف سوريا، رغم جمعه بيانات عن أصول البنوك المركزية حول العالم باستمرار، إلا أن 4 مصادر مطلعة قالت لوكالة “رويترز” إن في خزائن مصرف سوريا المركزي ما يقارب 26 طنًّا من الذهب، وهي الكمية نفسها التي كانت موجودة عند اندلاع الثورة عام 2011، وهو ما تؤكده آخر التقارير الصادرة عن مجلس الذهب العالمي عام 2011.
وأفاد مصدر لـ”رويترز” بأن الاحتياطيات النقدية لا تتجاوز 200 مليون دولار، بينما أشار آخر إلى أنها تبلغ “مئات الملايين”، بالمقارنة مع فترة ما قبل الحرب، إذ ذكر صندوق النقد الدولي أن الاحتياطيات الأجنبية للمصرف بلغت حوالي 14 مليار دولار في أواخر عام 2011، بينما قُدرت في عام 2010 بحوالي 18.5 مليار دولار، ما يمكن اعتباره انهيارًا هائلًا.
ووفقًا لمسؤولين سوريين حاليين وسابقين، فإن الاحتياطيات من الدولار الأمريكي حاليًا شبه مستنفدة، نتيجة لاستنزاف النظام لهذه الاحتياطيات لتمويل الإنفاق على الجيش والوقود، بالإضافة إلى دعم العمليات العسكرية خلال حربه على السوريين.
يشكّل مصرف سوريا اليوم محور التعافي الاقتصادي لسوريا، وهو ما لا يمكن تحقُّقه إلا بضمان استقلالية المصرف عن التدخلات السياسية، ليتمكن من صياغة وتنفيذ سياسات نقدية فعّالة، وأيضًا بإصلاحات قانونية تحمي سياساته من ضغوط السلطة، عبر تشكيل لجنة نقدية مكوّنة من خبراء مستقلين لتوجيه عملية التحديث والتطوير، بالتعاون مع المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي لتعزيز المساءلة والامتثال لأفضل الممارسات العالمية.