في الوقت الذي يزداد فيه الحديث بالوقت الحاضر عن طبيعة الهدف الإستراتيجي الذي تسعى وراءه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إعادة انتشارها في الساحة العراقية، فضلًا عن تحشدها العسكري الكبير في منطقة الخليج العربي، الذي جاء مترافقًا مع مطالب أمريكية قدمها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في زيارته الأخيرة للعراق، التي طالب من خلالها بضرورة حل أغلب المليشيات المسلحة القريبة من إيران، إلى جانب مطالبته بضرورة مغادرة قادة هذه المليشيات للساحة العراقية، يبرز الحديث أيضًا عن طبيعة الدور الذي تقوم به هذه المليشيات بالشكل الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى جعلها جزءًا من سياسة التضييق على إيران في المنطقة.
فكلنا يدرك طبيعة الدور الذي تقوم به هذه المليشيات في الساحة العراقية، إلا أن الغموض ما زال يلف الكثير من الملفات المتعلقة بطبيعة دورها الإقليمي، بحيث شكلت قوة دفع كبيرة للطموحات الأمنية الإيرانية في الشرق الأوسط.
إن الفعل المسلح للمليشيات الناشطة على الساحة العراقية لم يقتصر نطاقه داخل العراق فحسب، إنما تعداه ليشمل مناطق أخرى خارج العراق أيضًا، والحديث هنا عن الجوار العراقي وتخومه، ففي سوريا نجد أن بعض هذه الميليشيات قد عُرفت في الساحة السورية قبل العراقية، مثل: كتائب الأمام علي وكتائب أبو الفضل العباس وحركة النجباء، بل تَعدَّى نشاط بعض هذه الميليشيات إلى تقديم الدعم اللوجستي في مجال الاستشارة والتدريب لميليشيات مسلحة في دول أخرى، كما هو الحال في الدعم الذي تقدِّمه هذه المليشيات للحوثيين في اليمن، إذ أعلنت العديد منها استعدادها لمساندة الحوثيين في اليمن والقتال إلى جانبهم في مواجهة العمليات العسكرية التي تقودها المملكة العربية السعودية والإمارات، ومن أبرزها كتائب حزب الله في العراق ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق وحركة النجباء وسرايا الخرساني وكتائب الإمام علي وكتائب سيد الشهداء وحركة العراق الإسلامية وغيرها.
على الرغم من أن أغلب الميليشيات نفت ضلوعها في عملية اختطاف الصيادين القطريين في الصحراء العراقية عام 2016، أعلنت ميليشيا حزب الله تنظيم العراق مسؤوليتها عن اختطافهم
يضاف إلى ما تقدم قيام هذه المليشيات بافتتاح معسكرات للتدريب والدعم اللوجستي، لها أسماء تحمل دلالات ومعاني لا ترتبط بالعراق بل تتعدى ذلك إلى دول عربية أو إقليمية، وبشكل يشير بوضوح إلى أن مهمة المقاتلين لن تكون داخل العراق فحسب، بل قد تتعداه إلى خارجه تمامًا كما هو الحال بالنسبة لتنظيم “داعش”، ففي بابل مثلًا هناك معسكر البقيع، وفي النجف معسكر خاص يحوي نحو 500 عنصر من المليشيات بينهم كويتيون وبحرينيون يُعرف بأسم “أحرار المنامة”، بينما في واسط يوجد معسكر كبير قرب حي سكني في مدينة الكوت يُطلق عليه اسم “جنود الإمام علي خامنئي”، وآخر في مدينة بيجي في محافظة صلاح الدين يُعرف باسم “الشهيد حميد تقوي” وهو أرفع جنرال إيراني قُتل في العراق عام 2015 في معارك تكريت.
إن تطورات الأحداث أشَّرَت إلى الدور المؤثر الذي تلعبه هذه الميليشيات في ساحات إقليمية أخرى، الذي يأتي متماهيًا مع الدور الإيراني في المنطقة، فعلى الرغم من أن أغلب الميليشيات نفت ضلوعها في عملية اختطاف الصيادين القطريين في الصحراء العراقية العام 2016، أعلنت ميليشيا حزب الله تنظيم العراق مسؤوليتها عن اختطافهم، بعد إطلاق سراح بعض عناصر حزب الله اللبناني الذين وقعوا أسرى في يد جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ورغم إعلان رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي أن هؤلاء الصيادين دخلوا بصورة رسمية إلى العراق، فإن عملية اختطافهم أشَّرت بشكل خطير إلى تغلغل هذه الميليشيات داخل الأجهزة الأمنية العراقية.
كما أن الجهة التي نفَّذَت عملية الاختطاف أعلنت أنها نفَّذَت هذه العملية بناءً على أوامر من الحرس الثوري الإيراني والمخابرات الإيرانية، وهو ما ألحق ضررًا كبيرًا بسمعة وسيادة الدولة العراقية، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في مؤتمر صحفي بعد إطلاق سراح الصيادين، علمًا بأن عملية الاختطاف هذه لم تكُن الأولى من نوعها، فقد سبقتها عملية اختطاف 18 عاملًا تركيًا في سبتمبر 2015، فضلًا عن اختطاف 7 طلاب عراقيين في 10 من مايو 2017 في بغداد، بسبب نشاطهم المدني في المظاهرات المطالبة بمحاسبة الفاسدين ومدنية الدولة.
وفقًا لتليفزيون صوت أمريكا، أكد كوتس خلال الاجتماع السنوي للجنة الأمن بمجلس الشيوخ الأمريكي، أن إيران لديها 10 آلاف عنصر من الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية، دربتهم وسلحتهم للقتال في العراق وسوريا
إذ عملت القيادة الإيرانية منذ احتلال العراق على استثمار فرص بسط النفوذ على مصادر القرار السياسي والأمني والاقتصادي والديني في العراق، ونفذت سياسة فاعلة مكنتها من تحقيق مشروعها في العراق، إذ قال مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية دان كوتس إن إيران أرسلت آلاف الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية إلى سوريا واليمن والعراق.
ووفقًا لتليفزيون صوت أمريكا فقد أكد كوتس خلال الاجتماع السنوي للجنة الأمن بمجلس الشيوخ الأمريكي، أن إيران لديها 10 آلاف عنصر من الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية، دربتهم وسلحتهم للقتال في العراق وسوريا، وخلال هذا الاجتماع الذي حضره قادة الأجهزة الأمنية والاستخبارات الأمريكية، قال كوتس إن إيران تهدد الأمن الدولي وإنها رغم الاتفاق النووي الذي أبرمته مع القوى العظمى الستة، ما زالت تحتفظ بقدراتها النووية، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية للانسحاب من الاتفاق فيما بعد.
يذكر أن قوات الحرس الإيراني أنشأت مراكز لتدريب الميليشيات الخارجية يديرها فيلق القدس وتنتشر في أنحاء مختلفة من إيران، ويتم فيها تدريب عناصر الميليشيات الطائفية من سوريا واليمن ولبنان والعراق وأفغانستان والبحرين.
فمع تقادم الزمن وجد الإيرانيون أن جنوب العراق المجاور للسعودية منطقة حيوية للعمل العسكري ضد المملكة العربية السعودية، ويمكن استغلاله لفتح جبهة جديدة ضدها، فقد نجحت قوات الحرس الثوري الإيراني في جعل مدينة السماوة العراقية قاعدة دعم لوجستي واستخباراتي إلى داخل الأراضي السعودية، من خلال الدور الذي تلعبه ميليشيات حزب الله هناك، فضلًا عن تنفيذ هذه الميليشيا بالتعاون مع ميليشيات أخرى مهامَّ التجسس والاستطلاع عبر الحدود العراقية – السعودية، تحديدًا في مناطق السلمان وأم العشوش لصالح الحرس الثوري الإيراني.
كما أنها أطلقت بعض الصواريخ إلى داخل الأراضي السعودية وأعلنت ميليشيا حزب الله مسؤوليتها عن ذلك، بالاضافة إلى قيام منظَّمات المجتمع المدني التابعة لهذه الميليشيا بعمليات تشهير ضد السعودية من خلال التظاهرات أو النشاطات الداعية إلى مقاطعة البضائع السعودية، ممَّا يشير إلى الدور الواسع الذي تلعبه هذه الميليشيات داخل العراق سياسيًا وأمنيًا وحتى اجتماعيًا.
يُذكر أن المؤسَّسات الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني حصلت على كثير من العقود الاستثمارية وتحديدًا في مجال استصلاح الأراضي الزراعية في مدن السماوة والناصرية المحاذية للحدود السعودية خلال فترة حكم نوري المالكي، وبدلًا من استصلاح هذه الأراضي نصب الحرس الثوري الإيراني كثيرًا من أجهزة التنصُّت والاستخبارات والتجسُّس على الحدود السعودية.
نقلت قناة “فوكس نيوز” الأمريكية عن مصادر مخابراتية غربية أن صورًا جديدة للأقمار الصناعية تشير إلى أن إيران تبني معبر حدودي على الحدود السورية العراقية، مما سيفتح طريقًا بريًا مطمئنًا من إيران إلى لبنان لتهريب الأسلحة والنفط
أما في البحرين فقد أعلنت السلطات البحرينية يوم 27 من مارس 2017 اعتقال خلية مسلحة كانت تروم القيام بعمليات مسلحة في العاصمة المنامة، وأشار التقرير الصادر عن وزارة الداخلية البحرينية أن أغلب أعضاء الخلية تلقوا تدريبًا عسكريًا على يد مليشيا حزب الله العراقي، وفي نفس السياق أكد زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي أن التجربة العراقية أثبتت عدم كفاية العمل الدبلوماسي والسياسي من أجل تحقيق النتيجة، وأضاف “هذه رؤيتنا من البداية لما يجري في البحرين، ونعتقد عندما يتصدى أبناء البحرين وشعب البحرين لطريق ذات الشوكة ويجد العدو قوة تقف أمامه لا يستطيع أن يقهرها، فإنه سينصاع وتأتي الحلول المنصفة”.
من جانبه أكد الأمين العام لكتائب سيد الشهداء أبو آلاء الولائي أن ما سماه تمادي سلطات البحرين هو نتيجة لتقصير المجتمع الدولي تجاه الشعب البحريني، معتبرًا أن سحب الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم انتهاك سافر لحقوق المواطنة، مضيفًا “نحن اليوم ومن أرض العراق المقاوم نحذر من سياسة الأنظمة الخليجية القمعية“.
وفقًا لتقرير قناة “فوكس نيوز” الأمريكية، سيمكّن المعبر الحدودي إيران من الحفاظ على اكتمال ممرها البري إلى سوريا ثم بيروت والبحر الأبيض المتوسط
نقلت قناة “فوكس نيوز” الأمريكية عن مصادر مخابراتية غربية أن صورًا جديدة للأقمار الصناعية تشير إلى أن إيران تبني معبر حدودي على الحدود السورية العراقية، مما سيفتح طريقًا بريًا مطمئنًا من إيران إلى لبنان لتهريب الأسلحة والنفط، وتُظهر الصور التي نشرتها قناة “فوكس نيوز”، وتم التقاطها في وقت سابق من هذا الأسبوع، عمليات بناء المعبر الجديد في منطقتي القائم والبوكمال الحدوديتين بين العراق وسوريا، إذ تخضع هذه المنطقة لسيطرة الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، حيث كثفت إيران حضورها في تلك المنطقة منذ الصيف الماضي.
ووفقًا للتقرير، سيمكّن المعبر الحدودي إيران من الحفاظ على اكتمال ممرها البري إلى سوريا ثم بيروت والبحر الأبيض المتوسط، ونقلت “فوكس نيوز” أن الإيرانيين يخططون لاستخدام هذا الطريق الجديد لعمليات التهريب، بما في ذلك تهريب الأسلحة والنفط، للالتفاف على العقوبات الأمريكية، ويقول الخبراء إنه من دون إشراف سوري أو عراقي، سيكون لإيران وحلفائها ميزة غير مسبوقة في نقل ما يريدون.
صور عبر الأقمار الصناعية توضح مسارات الطريق البري السري
وفي سياق ما تقدم تدخل المليشيات المسلحة اليوم على خط الأزمة المشتعلة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية من خلال أدوارها المتماهية مع التوجهات الإيرانية، فرغم عدم صدور مواقف صريحة منها، وذلك بسبب كونها جزءًا من هيكلية الدولة العراقية ممثلة بتحالف الفتح الذي يقوده هادي العامري، لخشيتها من تعرضها لملاحقات أمنية وقانونية، فإنها بالمقابل لديها عنوان واسع تستطيع من خلاله التحرك بكل سهولة، والحديث هنا عن “المقاومة الإسلامية”، فهذا العنوان يقدمها على أنها جزء من مشروع إقليمي يقوده فيلق القدس الإيراني، ولهذا تستطيع التحرك بعيدًا عن الخيارات السيادية العراقية المعلنة، بضرورة الوقوف على الحياد في الصراع الحاليّ.
فحادث الهجوم الصاروخي على مبنى السفارة الأمريكية في بغداد الأسبوع الماضي، الذي يشتبه بقيام مليشيا حزب الله العراقي به، رسالة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية من جهة وللحكومة العراقية من جهة أخرى، مفادها أن هذه المليشيات جزء من خريطة طريق إيرانية لا يمكن لأي حسابات عراقية أو أمريكية النيل منها.
من خلال ما تقدم يمكن القول إنه بعد تحويل أغلب هذه المليشيات إلى مؤسَّسة رسمية ضمن هيئة الحشد الشعبي، أصبح وضعها القانوني يؤهِّلها للاضطلاع بأدوار واسعة خلال المرحلة المقبلة، وأن تكون لها كلمة في الفوضى الجغرافية المحتمَلة في الشرق الأوسط، هذا إلى جانب الدور الذي يلعبه السفير الإيراني في العراق إيرج مسجدي، إذ أشار إيرج مسجدي في أكثر من مناسبة إلى أن العراق يمثِّل خَطّ الدفاع الأول عن إيران، والدخول إلى مدينة الفلوجة هدفه أن تبقى إيران مركزًا للتشيع في العالم، وأنه لولا إيران وفيلق القدس لما تمكن بشار الأسد من الصمود حتى الآن، ومِن ثَمَّ فإنه بوجود هذه الشخصية العسكرية تسعى إيران إلى إحكام سيطرتها أكثر على هذه الميليشيات أولًا والعراق ثانيًا، خشيةً من أي تطوُّرات إقليمية جديدة تفرِزها الضغوطات الأمريكية الحاليّة ضد إيران.