تحوُّل مثير تشهده السياسة الروسية في سوريا بعد سقوط حليفها نظام بشار الأسد البائد، الذي شاركته عمليات الإجرام والقتل والتدمير التي ارتكبها بحق الشعب السوري، منذ تدخلها العسكري في 2015 ما أسهم في تثبيت وجوده في سدّة الحكم حفاظًا على مصالحها الجيوسياسية على الأراضي السورية خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط عامة.
انكشفت معالم سياسة موسكو في سوريا مع انطلاقة العملية العسكرية “ردع العدوان”، التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مع انخفاض دعمها للنظام السابق في التغطية الجوية والعسكرية خلافًا لما حصل في السنوات الماضية، ما أدّى إلى فرار الأسد وسقوط نظامه في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
تتفاعل موسكو مع تغيرات المشهد السوري ضمن مسارَين. الأول، إعادة تموضع لقواتها في سوريا عبر سحب آليات عسكرية من القواعد والمواقع المنتشرة على كافة الجغرافية السورية، وانحسارها في قاعدتين عسكريتين على الساحل السوري، وسحب جزء منهما إلى قواعدها في ليبيا. والثاني يتجه في خطب ودّ الإدارة السورية الجديدة بهدف إعادة ترتيب العلاقات الروسية-السورية، حفاظًا على مصالحها الجيوسياسية المطلة على مياه المتوسط الدافئة.
في ضوء ما سبق، تثير التحركات الروسية العسكرية والسياسية تساؤلات عديدة، حول مصير القواعد العسكرية والمصالح الروسية والاتفاقيات الاستراتيجية التي تربطها مع نظام الأسد سابقًا.. فما مصير هذه العلاقات في المستقبل؟
انحسار الوجود العسكري الروسي
نفّذت القوات العسكرية الروسية عمليات تجميع لقواها المنتشرة في قواعد ومواقع عسكرية مختلفة ضمن الأراضي السورية، في قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية على الساحل السوري.
وسحبت قواتها من محافظة القنيطرة جنوب سوريا، وقاعدة مطار تدمر وقاعدة مطار التياس/ التيفور ومطار الشعيرات في محافظة حمص، إضافة إلى قواعدها في مطاري القامشلي وقاعدة صرين في محافظة الرقة ضمن مناطق سيطرة “قسد” شمال شرق سوريا، إلى الساحل السوري.
وفي يوليو/ تموز الماضي، كان عدد القواعد الروسية 21 قاعدة و93 نقطة عسكرية في سوريا، وتنتشر في 17 نقطة في حماة، 15 نقطة في اللاذقية، 14 نقطة في الحسكة، 13 نقطة في القنيطرة، 12 نقطة في حلب، 8 نقاط في دمشق، 8 نقاط في الرقة، 6 نقاط في إدلب، 4 نقاط نقاط في حمص، و3 نقاط في درعا، حسب موقع جسور للدراسات.
وبالتالي انحسرت القواعد الروسية العسكرية على الأراضي السورية إلى قاعدتين عسكريتين رئيسيتين على الساحل السوري، وهما قاعدة طرطوس البحرية التي تعود إلى عام 1971 (في عهد حافظ الأسد)، وقاعدة حميميم الجوية التي تعود إلى عام 2015 (في عهد بشار الأسد).
وفي هذا السياق، أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانًا في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بعيد ساعات من سقوط الأسد، أشارت فيه إلى أن قواتها في القواعد العسكرية في سوريا في “حالة تأهُّب عالية”، ومشيرة إلى أنه “لا يوجد أي تهديد جدّي لأمن هذه القواعد”، وذكرت أنها اتخذت الإجراءات اللازمة لضمان سلامة حياة المواطنين الروس في سوريا.
وصرّح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، في 9 ديسمبر/ الجاري، أن بلاده ستدخل في محادثات مع السلطات السورية الجديدة بشأن مستقبل وجودها العسكري في المنطقة، وقال: “نبذل الآن كل ما في وسعنا للتواصل مع المعنيين بضمان الأمن، وبالطبع يتخذ جيشنا كل التدابير اللازمة”.
بينما أظهرت صور التقطتها شركة خدمات الأقمار الصناعية “ماكسار” في 10 ديسمبر/كانون الأول، أن بعض السفن الروسية غادرت قاعدة طرطوس البحرية في 8 ديسمبر/ كانون الاول، لكنها عادت إلى قبالة السواحل في البحر الأبيض المتوسط، بينما أظهرت صور أخرى اُلتقطت في اليوم نفسه استمرار النشاط في قاعدة حميميم الجوية، إذ كانت الطائرات النفاثة مرئية بوضوح على المدرج.
وفي 17 ديسمبر/ كانون الأول، أكد مسؤولون أمريكيون وليبيون لصحيفة “وول ستريت جورنال”، أن طائرات شحن روسية نقلت معدّات دفاع جوي متقدمة -بما في ذلك رادارات لأنظمة الدفاع الجوي إس-400 وإس-300، من سوريا إلى قواعد في شرق ليبيا يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
كما كشفت صور شركة تصوير الأرض الأمريكية “بلانيت لابز” عن حشد للمركبات العسكرية في ميناء طرطوس وقاعدة حميميم، في استعداد لعملية إخلاء جزئي ريثما تتفاوض روسيا مع الحكومة السورية الجديدة، بحسب الصور التي حلّلتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وأشارت إلى دلائل تؤكد على نشاط مستمر، يشمل طائرات نقل عسكرية كبيرة، حيث شوهدت طائرتان كبيرتان من طراز أنتونوف 124، يمكن استخدامهما لنقل الأصول خارج سوريا، غادرتا بحلول يوم الثلاثاء، في حين عادت طائرتان كبيرتان إلى القاعدة بحلول صباح يوم الأربعاء.
ويرجع المحلل العسكري والاستراتيجي العقيد عبد الجبار العكيدي، التحركات الروسية إلى تفاهمات وصفقات دولية بخصوص الوجود الروسي في سوريا، والتي ترتبط بطبيعة الحال ارتباطًا وثيقًا بالحرب الروسية الأوكرانية.
ويؤكد خلال حديثه لـ”نون بوست” أن الانسحاب الروسي من سوريا غير واضح، وربما يكون جزئيًا في المرحلة الحالية، لكن الوجود الروسي يرتبط في العلاقة الروسية مع الإدارة السورية الجديدة التي تتعرض إلى ضغوط أيضًا من قبل الاتحاد الأوروبي، واشتراط الحوار معها مقابل انسحاب القواعد العسكرية الروسية من سوريا.
وأوضحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، أن قضية القواعد العسكرية الروسية سيتم النظر فيها حصرًا في إطار العلاقات الثنائية السورية الروسية، ردًّا على تصريحات رئيسة الدائرة الخارجية للاتحاد الأوروبي كايا كلاس، التي اشترطت فتح حوار مع السلطات السورية الجديدة مقابل انسحاب القواعد العسكرية الروسية من سوريا، بينما أكدت زاخاروفا أن “هذه المسألة لا تهم الاتحاد الأوروبي، وهو ليس معنيًا بها”.
ويرى المحلل في الشؤون السياسية والاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط محمود الطرن، أن القاعدة الجوية الروسية في حميميم تتجه نحو التفكيك وصور الأقمار الصناعية تؤكد ذلك، لكن القاعدة البحرية في طرطوس قد تستمر، رغم وجود مشاهد للانسحاب، لكن لا يوجد قرار نهائي بخصوصها، مشيرًا إلى أن الجانب التركي تولّى عملية المفاوضات بهدف بحث مستقبل القاعدة، على أمل إيجاد حل توافقي يقضي بإبقائها تحت التصرف الروسي.
روسيا تخطب ودّ الإدارة السورية
بالتوازي مع التحركات العسكرية الروسية على الأراضي السورية والجدل الواسع حول مصير الوجود العسكري الروسي في سوريا، تحاول روسيا الخروج من عباءة دعمها لنظام الأسد السابق، بهدف الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا.
وتكشف تصريحات المسؤولين الروس منذ سقوط حليفهم نظام الأسد البائد، مدى التودُّد الروسي لبناء علاقات استراتيجية مع الإدارة السورية الجديدة، عبر إرسال رسائل إيجابية تؤكد أن التحول كبير في السياسة الروسية، بعدما كانت تتهم المعارضة السورية بالإرهاب.
ويتضح التفاعل الروسي الإيجابي تجاه الإدارة الجديدة في استمرار عمل سفارتها في العاصمة السورية دمشق، وتأكيدها عدم التعرُّض للعلم الروسي المرفوع فوق سفارتها، حسبما نقلت وكالة “تاس” الروسية عن البعثة الدبلوماسية الروسية في سوريا.
إضافة إلى موقف نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، الذي أكّد موقف موسكو على وحدة الأراضي السورية، وحذّر “إسرائيل” من استغلال الوضع الحالي، ورفض قرار ضمّ الجولان وإبداء استعدادها للحفاظ على الاستقرار الإقليمي، فضلًا عن دعوة رئيس جمهورية الشيشان الروسية رمضان قاديروف، روسيا لرفع هيئة تحرير الشام عن قوائم الإرهاب، مبديًا تقديم الدعم للإدارة السورية الجديدة.
بينما أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أول تعليق بعد سقوط الأسد، أن بلاده لم تهزم في سوريا بسقوط الأسد، بل إنها حققت أهدافها هناك من خلال منع انتشار الإرهاب، مشيرًا إلى أن موسكو قدمت اقتراحات للحكام الجدد في دمشق بشأن بقاء القاعدتين العسكريتين الروسيتين.
وأوضح أن معظم من تواصلت معهم بلاده في سوريا حول مستقبل قاعدتيها العسكريتين الرئيسيتين يدعمون بقاءهما، لكن لا تزال المحادثات جارية، لافتًا إلى أن بلاده أخبرت دولًا مجاورة أنها تستطيع استخدام قاعدتيها الجوية والبحرية في حميميم وطرطوس لإيصال مساعدات إنسانية لسوريا.
الباحث السياسي في مركز جسور للدراسات نوار شعبان، يرى أن موسكو لا تنوي تجديد علاقتها مع الإدارة السورية الجديدة كما كانت مع النظام المخلوع، لأنها سحبت أغلب مواقعها وفكّكت معدّات ضخمة، ما يشير إلى أنها تؤسّس لعلاقة جديدة تحفظ بشكل أولي مصالحها.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن التصريحات الروسية منذ سقوط الأسد تؤكد أن موسكو لا تنوي العداء مع الإدارة السورية، وهي تنأى بنفسها عمّا قام به الأسد، لا سيما المشاهد التي ظهرت في المعتقلات والسجون السورية التي رفعت حدّة التصريحات الروسية”، مضيفًا أن روسيا تعمل على إبقاء شكل من أشكال النفوذ والعلاقات مع الإدارة الجديدة.
ويعتقد الباحث أن موسكو تنظر إلى سوريا من منظور مصالحها في سوريا، ولا تربطها بمحددات دعمها للنظام السابق، لذلك تنأى بنفسها عن الجرائم التي ارتكبها حليفها، مشيرًا إلى أن موسكو تدرك أنه لا يمكن أن تبقى على نفس تفاصيل العلاقة مع الإدارة السورية الجديدة.
طبيعة العلاقة الروسية السورية الجديدة
اكتسبت روسيا حضورًا واسعًا في سوريا على مدى عقود طويلة أثناء حكم الأسد الأب والأسد الابن، رغم وجودها خارج حدودها الإقليمية، كونها تتموضع في منطقة حسّاسة تتعدد فيها القوى، إذ يشكل الموقع الجغرافي لسوريا أهمية كبيرة في الحفاظ على النفوذ الروسي والعسكري الاستراتيجي، فضلًا عن المصالح الاقتصادية التي تتمثل في النفط والغاز، والسياسية التي تمكّنها من فرض وتعزيز وجودها في المنطقة أمام الدول الفاعلة.
ويبدو أن التطورات التي شهدتها سوريا خلال الأسابيع القليلة الماضية، باتت تهدد فعليًا الوجود العسكري الروسي، الذي يفرض بطبيعة الحال تأثيرًا اقتصاديًا وسياسيًا على البلد، لذلك باتت تهرول نحو إيجاد مسار يحقق استمرار قواعدها على الأراضي السورية.
ويرى المحلل في الشؤون السياسية والاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط محمود الطرن، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن العلاقة القائمة بين كل من موسكو وإدارة دمشق الجديدة مؤقتة، لأن هناك مصالح متشابكة بين الطرفين، وكل منهما يمتلك بطاقات للمفاوضات، وتكون محددات تلك العلاقة بناءً على التنازلات التي يمكن أن يقدمها الأطراف لقاء مصالحهم.
ويضيف أن المصالح الروسية ترتبط بقاعدة طرطوس في الدرجة الأولى، لأنها تعتبر أحد أهم خطوط الإمداد اللوجستي للقواعد العسكرية الروسية في ليبيا وأفريقيا، إضافة إلى الديون التي منحتها للنظام السابق، واستمرار وجودها يمكّنها من تحصيلها من الإدارة الجديدة، واستمرار وقف تفعيل مشروع خط الغاز القطري كونه يهدد الأمن القومي الروسي.
ويبدو أن خطوات موسكو تسير باتجاه إعادة رسم علاقتها مع إدارة دمشق بما يحافظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا، لكن رغم حصولها على ضمانات أولية تضمن عمل القاعدتين العسكريتين الروسيتين على الساحل السوري، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة على الصعيدَين الداخلي والخارجي، بسبب مساندتها لحليفها السابق نظام الأسد.
وأبرمت موسكو اتفاقيات عديدة مع النظام المخلوع، أبرزها توقيع اتفاقية مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية الخاصة في أبريل/ نيسان 2019، وتتيح لها هذه الاتفاقية استثمار مرفأ طرطوس لمدة 49 عامًا. بينما وقعت الشركة ذاتها في أبريل/ نيسان 2018 اتفاقية تمكنها من استخراج الفوسفات من مناجم تدمر الشرقية لمدة 50 عامًا، بإنتاج سنوي يصل إلى 2.2 مليون طن. كما وقعت في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ذاته عقدًا مع الشركة العامة للأسمدة في حمص، بهدف استثمار 3 معامل أسمدة لمدة 40 عامًا.
ويرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، أن مصير الاتفاقيات الروسية غير واضح، لكن في الوقت ذاته يمكن لإدارة دمشق الجديدة تجاوزها بموجب قانون دولي، في ظل توافر مناخ سياسي مساعد لإفشال تلك الاتفاقيات.
ويصف علوان تصريحات موسكو بأنها تحاول إظهار الانطباع الجيد، وهي مناورة لكسب الوقت وإيجاد مسار دبلوماسي يحفظ وجودها العسكري على شواطئ البحر المتوسط، وفرصة نجاح هذا المسار ضعيفة بسبب السمعة السيّئة التي اكتسبتها خلال تدخلها العسكري في سوريا.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن العلاقة الروسية مع الإدارة السورية الجديدة في حالة عداء بسبب مشاركتها إلى جانب نظام الأسد في الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، وفي حال تعاطي الإدارة الجديدة معها بشكل إيجابي يضعها أمام ضغط شعبي”.
وأضاف أن العلاقة الروسية السورية ستتعرض لضغوط بعد شروط الاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة الامريكية من جهة أخرى، التي تنص على سحب القواعد الروسية لتقديم المساعدات وإعادة الإعمار، وبالتالي الإدارة الجديدة ستكون أمام تقييمات مرحلية لا تقوى على مجابهتها، في ظل الإلحاح على إيجاد تغيرات داخلية وخارجية في سياستها.
وكان قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع ألمح إلى مصير القواعد العسكرية الروسية في سوريا حيث قال: “لا أعتقد أن سوريا تستطيع الانفكاك عن روسيا بهذه السرعة”.
وجاء حديث الشرع خلال مقابلة مع وكالة “BBC” البريطانية، حيث قال: “نحن مهتمون ببناء علاقات استراتيجية مع روسيا على أساس السيادة السورية واستقلال قرارها. لسنا مستعجلين على إخراج روسيا من سوريا بالشكل الذي يتصوره البعض”.
وأضاف الشرع: “هناك اتفاقيات جائرة بحق سوريا تمت بين روسيا والنظام السابق. سنعمل على إعادة النظر فيها، فإذا كانت تصب في مصلحة سوريا سنلتزم بها، وإن لم تكن كذلك فسيُترك قرارها للشعب ليقرر مصيرها”.
ختامًا، تظهر التحركات الدبلوماسية الروسية في سياق الحفاظ على وجودها على الأراضي السورية، وسط تعدُّد اللاعبين الدوليين، مدى شعورها بعدم الاطمئنان حيال إدارة دمشق الجديدة رغم مناورات المغازلة.. فكيف ستكون العلاقات الروسية-السورية المستقبلية؟