القاهرة والرياض وأبو ظبي، كيف لتلك الوجهات ألا يكون لها ما تقوله في الشأن السوداني؟ فهي التي اختارها رئيس المجلس العسكري السوداني ونائبه في أول زيارة خارج السودان الذي يشهد مظاهرات واعتصامًا لا يتنازل عن مطلب نقل السلطة من الجيش إلى المدنيين.
لا شك والأمر كذلك أن مستجدات ما بعد عزل البشير أخذت لها حيزًا إن لم يكن الأكبر في مباحثات جنرالات المجلس العسكري، تقول بشأنها ردود فعل في السودان أوجست في نفسها خيفة مما عُرف عن موقف القاهرة والرياض وأبو ظبي من مطالب الشعوب وثوراتها.
تحركات خارجية متتالية
في زيارة هي الأولى له خارج السودان منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، في 11 من أبريل/نيسان الماضي، حلَّ رئيس المجلس العسكري السوداني عبد الفتاح البرهان ضيفًا على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في زيارة مثقلة بالدلالات ومفتوحة على شتى التكهنات والتداعيات.
خلال هذه الزيارات بدا تصرف رئيس المجلس العسكري ونائبه كأنهما الحاكمان الفعليان للبلاد، وكأن الداخل السوداني حُسم أمره
أثارت زيارة البرهان الجدل منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها قدمه العاصمة المصرية، فلدى استقباله في قصر الاتحادية، أدَّى الفريق أول عبد الفتاح البرهان تحية عسكرية مثيرة للجدل للمشير السابق عبد الفتاح السيسي، حازت مساحة واسعة من اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي وأثارت غضب البعض على تويتر، وفي حين قرأ فيها البعض دليلاً على “الانكسار والتبعية”، شجب آخرون الانتقادات التي طالت البرهان، لافتين إلى أن البروتوكولات العسكرية تفرض نفسها.
حضر المباحثات – التي اكتنفتها السرية – وزير الخارجية سامح شكري ورئيس الاستخبارات اللواء عباس كامل، وقد تم التوافق على أولوية دعم الإرادة الحرة للشعب السوداني بهدف المساهمة في تحقيق استقرار السودان بعيدًا عن التدخلات الخارجية حسب ما قالت الرئاسة المصرية، في حين قال المجلس العسكري إن رئيسه قدَّم الشكر للرئيس المصري لتأييد وصول السودان إلى غاياته.
تقديم الشكر كان عنوان زيارة سابقة إلى الرياض وأخرى لاحقة إلى أبو ظبي، ففي العاصمة السعودية التقى نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان حميدتي الأمير محمد بن سلمان يومي الخميس والجمعة الماضيين، وتعهد من هناك لولي العهد نيابة عن الشعب السوداني بدعم الرياض وحربها في اليمن، مؤكدًا بقاء القوات السودانية المشاركة في الحرب التي تقودها الرياض وأبو ظبي في اليمن.
بُعيد زيارة مصر أعلن المجلس العسكري زيارة لرئيسه إلى أبو ظبي بعد ساعات فقط من زيارة حميدتي للرياض، أطلع خلالها البرهان ولي عهد أبو ظبي على تطورات الأوضاع في السودان وجهود المجلس والقوى السياسية للوصول إلى حلول مرضية تعزز مكاسب الثورة وصولاً إلى ديمقراطية مستدامة، بحسب ما قالت وكالة الأنباء السودانية، في حين أُحيطت تفاصيل الزيارات الثلاثة بالغموض.
بين توازنات الداخل ومصالح الخارج
3 زيارات في غضون 3 أيام إلى دول المحور الثلاثي، جاءت جميعها في وقت يغلي فيه السودان بعد انسداد أفق مفاوضات قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري وتحديد موعد إضراب عام (يومي الثلاثاء والأربعاء المقبلين) يشمل كل البلاد في رد على إصرار المجلس العسكري على الرئاسة والأغلبية داخل مجلس السيادة وتلويحه باللجوء إلى انتخابات مبكرة.
خلال هذه الزيارات بدا تصرف رئيس المجلس العسكري ونائبه كأنهما الحاكمان الفعليان للبلاد، وكأن الداخل السوداني حُسم أمره، في حين أنه في الواقع لبى كل منهما دعوة قبل تشكيل الحكومة، أي قبل أن يرتب بيته الداخلي.
أثارت الزيارتان المتتاليتان قلق قوى الحرية والتغيير في السودان من تبعات التحركات الخارجية على مصير الثورة السودانية
نتيجة لذلك أيقظت التحركات السودانية الخارجية المتسارعة – لا سيما زيارة البرهان إلى القاهرة – مخاوف بعض السودانيين من إدخال بلادهم في لعبة المحاور الإقليمية على حساب علاقتها بدول أخرى، وذلك في وقت لا يزال فيه المشهد السياسي ضبابيًا.
كما أثارت الزيارتان المتتاليتان قلق قوى الحرية والتغيير في السودان من تبعات التحركات الخارجية على مصير الثورة السودانية، واعتبر كثير من السودانيين أن الزيارتين تؤكدان ما يُقال عن سعي القاهرة والرياض، للإجهاز على الثورة السودانية وعرقلة ترتيبات الانتقال للحكم المدني في المرحلة الانتقالية وتمكين المجلس العسكري من البقاء في حكم البلاد.
وترى قوى الحرية والتغيير في هذا الشأن أن الزيارات الخارجية للمجلس العسكري هي تمدد لصلاحياته وسلطاته، مشيرة إلى أنها تفتح بابًا للتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية السودانية التي تزيد من مخاوف المحتجين السودانيين على مكاسبهم الثورية، وتوحي بأن هناك قوى خارجية تدعم موقف الجيش في الاستحواذ على السلطة.
هل تجمع المصائب المصابينا؟ تحركات المجلس العسكري في دول الإقليم تستهدف الإسلاميين وقوي الحرية والتغيير معاً فعداء السعودية مصر الأمارات للإسلام السياسي معروفة وكذلك خوفهم من إنتشار الموجة الثانية من الربيع العربي التي تمثلها قوي الحرية والتغيير معلومة
— Mohamed hamadnalla (@MHamadnalla) May 26, 2019
يحمل هذا التصريح بين ثناياه قلقًا يُضعف بالتأكيد الثقة التي بدت مهزوزة في مسلسل التفاوض الطويل لتسليم السلطة إلى مدنيين، ويُضاف إلى كل ذلك تطورات المشهد الداخلي التي تكشف مساعي للزج بعناصر جديدة قد تربك المشهد الاحتجاجي بهدف تصفيته، مقابل تعزيز قبضة العسكر على السلطة، بما يهدد بإجهاض التجربة الديمقراطية المنتظرة بعد إسقاط حكم عمر البشير.
ويجعل واقع الحال داخل السودان معنى وجدوى الزيارات للمجلس العسكري المتبوع بصفة “الانتقالي” سؤالاً مُلحًا، ففي دول أخرى قد تُقطع زيارة خارجية لوضع داخلي طارئ يكون بعُشر حساسية وجدية ما يحدث في السودان.
خفايا لعبة المحاور
لم تكن الزيارات الخارجية الأخيرة لقادة المجلس العسكري إلا ردًا على استقبالهم وفود سعودية وإماراتية مصرية مكثفة خاصة بالملف السوداني، واستضافة القاهرة اجتماع لقادة الاتحاد الإفريقي، انتهى إلى تمديد المهلة الممنوحة للمجلس العسكري لتسليم السلطة للمدنيين.
خلال تلك التحركات سعت الدول الثلاثة لاجتذاب السودان إلى محور الرياض أبو ظبي القاهرة عبر تأمين دعم سياسي واقتصادي للمجلس العسكري في وجه التحديات التي تواجه المعارضة والمحتجين لتسليم السلطة لمجلس انتقالي مدني.
بالنسبة للدول الثلاثة المضيفة، فهي أيضًا تسعى إلى تعزيز تواصلها مع دول المنطقة، ومنها السودان، في مواجهة المحور القطري التركي من جهة وإيران من الجهة الأخرى
ارتباط هذا المحور بالولايات المتحدة يجعل التواصل معه مهم للغاية في مساعي النظام الجديد مع الإدارة الأمريكية لقبول صيغة مشاركة القوى العسكرية كجزء من النظام الانتقالي، وأيضًا لحل المشكلات السياسية المتعلقة برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والاقتصادية المتعلقة برفع العقوبات.
الأمر الآخر الذي يشير إليه نشاط قادة المجلس العسكري في الإقليم هو تأكيد الالتزام بدعم التحالف العربي الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن بهدف إعادة موضع السودان كشريك في أمن البحر الأحمر، وهذا يقابله دعم مالي وسياسي للمجلس العسكري.
وقد يفسر ذلك انفراد حميدتي حتى الآن بزيارة الرياض على وجه التحديد، وهو قائد قوات الدعم السريع “الجنجويد” التي تشكل عصب المعارك السودانية في اليمن، التي أصبحت قوة ضاربة تتنامى كل يوم بفعل التدريب وانخراط عناصر قتالية فيها، وسبق له أن أكد – بعد إقرار الرياض وأبو ظبي إرسال حزمة مساعدات إلى السودان – الإبقاء على القوات السودانية في اليمن، رغم المطالبات السابقة بسحبها.
ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في استقبال البرهان
أمَّا بالنسبة للدول الثلاثة المضيفة، فهي أيضًا تسعى إلى تعزيز تواصلها مع دول المنطقة ومنها السودان، في مواجهة المحور القطري التركي من جهة وإيران من الجهة الأخرى، كما تأتي زيارات قادة المجلس العسكري في إطار ترتيبات المنطقة في المرحلة القادمة فيما يُسمى بـ”صفقة القرن” التي لا ترتبط فقط بأمن السودان بل تتصل بالترتيبات المعدة لمستقبل المنطقة الأمني الذي ستكون “إسرائيل” جزءًا منه.
الأمر الأخير هو تعميم نموذج شبيه بالنموذج المصري، حيث تريد هذه الدول إنتاج نظام عسكري جديد بعيد عن إرادة السودانيين، ولا يكف سودانيون عن عقد مقارنات بين تجربتهم والتجربة المصرية مع توقعات بتكرار السيناريو المصري، ويذهب البعض في هذا الصدد إلى حد المقارنة بين بدايات البرهان والسيسي وسط مخاوف متصاعدة من تشابه النهايات.
شبح الثورات المضادة
بات من المعروف منذ ثورات الربيع العربي أن الإمارات والسعودية ومصر دول ماهرة في اختطاف إرادة الشعوب، فإذا كانت مصر تتوجس من صعود الإسلام السياسي في السودان وسلمية تداول السلطة، فإن السعودية والإمارات نذر حاكمهما ثروات النفط خلال السنوات التسعة الماضية على الأقل لسحق ثورات الشعوب في بلاد الآخرين.
الرئيس عمر البشير رحل لكن نظامه يكافح للبقاء ويحارب الثورة الشعبية، فقيادة جيشه تعلمت منه كيفية تبديد الوقت في التفاصيل الصغيرة وترك الآخرين يتصارعون
ووسط جمود المفاوضات بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري تتهيأ الظروف أكثر للدول الثلاثة لممارسة نشاطها في الثورة المضادة في السودان، خاصة مع “تعنت” الطرف الأول ورغبته في السيطرة على مقاليد الحكم، وبدا نتيجة لذلك أن قادة الجيش السوداني بدأوا يتراجعون عن تعهدهم بتسليم السلطة للمدنيين.
في هذا الشأن، عنونت مجلة “فورين بوليسي” تقريرًا لها تساءلت فيه “هل بدأت الثورة المضادة في السوادن؟”، ولخص الصحفي جستن لينش في تقرير المجلة الأمريكية الوضع في السودان بقوله إن الرئيس عمر البشير رحل لكن نظامه يكافح للبقاء ويحارب الثورة الشعبية، فقيادة جيشه تعلمت منه كيفية تبديد الوقت في التفاصيل الصغيرة وترك الآخرين يتصارعون، ما يجعل المعارضة تضعف نفسها.
هذه الإستراتيجية يمكن أن تعمل في كلا الاتجاهين، بحسب الباحث في المجلس الأطلسي كاميرون هدسون، فالاختلافات السياسية في السودان بدأت تبرز ليس فقط بين المحتجين والمجلس العسكري، بل داخل المجلس العسكري نفسه، ويخشى المسؤولون الغربيون من انتشار الأمر إلى مزيد من العنف الجماعي.
وهناك دليل على حدوث انقسام داخل المجلس العسكري، ففي يوم الخميس قال المدعي العام السوداني إنه حاول اعتقال رئيس المخابرات السابق صلاح غوش لكن حرسه أحبطوا ذلك، وتلك علامة على أن جهاز المخابرات في البلاد المتهم بالتعذيب وارتكاب الفظائع في عهد البشير، يسير على قدم وساق.
وعلى الصعيد الخارجي، هناك خلافات كثيرة بشأن مستقبل السودان بين الدول الداعمة له، ويوضح ذلك اختلاف الدوافع بين الدول الثلاثة، فالسعودية والإمارات تدعمان الجيش لحماية مصالحهما المالية والعسكرية، حيث يوفر السودان الجنود الذين يقاتلون مع التحالف السعودي الإماراتي في اليمن، لكن في المقابل دعم البلدان أيضًا الجيش السوداني عبر تقديم 500 مليون دولار للبنك المركزي السوداني، وحول ذلك تكهنات بأنه يمكن استخدام الأموال لشراء الدعم داخل الجيش.
لم أجد بين العسكريين العرب من هو أحقر وأرخص من عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري السوداني ، ذهب إلى #السيسي يشتري دعمه مقابل تسليمه جميع معارضيه من الشباب المصري المقيمين على أرض #السودان ، هذا التعهد وحده كاف لمحاكمة هذا الرجل كمرتكب جريمة ضد الإنسانية ناهيك عن الأخلاق
— جمال سلطان (@GamalSultan1) May 26, 2019
أمَا مصر فيُنظر إليها باعتبارها تدعم المجلس العسكري بهدف منع انتشار عدوى الديمقراطية وصعود الإسلاميين، إذ يتوقع مراقبون أن يتمكن حميدتي من وأد حلم الإسلاميين بالعودة إلى السلطة، معتمدًا على دعم السعودية والإمارات المعروفتين بموقفهما الصارم تجاه حركات الإسلام السياسي بالمنطقة.
ولا يشكل الجيش والقوى الخارجية في السودان وحدهما الثورة المضادة في السودان، فهناك جماعات إسلامية بقيادة أشخاص مثل محمد علي الجزولي وعبد الحي يوسف تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية وسيرت مظاهرة بالخرطوم مؤخرًا، وهناك أيضًا الإخوان المسلمون “الأكثر اعتدالاً”، ويرون أن دستور البلاد يجب أن يتضمن نظام قانون الشريعة، وهو أمر طالب به المجلس العسكري أيضًا.