اعتقدتُ في البداية في أثناء القراءة أن ما بين يدي ما هو إلا متتالية قصصية مُحكمة الأسلوب والكتابة، لكن بعد فترة قصيرة تيقنت أنها رواية وتختلف كثيرًا عما قرأته في السابق، فهنا خلطة جميلة يمتزج فيها التاريخي بالخيالي ومن حكايا السندباد وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، تُنسج رواية سراج للكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور.
فهي الرواية الثالثة لها بعد دراستين أدبيتين إحداهما عن أعمال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، بعنوان “الطريق إلى الخيمة الأخرى” سنة 1977، والدراسة الثانية عن الرواية الإفريقية سنة 1980 بعنوان “التابع ينهض، الرواية في غرب أفريقيا” وهذا ليس غريبًا على السيدة رضوى المولودة بالقاهرة في الـ26 من مايو عام 1946، والحاصلة على ليسانس في الأدب الإنجليزى من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1967.
ودراساتها عن الأدب الإفريقي ليست من فراغ أو محض صدفة، فهي حاصلة على دكتوراه في الأدب الأفرو – أمريكى من جامعة ماسا شوستس بالولايات المتحدة سنة 1975، وكانت تشغل وظيفة أستاذ ورئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب جامعة عين شمس.
“أكتب لأنني أحب الكتابة، وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني، وتخيفني، وأنا مولعة بها”، هذا ما كتبته رضوى في مقال لها بعنوان “تجربتي في الكتابة” مُرفق في آخر الرواية التي نحنُ نتكلم عنها، رواية سراج، الرواية الثالثة لها بعد “حَجَر دافئ” بفتح الحاء والجيم، ورواية “خديجة وسوسن” نسخة دار الهلال المصرية، فسراج كتبتها رضوى في شهرى يوليو وأغسطس 1989.
تدور أحداثها في أواخر القرن الـ19 والعودة للتاريخ سؤال تطرحه رضوى دائمًا على نفسها ولا تعرف له إجابة محددة أو إجابة صحيحة، فهي تتساءل أنها ربما تحتمي بالتاريخ على قدر ما فيه من ألم، ومن واقع – كما صاغت الجملة – تستريع النفس منه ولا تملك التعامل الهادئ معه؟ هل العودة للتاريخ للبحث فيه عن سند، عن فهم، عن إجاباب أم هل هروب أم مواجهة؟
غرقت رضوى في الدراسة الأكاديمية، فأنهت الماجستير والدكتوراه، متوجهة للدراسات النقدية، فكان للأدب الإفريقي وكتابات غسان كنفاني حظٌ كبير من اهتمام رضوى
ربما كل هذا سبب لعودة ولجوء رضوى للتاريخ ومادة خصبة للكتابة، فرضوى ظلت فترة طويلة حائرة فيها، لا تعرف هل تجيد الكتابة أم لا، وبالسؤال عن جيلها الذي ضم قامات أدبية عظيمة مثل: بهاء طاهر وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم وغالب هلسا وإبراهيم مبروك، وغيرهم، كان يضعها دائمًا أمام سؤال تطرحه على نفسها: ماذا قدمت أنا؟ فهؤلاء قدموا بشائر تشي بموهبتهم، ولم تكن هي – في رأيها – قد قدمت شيئًا يقنعها بقيمته.
ومع هذه الحيرة الشديدة غرقت رضوى في الدراسة الأكاديمية، فأنهت الماجستير والدكتوراه، متوجهة للدراسات النقدية، فكان للأدب الإفريقي وكتابات غسان كنفاني حظٌ كبير من اهتمام رضوى.
بعد فترة عانت فيها من أزمة صحية، تحديدًا سنة 1980، ولم يكن لها مُعين إلَّا القراءة على فراش النقاهة، أمسكت رضوى القلم وكتبت “عندما غادرت طفولتي وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت ولكنني بعد بكاء وتفكير أيضًا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة”، وهذه كانت البداية بعد التعرض لصدمة سؤال “ماذا لو أن الموت داهمني؟”.
ولم يأخذ التفكير ساعته، قررت رضوى في وقتها أنها لا بد أن تكتب وتكتب، لأن ما بداخلها يستحق أن يخرج على الورقة، حينها كتبت رضوى لكي تترك شيئًا في منديلها المعقود.
“حين سافرتِ سافر الوطن مرة أخرى“ ومن السيرة الذاتية انطلقت رضوى، فما عاشته ومرت به غني بالكثير، ولكي يخرج كما تتمناه وكما صاغته في عقلها، كانت كتابة “الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا” هي الورشة التي أهلتها لما بعد من كتابة.
12 فصلًا، هذا ما تنقسم إليه رواية “سراج”، الصادرة عن دار الهلال المصرية، ولكل فصل اسم، أحيانًا يحمل اسم بطل من أبطال القصة وأحيانًا يتخذ عنوانًا له غاية في الرواية، كعنوان “الحمامة المطوقة” أو “القهوة المحرمة”، فأبطال الرواية القصيرة هذه التي يبلغ عددها 130 صفحة، يتخللها رسوم تعبرية في غاية الجمال والعذوبة، معبرة وتساعدك على الاندماج أكثر في أجواء الرواية، هم: “آمنة وسعيد وعمار وحافظ وتودُّد”.
بين عالم متخيل وآخر معلوم المكان والزمان والأشخاص، له حكايته ونوادره وهمومه وأفراحه، تشق رضوى طريقها في رواية “سراج”
نسجت منهم رضوى عاشور ملحمة بكل معنى الكلمة، سوف تجد هنا كل ما تتمنى إيجاده في رواية تمتعك وتبقى في ذهنك كثيرًا، تحفظ تفاصيلها الصغيرة قبل الطويلة، وتجد نفسك تحيا في عالمها، كأن كل كلمة تخطها رضوى على الورقة في هذه الرواية دعوة مجانية لعالمها، فتنسرق من أي شيء إلَّا رضوى وكتابتها.
“كان السر يتوغل مع الصيادين في البحر، مع العبيد في المزارع، مع البحارة في رحلاتهم البعيدة، مع ذاكرة الشيوخ المقعدين بأبواب الدور، ومع النساء وهن يغنين تهنينات النوم للصغار. كان السر يتوغل وهو محفوظ في القلوب، مقفل عليه ككنوز الأغنياء إلى أن حانت الساعة فأدار كل في القفل مفتاحه وحمل سراجه بيمينه ومضى مع الآخرين”
بين عالم متخيل وآخر معلوم المكان والزمان والأشخاص، له حكايته ونوادره وهمومه وأفراحه، تشق رضوى طريقها في رواية “سراج”، تخلق لعبة ذات مكان متخيل، قائمة على التاريخ، فأنت في البداية في الجزيرة المتخيلة، مكان تصورته رضوى بين شاطئ زنجبار واليمن، حيث آمنة تجلس أمام البحر الذي تخشاه وتكذب قلبها أن لا خوف منه، وحيث عبيد يعملون في المزارع كفلاحين، يُحرّم على باقي سكان الجزيرة دخولها، سلطان وأمراء وخدم وجواري، وأكثر مهنة يمتهنها السكان هنا، الغوص في البحر طلبًا للؤلؤ وما فيه من خير، وعلى الناحية الثانية مع التقدم في الرواية سوف ينكشف لك العالم الآخر، حيث زمن الرواية يقع في الثلث الأخير من القرن الـ19 الذي هو بشكل ما يرتبط مع الجزيرة في أمور كثيرة، أتقنت رضوى صنعها وصياغتها.
“غيبة الأولاد لا تُحجّر القلب العطوف“
في الجهة المقابلة ميناء الإسكندرية، الثورة العرابية بدأت لتوها، الحرب في كل ناحية في القطر المصري، مدافع ثقيلة موجهة من السفن نحو الإسكندرية، الطوابي تنهار والمصابون والموتى في كل مكان! هذا هو العالم الذي اختارته رضوى ليكون النقطة التي تنتقل إليها، وبما أن رضوى تلجأ كثيرًا للتاريخ، تحتمي فيه وتريد الإجابة منه عن الأسئلة المكررة داخلها والملحة، ومن خلال عين سعيد ابن آمنة تعرض رضوى الوضع في مصر في هذه الفترة، وكيف أن الثورة العرابية كانت أكثر من حلم، ولولا الخيانة من الخديوي وأعوانه واستعانتهم بالإنجليز، لما نجحوا في القضاء على الثورة.
العبيد في مصر كالعبيد في الجزيرة، والحال لا يختلف كثيرًا عن هناك
في الرواية هناك أكثر من نقلة عظيمة وتتابع في الأحداث سريع لا يتخلله ملل لحظة، ووصف أكثر من دقيق وروح تاريخية محببة تتنقل بسهولة، فنجد مثلًا التحول الفظيع الذي حدث لسعيد من شخص يعمل في البحر كسائر الباقية، وخروجه من الجزيرة نحو مصر، ويصبح شاهدًا على الثورة العرابية، وما فعلوه الإنجليز خصوصًا في الإسكندرية ثم ذهابه للصعيد وتحوله من بحار إلى فلاح يحيا مع عائلة مصرية، من الأرض رزقها، ثم تلك العودة السريعة للجزيرة مَّرة ثانية بعد أن ينبت داخله التمرد والثورة والصداقة مع العبيد في المزارع، هو وحافظ من تربى معه، هذه كلها نقلات عظيمة، محسوبة بدقة، لا تخرج إلَّا من يد وعقل صانع ماهر يهوى الكتابة وتهواه.
“أنتم شباب تجري الدماء الحارة في عروقكم، ولكن عندما يتقدم بكم العمر ستعرفون أن الإنسان لا يفعل دائمًا ما يتمنى، وأن الشر من حوله أقوى منه ولا يملك الانتصار عليه… الله وحده المنتقم”
العبيد في مصر كالعبيد في الجزيرة، والحال لا يختلف كثيرًا عن هناك، فالأحوال واحدة بطبيعة الحال، ما دام الظلم من يحكم ويتحكم، والرأي لشخص واحد، الخارج عنه، مصيره معروف، فالسجون ممتلئة، وكما استغل الإنجليز فرصة استعانة الخديوي بهم، وضربوا الإسكندرية، وانتهت الثورة، واحتلوا البلدة، فهناك على الجزيرة أوجدوا لأنفسهم مكان ومكانة.
إن الواقع يشعرني بالوحشة وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين. أو يأتون إلي”
الفترة التي كتبت فيها رضوى الرواية، كانت في بدايات الثمانينيات، فترة صعبة، ليس فقط عليها بل على كثير من المثقفين والمواطنين العاديين، فكانت رضوى تحتاج لصرخة قوية تبتعد من خلالها عن الصراخ داخلها، الثورة بمعنى أدق، فخرجت الرواية بكتابة ذكية، قل ما يستطيع أن يفعل مثلها الآن.
هناك كتب تستحوذ على قلبك وعقلك من أول كلمة، تغلق عليك نفسها، وتبدأ في التغلغل فيك، تمدك بكل ما تحتاجه من حب وصداقة وألفة وكتب لم تسمع عنها أو تتمنى قراءتها، تعيش داخلك لا تنساها أبدًا، وهذا ما أحدثته رواية “سراج” عندي
في فصل “الحمامة المطوقة” الذي اعتبره فصلًا في محبة الكتب والكتابة، دليل حي على حب رضوى العظيم للقراءة والكتابة، فهي كما قالت: كانت تلتهم كل ما تجده في الطريق من كُتُب، وتودُّد كانت مثل رضوى، أينعم تودُّد لم تعرف القراءة يومًا ولا الكتابة، لكنها أحبت الفعل، جلست تحت الكنبة تسمع القاضي وهو يحكى لابنه تلك الحكايا المشوقة التي ربت لدى تودُّد الحب، مما دعا لسرقتها الكتاب واحتفاظها به كل هذه السنوات، ما إن تحين لحظته.
“هذه النجوم في السماء هي أرواح أحبابنا الذين ذهبوا، نارها عذاب الفراق ونورها شوق الوصل والتلاقي“
بطبيعة الحال، كانت النهاية في الجزيرة لا تختلف كثيرًا عن مصر، فما حدث هنا حدث هناك وإن كان بشكل دراماتيكي، لكن في النهاية الأمر كان عبارة عن سراج في العتمة، حتى إن انتقل أصحابه إلى مجرد نجوم تهتدي إليهم آمنة في ليلها الطويل.
“الأموات يحتاجوننا كما نحتاجهم، إن لم نوافهم بالسؤال يثقلهم الحزن و تركبهم الوحشـة“
هناك كتب تستحوذ على قلبك وعقلك من أول كلمة، تغلق عليك نفسها، وتبدأ في التغلغل فيك، تمدك بكل ما تحتاجه من حب وصداقة وألفة، وكتب لم تسمع عنها أو تتمنى قراءتها تعيش داخلك، لا تنساها أبدًا، لا تفرغ منها ولا هي، فيكون هذا هو الأثر العظيم، وهذا ما أحدثته رواية “سراج” عندي.
“إني أحب الكتابة لأني أحبها وأيضاً لأن الموت قريب“
بعد هذه السنوات التي مرَّت على وفاة رضوى وقراءتي لهذه الرواية تحديدًا، أستطيع القول إن رضوى تركت أشياء كثيرة في منديلها المعقود.