أجريت في 17 من أبريل 2019 الانتخابات الرئاسية والتشريعية في إندونيسيا، وهي الانتخابات الخامسة، في دورية صارمة تجري كل خمس سنوات في مواعيد لا تتخلف عنها منذ سقوط نظام سوهارتو في 1998، وإجراء الانتخابات التشريعية الأولى وانتخاب أول رئيس بصورة حرة من خلال البرلمان في 1999، ثم انتخاب نائبة الرئيس ميجاواتي سوكارنو بوتري رئيسة للبلاد بعد احتجاجات ضد الرئيس عبد الرحمن وحيد في 2002 فأكملت مدة رئاسته حتى 2004.
ومنذ ذلك الحين تقرر إجراء الانتخابات الرئاسية بالاقتراع الشعبي العام بعد 3 أشهر من إجراء الانتخابات التشريعية، واستمر إجراء الانتخابات على هذا النحو كل خمس سنوات (2004، 2009، 2014) ثم تقرر أن تجري انتخابات 2019 في يومٍ واحد دون فاصلٍ بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، وهو أمرٌ مثل أكبر اقتراع ديمقراطي في العالم في يوم واحد، حيث يبلغ تعداد سكان إندونيسيا نحو 260 مليون نسمة وهي أكبر دولة مسلمة ورابع دولة في العالم من حيث عدد السكان، ويبلغ عدد الناخبين ما يقارب 192 مليون ناخب شارك منهم في الانتخابات الأخيرة نحو 81%.
عانت إندونيسيا لعقود من حكمٍ استبدادي منذ حصولها على الاستقلال عام 1945، بدأ هذا العهد الاستبدادي بعد فترة قصيرة من حكم سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا الذي بدأ حكمه بتجربة ليبرالية لكنها فشلت بنهاية الخمسينيات، بعد استمرار حيازة حزب (مجلس شوري مسلمي إندونيسيا) “ماشومي” على نسبة كبيرة من المقاعد وتصدر نتائج الانتخابات سواء المرتبة الأولى في 1950 أو المرتبة الثانية في 1955 وإسناد تشكيل الحكومة لعدد من قادته أكثر من مرة، ولكن سوكارنو قرر حظر الحزب في 1960، وبدأ مرحلة الديمقراطية الموجهة، ثم استولى سوهارتو على السلطة رسميًا في 1968، مستمرًا في الممارسات الاستبدادية حتى سقوطه على إثر احتجاجات واسعة في 1998 في أثناء زيارة له إلى مصر، وبعد عودته وفشله في قمع الاحتجاجات تقدم باستقالته، وبدأت مرحلة جديدة في عهد إندونيسيا.
الانتخابات والأحزاب
يمكن القول إن استمرار الانتخابات الإندونيسية العامة في مواعيدها بشكلٍ صارم على مدار 20 عامًا أحد المؤشرات المهمة الكاشفة عن ترسخ الديمقراطية في هذا البلد الإسلامي متعدد الأعراق، بالإضافة إلى عدم وجود احتجاجات ذات بال يمكن أن تتخذ ذريعةً للطعن في نزاهة هذه الانتخابات طوال هذه المدة التي جرت فيها عدة استحقاقات رئاسية وتشريعية ومحلية، فضلاً عن أن متابعة التفاعلات بين الأحزاب والقوى السياسية ومشاركتها في أجهزة الدولة ومراقبتها ومحاسبتها للمسؤولين السياسيين وقيامها بتحالفات متنوعة قربًا من السلطة أو مواجهة لها خلال هذه الفترة يؤشر على مدى قوة وشعبية هذه الأحزاب والتنظيمات وتعمق الممارسات السياسية والديمقراطية داخلها.
تتنوع الأحزاب في إندونيسيا بين قومية علمانية وإسلامية
غير أن هذه الإيجابيات لا ينبغي أن تجعلنا نغفل عن العيوب والمثالب التي لا تزال تعاني منها هذه الديمقراطية مثل ضعف البرامج الحزبية واهتمام العديد من الأحزاب بالأشخاص وثرائهم على حساب المضمون التمثيلي والأداء السياسي الذي يمكن تقديمه في المواقع التي يتم ترشيحهم لشغلها من خلال الأحزاب، وكذلك انتشار الرشوة الانتخابية واستغلال بعض القوى السياسية لنفوذ بعض قادتها الموجودين في مواقع بالسلطة وعدم الاهتمام ببناء كيانات حزبية قوية لديها قدر مقبول من التواصل المستمر بين الرأس والقاعدة، يشجع على هذا التراخي في بناء الكيانات الحزبية القوية ذلك الاتساع المترامي للجزر الإندونيسية وكثرة عدد السكان، الأمر الذي يحتاج إلى ميزانيات ضخمة وكوادر تنظيمية كثيرة بشكل تعجز عن القيام به الكثير من الأحزاب.
خريطة الأحزاب الإندونيسية
تتنوع الأحزاب في إندونيسيا بين قومية علمانية وإسلامية، والأحزاب القومية العلمانية منها أحزاب تاريخية مثل حزب النضال من أجل الديمقراطية (PDI-P) الذي تتزعمه رئيسة إندونيسيا السابقة ميجاواتي سوكارنو بوتري وحزب جولكار (Golkar) وهو الذي كان حاكمًا في العهد الاستبدادي ثم تراجع تمثيله في الحقبة الديمقراطية، بالإضافة لعددٍ من الأحزاب القائمة على أساس زعامات شخصية مثل الحزب الديمقراطي الإندونيسي (PD) الذي يتزعمه الرئيس السابق سوسيليو بامبانج يودويونو (2004-2014)، وحزب حركة إندونيسيا العظمى (Gerindra) الذي يتزعمه المرشح الرئاسي في 2014 و2019 الجنرال المتقاعد برابوو سوبيانتو، والحزب القومي الديمقراطي (NasDem) الذي يتزعمه سوريا بالوه (Surya Paloh) صاحب أحد أهم الشبكات الإعلامية في إندونيسيا والذي انشق عن حزب جولكار، وحزب ضمير الشعب (Hanura) الذي يتزعمه وزير الدفاع السابق ويرانتو.
الأحزاب الأكثر ثباتًا واستمرارًا في حصد نسب شبه ثابتة أو لديها كتلة صلبة من الأصوات هي حزب النضال وجولكار من الجانب العلماني وكذلك الأحزاب الإسلامية التي لديها مجتمعة نسبة شبه ثابتة تدور حول 30%
أما الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية فمنها حزبان منبثقان أو يحظيان بدعم من أكبر جماعتين دينيتين في البلاد، وهما حزب النهضة القومي (PKB) المنبثق عن جماعة “نهضة العلماء” وحزب الأمانة الوطني (PAN) الذي شاركت جماعة “المحمدية” في تأسيسه، وهما حزبان يتأثران بدعم هاتين الجماعتين لكن هذا الدعم ليس عضويًا ولا يلزم أن ينتخب المنتسب لأي من الجماعتين مرشح الحزب المنبثق منها ولا يتناسب حجم الأصوات التي يحظى بها الحزبان مع عدد أعضاء الجماعتين المقدر بعشرات الملايين لكل منهما، في حين يحظى كل من هذين الحزبين بما يدور حول 10 ملايين صوت فقط (يزيد أو ينقص قليلاً)، كما أن فلسفة هذين الحزبين تقوم على أرضية علمانية بحكم استمرارهما في اعتماد “البانكاسيلا” التي فرضها سوكارنو وسوهارتو على الأحزاب في حقبة الاستبداد كفلسفة وحيدة للعمل السياسي، إلى جانب مراعاة البعد الديني واستلهام القيم الدينية في المجال السياسي.
وبجانب هذين الحزبين يوجد حزب التنمية المتحد (PPP) الذي تأسس في 1973 ليجمع الأحزاب الإسلامية كافة بتعليمات من سوهارتو الذي لجأ لتقليص عدد الأحزاب في هذه الفترة، ثم خرجت منه الفصائل المكونة له تباعًا خاصة بعد سقوط سوهارتو، ويتبنى الحزب نهجًا محافظًا.
ثم يأتي حزب العدالة والرفاهية (PKS) وهو الحزب المنبثق عن حركة “التربية” التي تعتبر متأثرة بأفكار جماعة الإخوان، وهو أقرب حزب للنمط الإسلامي المعروف في المنطقة العربية، وإن كان الحزب يعتبر أن حزب العدالة والتنمية التركي هو الأقرب إليه كنموذج حزبي استطاع تحقيق التنمية والاستقرار يسعى للاحتذاء بتجربته.
تعتبر هذه الأحزاب فقط هي القادرة على التمثيل داخل أروقة البرلمان الإندونيسي نظرًا لوجود عتبة انتخابية تقدر بـ4% لا بد لأي حزب من اجتيازها للتمثيل داخل البرلمان، ومع اتساع إندونيسيا وكثافة عدد سكانها فإن هذه الأحزاب بالكاد يمكن أن تمثل داخل البرلمان، ومن الجدير بالذكر أن الحزب الأول في أي انتخابات تشريعية إندونيسية لا يكاد يتجاوز الحصول على خُمس الأصوات (باستثناءات نادرة)، والحياة السياسية في إندونيسيا قائمة على بناء تحالفات سياسية بين هذه المكونات الحزبية باستمرار.
الانتخابات الرئاسية في إندونيسيا مثل الانتخابات الأمريكية يترشح كل من الرئيس ونائبه في بطاقة انتخابية واحدة
الأحزاب الأكثر ثباتًا واستمرارًا في حصد نسب شبه ثابتة أو لديها كتلة صلبة من الأصوات هي حزب النضال وجولكار من الجانب العلماني وكذلك الأحزاب الإسلامية التي لديها مجتمعة نسبة شبه ثابتة تدور حول 30%، أما الأحزاب المعتمدة على أشخاص بارزين فإنها ترتبط بوجود هؤلاء الأشخاص خاصة في مواقع المسؤولية، فتنحسر بخسارة زعيم لموقعه وتتقدم بتميز وضع هذا الزعيم في النظام السياسي، مثل الحزب الديمقراطي الذي تصدر نتائج الانتخابات في 2009 في أثناء وجود زعيمه الرئيس سوسيليو بامبانج يودويونو في سدة الرئاسة الإندونيسية ثم انحسر وجوده بانتهاء فترة ولاية الرئيس، وكذلك حزب النضال وحزب حركة إندونيسيا العظمى، إلخ.
قراءة في نتائج انتخابات 2019 الرئاسية
تعد الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخرًا الجولة الثانية من التنافس بين الرئيس الحاليّ جوكو ويدودو (جوكوي) والجنرال المتقاعد برابوو سوبيانتو، والرئيس جوكوي ينتمي لحزب النضال الذي تتزعمه الرئيسة السابقة ميجاواتي سوكارنو ابنة أول رئيس لإندونيسيا، أما برابوو سوبيانتو فهو زوج ابنة الرئيس السابق سوهارتو وزعيم حزب حركة إندونيسيا العظمى.
والانتخابات الرئاسية في إندونيسيا مثل الانتخابات الأمريكية يترشح كل من الرئيس ونائبه في بطاقة انتخابية واحدة، وقد سبق للمرشحيْن أن تنافسا في انتخابات 2014 وتفوق الرئيس جوكوي بفارق بسيط، وفي انتخابات 2019 استطاع جوكوي الذي اختار معروف أمين رئيس جماعة نهضة العلماء نائبًا له تأكيد تفوقه بنسبة 55.5% مقابل 44.5% لسوبيانتو الذي اختار نائب حاكم جاكرتا ساندياجو أونو نائبًا له.
استمر تمايز المعارضة بمرور الوقت وبناء تحالفات وتحالفات مضادة حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي بدا فيها تحالفان أكثر صلابة واستمرارًا من ذي قبل
على أن هذه النتيجة رغم موافقتها لما نشر من استطلاعات للرأي أفادت تفوق الثنائي (جوكوي-أمين) إلا أنها مثلت صدمة لسوبيانتو الذي فشل للمرة الثالثة في الفوز بالانتخابات الرئاسية (المرة الأولى ترشح نائبًا للرئيس مع المرشحة للرئاسة ميجاواتي في 2009، ثم ترشح للرئاسة في 2014 و2019) فاعترض على النتائج وطريقة العد والإحصاء ونشرها على موقع لجنة الانتخابات الإلكتروني التي استغرقت أكثر من شهر، وهو الأمر الذي دفع أنصاره إلى التظاهر في شوارع العاصمة جاكرتا واندلاع مواجهات بينهم وبين قوات الأمن أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى واعتقال عدد من المحتجين، وأدخلت البلاد في أزمة لم تتضح بعد أبعادها، إلا أنها تكشف مدى القوة التي باتت تتمتع بها المعارضة، في بلد قام نظامه السياسي بعد سقوط سوهارتو على بناء تحالفات تشمل الجميع، مما أضعف الأداء الحكومي الذي كان يضم تقريبًا كل الفائزين في انتخابات البرلمان في عهد الرئيس عبد الرحمن وحيد وهو ما أدى إلى سقوطه حين ضجر من الشلل الحكومي فقرر استبعاد بعض أعضاء حكومته ممن يمثلون ثقلاً سياسيًا، فسقط هو.
لكن استمر تمايز المعارضة بمرور الوقت وبناء تحالفات وتحالفات مضادة حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي بدا فيها تحالفان أكثر صلابة واستمرارًا من ذي قبل، حيث تحالفت أحزاب “النضال” و”جولكار” و”النهضة القومي” و”التنمية المتحد” و”القومي الديمقراطي” إلى جانب بعض الأحزاب الأخرى في الوقوف خلف الرئيس جوكوي وهو تحالف مثل أغلبية برلمانية في برلمان 2014-2019 بلغت 60%، وتحالفت أحزاب “حركة إندونيسيا العظمى” و”العدالة والرفاهية” و”الأمانة الوطني” و”الديمقراطي” في الوقوف خلف برابوو سوبيانتو، وهي معارضة برلمانية مثلت نحو 40% من أعضاء البرلمان، وهو ما استمر أيضًا في برلمان 2019.
على مستوى الفروق بين المرشحين الرئاسيين فإن العديد من التقارير أكدت عدم وجود فوارق جوهرية بينهما
الإيجابي في أمر هذه التحالفات أنها بدت أكثر صلابة من سابقاتها، فالمكون الرئيسي لكل تحالف استمر داخله منذ 2014 ولم تحدث بكل تحالف تغيرات كبيرة كما كان يحدث من قبل هرولةً نحو السلطة، كما يلاحظ أن كل تحالف تشكل سياسيًا من مختلف الاتجاهات، فشمل القومي العلماني والشخصاني والإسلامي، وهي سمة عامة في البيئة السياسية الإندونيسية، حيث يسعى كل طرف للتحالف مع المخالف له في التوجه السياسي للفوز بأكبر عددٍ من الأصوات، لكن التشابه بين القوى السياسية في اتباع هذه الإستراتيجية يؤدي في النهاية إلى التوازن والتقارب فيما بينها كما تظهر ذلك النتائج على مدار السنوات الماضية.
كما أن من الجدير بالذكر في هذا السياق أن التصنيف (العلماني – الإسلامي) لا ينعكس كثيرًا في البرامج بل ولا في الخطاب الدعائي، إذ إنه بمرور الوقت خفتت حدة الصراع الإسلامي – العلماني في إندونيسيا بعد سنوات قليلة من الانفتاح الديمقراطي، وباتت الدولة الإندونيسية أكثر استيعابًا للتطلعات الإسلامية، وتبنت الكثير من الأحزاب القومية العلمانية خطابًا إسلاميًا في دعايتها السياسية وإبداء الكثير من الاحترام للأحكام الدينية ومراعاتها في التشريعات والقوانين، مما أفقد الأحزاب الإسلامية ميزةً تنافسية دفعها للاهتمام أكثر بأدائها السياسي الذي تطور كثيرًا خلال السنوات الماضية.
وعلى مستوى الفروق بين المرشحين الرئاسيين فإن العديد من التقارير أكدت عدم وجود فوارق جوهرية بينهما، بل إن تقارير تحدثت عن أن المناظرات التي تمت بينهما أظهرت أنهما يقدمان الشيء نفسه، رغم أن المناظرات يفترض أن تظهر الفوارق أكثر، فكما سبق القول فإن الصراع الأيديولوجي محدود بسبب وجود تحالفات تضم داخل كل منها مختلف الطيف السياسي، والعلاقات الخارجية تبدو السياسات بها أكثر استقرارًا من غيرها بحكم موقع إندونيسيا وعلاقاتها المستقرة بالقوى الخارجية، بالإضافة لتحكم الجهاز الإداري بهذا الملف أكثر من القوى السياسية مع استيعابه وتجاوبه مع آراء القوى السياسية في الوقت ذاته، وبالنسبة للملف الاقتصادي فرغم إخفاق جوكوي في تحقيق كل ما وعد به من طموحات في فترة رئاسته الأولى، فإن تحسنًا نسبيًا شهدته ملفات الصحة والتعليم والاقتصاد بسبب الاستقرار والبيئة الديمقراطية، وبالتالي فإن التنافس في هذا الملف يظل محدودًا أيضًا، وكما سبق القول فإن التنافس السياسي في إندونيسيا لا يعتمد على البرامج السياسية بقدر ما يعتمد على الأشخاص والإنفاق السياسي.
حاولت بعض الشخصيات السياسية نزع فتيل التوتر ومحاولة دفع برابوو للقبول بنتائج الانتخابات التي يرفض الاعتراف بها، وهو ما أدى لتقديمه طعنًا قضائيًا في النتيجة في محاولة لحل الأزمة داخل مؤسسات الدولة وفي الأروقة السياسية بعيدًا عن العنف
وقد أمن التحالف بين حزب النضال المنتشر تأثيره بين الأوساط الفقيرة وذوي المستوى التعليمي المنخفض والمناطق متعددة الأعراق والإثنيات وغير المسلمين، وجماعة نهضة العلماء أكبر جماعة دينية في البلاد والمتمتعة بنفوذ كبير في منطقة جاوة الأكثر كثافة سكانية، بالإضافة لحزب جولكار الذي يضم بقايا من نظام سوهارتو ورجال أعمال كبار ويحتل المرتبة الثالثة في البرلمان، أمن هذا التحالف التفوق النسبي للثنائي (جوكوي-أمين) في سباق الرئاسة.
حاولت بعض الشخصيات السياسية نزع فتيل التوتر ومحاولة دفع برابوو للقبول بنتائج الانتخابات التي يرفض الاعتراف بها، وهو ما أدى لتقديمه طعنًا قضائيًا في النتيجة في محاولة لحل الأزمة داخل مؤسسات الدولة وفي الأروقة السياسية بعيدًا عن العنف.
يعتمد برابوو سوبيانتو على تقديراته المبالغ فيها لحجم الأصوات التي يدعي أنه حصل عليها، وتشكيكه في نتائج العديد من المناطق التي لم يكن له فيها مندوبون يراقبون نتائجها وفاز فيها جوكوي باكتساح تقريبًا، فضلاً عن ادعائه بسيطرة جوكوي على وسائل الإعلام وشركات استطلاع الرأي التي انحازت له من البداية وتوافقت مع تقديراتها النتائج المعلنة من هيئة الانتخابات.
وفي الحقيقة يصعب التسليم بهذه الادعاءات رغم وجاهة بعضها، واحتمال حدوث خروقات في اللجان التي لم يكن للمعارضة مندوبون بها، أو من جانب وسائل الإعلام وشركات استطلاع الرأي، لكن تظل هذه الادعاءات غير قاطعة، ويبدو أنها مسكونة بشكلٍ أساسي برفض خسارة برابوو سوبيانتو مع تقدمه في العمر وتضاؤل فرص ترشحه مرةً أخرى، بالإضافة لهواجس التدخل الصيني الذي يبدو أن دعمه لجوكوي كبير بشكل ملحوظ.
بالطبع تتغير نسبة المقاعد عن نسبة التصويت قليلاً بسبب النظام الانتخابي الذي يجري بنظام القائمة النسبية وإعادة توزيع مقاعد الأحزاب الخاسرة على الأحزاب الفائزة
ويبقى أمام جوكوي محاولة حل هذه الأزمة وترضية المعارضة ومحاولة استمالتها، أو الاستمرار في مواجهتها مما ينذر بعواقب غير محمودة في هذه المرحلة من الديمقراطية الإندونيسية، والأهم من كل ذلك أهمية استعادة الثقة في مؤسسات الدولة وضمان حياديتها التي يبدو أنها باتت على المحك في الأزمة الأخيرة حيث باتت هناك قناعة شبه تامة بانحياز المؤسسات الرسمية لصالح فريق سياسي معين والنكاية بالفريق الآخر.
الانتخابات التشريعية
كما سبقت الإشارة فإن البرلمان تهيمن عليه 9 أحزاب فقط وذلك بسبب وجود عتبة انتخابية تحول دون تحقيق العديد من الأحزاب الصغيرة فرصة الوصول إلى البرلمان، والتغير الذي حدث في خريطة وجود الأحزاب في البرلمان يقتصر على حزب “ضمير الشعب” (Hanura) الذي يتزعمه وزير الدفاع السابق الجنرال ويرانتو الذي غادر البرلمان هذه المرة بعد إخفاقه في تجاوز العتبة الانتخابية، ونجا حزب التنمية المتحد (PPP) الإسلامي من مغادرة البرلمان بعد حصوله على 4.5% من الأصوات وانخفضت مقاعده في البرلمان من 39 في 2014 إلى 19 فقط في 2019، فيما رسخ حزب النضال تفوقه بحصوله على نسبة 19.33% من الأصوات واستفاد حزب حركة إندونيسيا العظمى من أصداء ترشح زعيمه برابوو سوبيانتو للرئاسة فحاز المركز الثاني بنسبة 12.57% تلاه حزب جولكار الحاكم سابقًا في أثناء عهد الاستبداد بنسبة 12.31% ثم حزب النهضة القومي المنبثق عن جماعة نهضة العلماء الإسلامية بنسبة 9.69% ثم الحزب القومي الديمقراطي (NasDem) بنسبة 9.05% ثم حزب العدالة والرفاهية الإسلامي بنسبة 8.21% ثم الحزب الديمقراطي (Demokrat) بنسبة 7.77% ثم حزب الأمانة الوطني بنسبة 6.84% ثم حزب التنمية المتحد بنسبة 4.52%.
هذه الإحصاءات تشير إلى أن التغيرات الإيجابية والسلبية حصلت على السواء في المعسكرين القومي العلماني والإسلامي، الأمر الذي يؤشر على أن هذه التغيرات حصلت داخل كل معسكر على حدة
وبالطبع تتغير نسبة المقاعد عن نسبة التصويت قليلاً بسبب النظام الانتخابي الذي يجري بنظام القائمة النسبية وإعادة توزيع مقاعد الأحزاب الخاسرة على الأحزاب الفائزة والنتائج داخل الأقاليم والدوائر وهو ما يؤدي إلى بعض المفارقات مثل زيادة عدد بعض مقاعد بعض الأحزاب الأدنى في التصويت الشعبي عن الأحزاب الأكثر منها في الحصول على أصوات مثل الحزب الديمقراطي الذي حاز 54 مقعدًا مقابل 50 مقعدًا للعدالة والرفاهية رغم ارتفاع نسبة التصويت للأخير.
أفضل التغيرات – رقميًا – في هذه الانتخابات حدثت للحزب القومي الديمقراطي (NasDem) والعدالة والرفاهية (PKS) بزيادة بلغت 2.33 و1.42% على التوالي، وحصل حزب العدالة والرفاهية على أكبر عددٍ من الأصوات في تاريخه بلغ 11 مليونًا و493 ألفًا وهي أكبر نسبة تصويت يحوزها أيضًا، ولكنه كان قد حاز عددًا أكبر من المقاعد في 2009، أما أكبر الخاسرين فهو حزب ضمير الشعب (Hanura) الذي غادر البرلمان لعدم قدرته على تجاوز العتبة الانتخابية، ثم أحزاب: جولكار والحزب الديمقراطي وحزب التنمية المتحد التي ساءت نتائجها عن الانتخابات السابقة وانخفض عدد الأصوات التي حصلت عليها بنسبة تجاوزت 2.44 و2.42 و2.01% على التوالي، ومن ثم انخفض تمثيلها، عدا ذلك فإن التغيرات لم تكن كبيرة صعودًا أو هبوطًا.
التغير الإيجابي الموضوعي الأكثر تأثيرًا على المدى المتوسط والبعيد يتعلق بحزب العدالة والرفاهية الذي تؤكد العديد من البحوث والتقارير على كونه الحزب الأكثر اعتناءً بتقديم وصياغة برامج سياسية حقيقية
هذه الإحصاءات تشير إلى أن التغيرات الإيجابية والسلبية حصلت على السواء في المعسكرين القومي العلماني والإسلامي، الأمر الذي يؤشر على أن هذه التغيرات حصلت داخل كل معسكر على حدة، بمعنى أن الأصوات كانت تنتقل داخل كل معسكر من حزب إلى حزب آخر أو أحزاب أخرى داخل المعسكر ذاته، أي أن التنافس ظل محصورًا داخل كل معسكر على الحزب الأجدر بتمثيله بشكلٍ إجمالي، إذ بقيت نسبة الأصوات المحجوزة لكل معسكر تقريبًا كما هي في كل انتخابات فحافظت الكتلة ذات الخلفية أو المرجعية الإسلامية على نسبة تدور حول 30% وحازت الكتلة القومية العلمانية والأحزاب الشخصانية العلمانية على النسبة الباقية تقريبًا.
التغير الإيجابي الموضوعي الأكثر تأثيرًا على المدى المتوسط والبعيد يتعلق بحزب العدالة والرفاهية الذي تؤكد العديد من البحوث والتقارير على كونه الحزب الأكثر اعتناءً بتقديم وصياغة برامج سياسية حقيقية، وتأهيل كوادر سياسية كفؤة غير مرتبطة بنفوذ عائلي أو مادي أو وظيفي وتزداد شعبيته بين الأوساط الأكثر تعليمًا وثقافة، الأمر الذي يجعل التقدم الذي يحوزه أكثر تماسكًا من غيره من الأحزاب التي تحظى بكثير من مظاهر التأييد المؤقت المرتبط بظرف أو بشخص، وهو ما سيدفع أحزابًا أخرى للاهتمام بهذه الجوانب المهمة في العمل السياسي وتعزز في نهاية المطاف من الديمقراطية في إندونيسيا، وإن كان الحزب يعاني من نخبوية تحول دون انتشاره في الكثير من الأوساط الإندونيسية مثل حزبي النضال والنهضة على سبيل المثال، بالإضافة لبعض الانشقاقات التي تعاني منها الأحزاب الإندونيسية بصفة عامة.