رغم قلة عددهم قياسًا بإجمالي عدد السكان، إذ لم يتجاوز الملايين الأربعة بنسبة لا تزيد عن 2% إلا أن لمسلمي جنوب إفريقيا في رمضان طقوس وعادات حولت مجتمعهم المسلم الصغير إلى لوحة فنية رائعة، تمتزج فيها الثقافات والأعراق في تجانس يعكس روح التكافل وعمق الاندماج.
حالة من الفرحة تخيم على المناطق ذات الحضور الإسلامي الكبير، مع الإعلان عن قدوم رمضان، تعم أضواءها أرجاء المدن التي يقيم بها المسلمون، فتحوّل الشهر الكريم إلى كرنفالات احتفالية يشهد بها القاص والدان، كفيلة أن تجعل من أماكن تمركز المسلمين قبلة للكثير من مواطني الدولة من ديانات أخرى.
ورغم التحديات التي تواجه مسلمي الدولة الإفريقية إلا أن ذلك لم يحُل دون تنسم روحانيات شهر الصيام الذي يعد بمثابة فرصة سانحة للجميع هناك لالتقاط الأنفاس، والابتعاد قليلًا عن ضغوطات الحياة، وهو ما تجسده المشاعر التي تظلل أرجاء المساجد طيلة أيام الشهر.
تنوع عرقي
تتميّز الأقلية المسلمة هناك بالثراء والتنوع في نسيجها المجتمعي، إذ تتعدد جنسيات خارطتها بشكل قلما يتوفر في بلد مسلم أخر، ويهيمن المسلمون من الأصول الإندونيسية المالاوية، بجانب الهنود على الوضع بصورة كبيرة، حيث يمثّلون 96 % من إجمالي المسلمين هناك.
المسلمون المنحدرون من أصول إندونيسية ماليزية يتركزون في منطقة “الكيب” (غرب) أما ذوي الأصول الهندية فيقيمون أكثر في إقليم “الناتاتل” (شرق) فيما تتوزع الجنسيات الأخرى في بقية مدن البلاد، بينما لا تزيد نسبة المسلمين من أصحاب البشرة السمراء على 3.5% من إجمالي عدد المسلمين هناك.
للإعلام الإسلامي هناك دور محور في توعية الناس برمضان وفضل العبادة فيه، إذ تبث صلاة التراويح يوميًا على الهواء مباشرة عبر المحطات الإذاعية الإسلامية الخاصة في المناطق ذات الكثافة المسلمة منها
هذا ويشكل الهندوس نسبة 1.5% من السكان، فيما تأتي الغالبية للمسيحيين، وينقسـم السـكان إلى أربع جماعات عرقيـة: السود 75 %، والبيض 13.66 %، والملوّنين 8.6 %، والهنود 2.61%، الأمر الذي يؤهل للمقيمين هناك أن يشاهدوا رمضان بكافة أشكال الوجوه والألوان.
“تشعر وأنت تسير في شوارع جنوب إفريقيا لا سيما في المناطق ذات الكثافة المسلمة العالية أنك تسير في شارع الأزهر أو منطقة العتبة والحسين في وسط القاهرة.. الوجوه المتباينة من جنسيات مختلفة تأخذك إلى مكتبات الدرب ومقاهي الفيشاوي والتكية ورحاب الحسين والسيدة”.. بهذه الكلمات علق الصحفي المصري حمدي فتحي على مشاهد التنوع بين جنسيات المسلمين في جنوب إفريقيا.
فتحي الذي أقام في كيب تاون لمدة عامين، قضى خلالهما شهر رمضان مرة على الأقل هناك، أضاف في حديثه لـ “نون بوست” أنه من الصعب أن تفرق بين جنسية هذا وذاك، فالكل على قلب رجل واحد، روح واحدة من التكاتف والتآخي، لا سيما في شهر الصيام الذي يتحول إلى بوتقة من الود والحب والتعاون وأعمال الخير الذي يتسابق لها الجميع في البلاد.
إفطار جماعي بين مسلمي جنوب إفريقيا
اكتظاظ المساجد
تشهد المساجد المنتشرة في ربوع جنوب إفريقيا حالة من الطوارئ خلال أيام رمضان، حيث تكتظ بالمصلين في كل صلاة، فضلًا عن صلاة التراويح التي تشهد حضورًا كثيفًا خلال الأيام العشر الأخيرة وفق ما أشار الصحفي المصري الذي ألمح إلى وجود ما يزيد عن 500 مسجد موزعة في مختلف المدن والأقاليم.
يحرص أبناء الجالية المسلمة هناك على اصطحاب الأطفال والشباب إلى المسجد إلا أن النساء يفضلن الصلاة في المنازل، حيث تتحول معظم المنازل إلى ساحات للعبادة في الليل والنهار، خاصة من ذوي الجنسيات الماليزية والإندونيسية مقارنة بغيرهم وفق ما أشار فتحي.
وأضاف أن للإعلام الإسلامي هناك دور محور في توعية الناس برمضان وفضل العبادة فيه، إذ تبث صلاة التراويح يوميًا على الهواء مباشرة عبر المحطات الإذاعية الإسلامية الخاصة في المناطق ذات الكثافة المسلمة منها ، إذاعة إسلام في جوهانسبرج، وإذاعة 786 في كيب تاون وإذاعة الأنصار في ديربان.
كما يوجد العديد من الصحف التي تخاطب الأقلية المسلمة هناك، على رأسها جريدة القلم، وجريدة رؤى المسلمين، وجريدة الأمة، وجريدة المفتاح، وغيرها من المنشورات الصحفية الخاصة التي تتحول إلى منابر توعوية ودعوية تحظى بإقبال كبير في هذا الشهر المبارك.
ويهجر مسلمو جنوب أفريقيا كل ما يمكن أن يشغلهم عن العبادات خلال الشهر، حيث تصبح تلاوة القرآن النشاط الرئيسي لكل مسلم خلال رمضان، ليله ونهاره، إلى جانب زيارة القبور التي تعتبر عادة لدى مسلمي الدولة الإفريقية في هذا الشهر المبارك، تكثر مع اقتراب العيد، وهو ما يتشابه مع كثير من المجتمعات المسلمة كما في مصر وغيرها.
نشاط كبير للمساجد في رمضان
كرم الضيافة وأعمال الخير
يشتهر مسلمو جنوب إفريقيا بكرم الضيافة الزائد في رمضان، حيث تنتشر دعوات الحضور على مأدبات الإفطار بين المسلمين، وقلما توجد أسرة تفطر بمفردها دون ضيف حاضر على مائدتها، وإذا كان الكرم سمة عامة لأبناء الأقلية طيلة أشهر العام إلا أن الوضع يضاعف في شهر الصيام.
من جانب أخر يعد الشهر موسم قوي لنشاط الجمعيات الخيرية – منها لجنة مسلمي إفريقيا، ولجنة هلال الرجاء، الجمعية الطبية الإسلامية- التي تعزز حضورها لمساعدة فقراء المسلمين على استقبال الشهر وهم في أفضل حال، وفي السياق ذاته يشارك المسلمون في أعمال الخير كذلك، حيث يكونون فرق تطوعية لإعداد وجبات الإفطار وشنط رمضان وتوزيعها على المحتاجين.
كما تتميز مائدة رمضان في هذا البلد بالثراء، فأبناء كل جنسية يميلون للطعام الذي يتناسب معهم ويعكس ثقافتهم، وبما أن الأكثرية للإندونيسيين والهنود فتتصدر وجبات أهل الدولتين موائد الإفطار والسحور على حد سواء، حيث يكثر استخدام التوابل الحارة في إعداد الوجبات والمشروبات مثل الجانجوي والحريرة كنوع من العودة للجذور والحنين إلى وطنهم.
أما عن الأطباق الرئيسية هناك فتتصدرها الحساء المكون من الجزر والكزبرة والسبانخ المضاف إليه الماء، هذا بخلاف فطائر السبانخ والمعجنات الهندية، بجانب أنواع عدة من الحلوى التي تشتهر بها مدن جنوب إفريقيا، بعضها يتسم بالمحلية فيما يتشابه الأكثر من الحلويات الغربية.
نجح المسلمون في فرض أنفسهم كقوة اقتصادية لا يستهان بها، فرسخوا مكانتهم عبر العديد من المقومات، منها تدشين شركات خاصة بهم وبنوك تقدم الخدمات المالية الإسلامية
ويعود تاريخ وصول الإسلام إلى جنوب إفريقيا إلى القرن السابع عشر مع الاحتلال الهولندي لإندونيسيا والملايو, حيث نفت سلطات الاحتلال بعد زعماء المسلمين الذين يقودون حملات المقاومة إلى جنوب إفريقيا ومن هنا كانت معرفة هذه الدولة بالإسلام والمسلمين، وفق ما ذكر عادل جعفر مولتشوا، المدير العام لجمعية أواسا – بريتوريا – بجنوب إفريقيا.
مولتشوا وفي مقال له كشف أنه ومع مر الوقت انتشر المسلمون الوافدون، وتوغّلوا داخل البلاد بعيداً من المناطق الساحلية التي كانت مرساهم عند الوصول الأول، وبقي هناك مَن بقي، وكان من دواعي هذا التنقل الداخليّ طلب الرزق وفضل الله تعالى، بالبحث عن الوظيفة، وعن أراضٍ للسكن، ما أدّى إلى انتشار مجتمعات المسلمين في مدنٍ كثيرة.
وأضاف أن أغلب المسلمين الذي وصلوا للدولة الإفريقية من جهة كيب تاون من شرق جنوب آسيا، ووصلوا إمّا أسارى وإمّا عبيداً، وصاروا أهل الحرف والمهن التي توارثوها منذ أيام رقّهم؛ وما زالوا يتوارثونها جيلاً بعد جيل، أما الذين وصلوا من جهة دربان في ناتال، وهم «الموج الثاني»، وكان أكثرهم أحراراً، إمّا عمّالاً وإمّا تجّاراً، فقد برعوا في التجارة، وأكثر تجاراتهم «أُسَرية» أي «وراثية» جيلاً بعد جيل، وأصبحوا أصحاب شركات كبيرة.
نجح المسلمون في فرض أنفسهم كقوة اقتصادية لا يستهان بها، فرسخوا مكانتهم عبر العديد من المقومات، منها تدشين شركات خاصة بهم وبنوك تقدم الخدمات المالية الإسلامية ؛ مثل المرابحة أو المضاربة، في شراء العقارات أو السيارات أو في القروض، بعضها يملكها مسلمون.