في الوقت الذي يزداد فيه معدل العمل “الفري لانسينج” في العالم كله منذ سنوات عدة، نجد أن العالم العربي تمكن من أن يحذوا حذوًا ملحوظًا في عدد العاملين بهذه الطريقة، ومع استمرار انتشار العمل عن بعد نجد أن الوضع يطرح علينا تساؤلات كثيرة عن طبيعة هذا النوع من العمل والعاملين به، مثل الروتين اليومي والأمان الوظيفي والوضع الاجتماعي، خاصة في البيئات التي لا تعرف طبيعة عملك ولا تملك خلفية واضحة عن ماهيتها، سواء كنت أنت “فري لانس” أو ترغب في العمل بهذه الطريقة.
“الفري لانسينج” له مزايا متعددة قلما نجدها في أي وظيفة أخرى، مثل عدم وجود مدير يتأمر ويتضجر من حين لآخر على العاملين، وحرية العمل من حيث الوقت وعدد الساعات وكمية العمل أيضًا التي يمكنك إنجازها حسب ظروفك وقدرتك على الإنجاز، بل وفي الراتب الذي يمكن أن يكون أضعاف راتبك الحكومي مقابل نفس المهنة، وغيرها الكثير من المميزات، لكن نجد أن هناك تساؤلات مربكة تثير نفسها عن طبيعة العمل بهذه الطريقة مثل المستقبل المهني الذي ينتظر العامل “الفري لانس” والحياة المادية المتذبذبة بل والحالة النفسية المتغيرة الناتجة عن العمل بهذه الطريقة.
مع سرعة انتشار العمل بهذا الشكل وانغماس الكثيرين وراء شاشات الكمبيوتر وقضاء الوقت في إنهاء مهامهم المطلوبة، نجد أن كثيرين، وأنا واحدة منهم، يعيشون في عالم مهني موازٍ لا يوجد له بديل على أرض الواقع
من الناحية الاقتصادية، يقف المرء نفسه أمام خيارين صعبين: هل يبحث عن عمل حكومي براتب قليل ولكنه دائم يضمن له تأمينًا حياتيًا في الكبر، أم يسعى لأن يعيش حياته بطريقته، جامعًا المبلغ المالي الذي يستطيع أن يكونه، ويظل بلا أفق أو أمان وظيفي ومهددًا بالإفلاس في أي لحظة؟ هذا إن افترضنا أن الحصول على وظيفة حكومية في ظل ظروف الحياة العصيبة أمرًا سهلًا! لكن مع مرور الوقت تجد أن الحياة التي تخيلتها أو أردتها تعرقلك في نوع جديد من المعاناة لم يكن في الحسبان.
ألا تجد بديلًا مناسبًا إن ضاق بك العمل المستقل
مع سرعة انتشار العمل بهذا الشكل وانغماس الكثيرين وراء شاشات الكمبيوتر وقضاء الوقت في إنهاء مهامهم المطلوبة، نجد أن كثيرين، يعيشون في عالم مهني موازٍ لا يوجد له بديل على أرض الواقع، لأسباب كثيرة منها العيش في مدينة نائية بلا أفق، فتطرح الحياة تساؤولات عديدة أهمها: ماذا إن اختفى كل ذلك يومًا وأصبح “الفري لانس” أكثر صعوبة؟ ماذا سيكون مصير الكثيرين الذين يعملون عملًا لا يوجد له فرصة أو بديلًا مناسبًا في حياتهم الواقعية من الأساس؟
رغم كثرة عدد العاملين المستقلين حول العالم وانتشارهم، لا يوجد عدد كبير يسيطرون على نمط الحياة الجوهري
وهذا يشكل أحد عوامل المستقبل التي تؤرق “الفري لانسر” وتجعله في خوف دائم من المستقبل، خاصة إن تغيرت ظروفه المادية وأصبحت أفضل من حاله السابق، هل سيرجع مرة أخرى بعد أن اعتاد الرفاهية المطلقة؟ لهذا فإن هذه النقطة مصدر اكتئاب وعدم إحساس بالأمان بالمرة.
لن تقضي يومك مثل الآخرين
رغم كثرة عدد العاملين المستقلين حول العالم وانتشارهم، لا يوجد عدد كبير يسيطرون على نمط الحياة الجوهري، فرغم أن كثيرين يعملون بهذا الشكل إلا أن يظل نمط الحياة الشائع هو الاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى العمل وترتيب الأولويات حسب الإجازة الأسبوعية والتفرغ، وكل الناس في العالم المحيط يتعاملون بهذه الطريقة، وأنت نفسك مطالب أن تحيا مثلهم، ليس في تصريف وقتك وشؤون حياتك بل في تعاملك مع من حولك.
فلن تقدر على الاتصال بأصدقائك في وقت متأخر من الليل لأي غرض لأنك تعرف أنه مشغول ولديه عمل في اليوم التالي، ولن تستطيع أن تقرر السفر المفاجئ مع أحد أصدقائك إلا بعد ترتيبات كثيرة وقد لا يتم الأمر في النهاية، أي باختصار أنت مضطر لأن تخضع إلى النمط الحياتي الخاص بالآخرين، ولن تقدر أن تعيش بطريقتك العبثية إلا فيما يخصك فقط، وهو أحد الأسباب التي تجعلك تعيد النظر في كل شيء حولك وتتساءل هل سيدوم ذلك الوضع طويلًا؟
شبح الاكتئاب
بالطبع ليس شرطًا أن يكون كل “فري لانسر” لديه وقت كبير من الفراغ، بل أن هنالك مستقلين يقضون جُل يومهم أمام شاشات الكمبيوتر ولا يجدون متنفس من الوقت، ولكن لا بد أن تمر عليك فترة من الفراغ، أحيانًا أوقات انتظار عملاء جدد أو تجد أنك تعمل وقتًا قليلًا بمبالغ جيدة وبالتالي لست مضطرًا لأن تشغل وقتك بعمل إضافي، في فترات الفراغ تلك سيدق شبح الاكتئاب بابك وستجد أنك محاط ببعض الأمور التي لا سبيل لعلاجها، مثل الرغبة في أن تعيش حياتك مثل من هم في سنك وأن تخوض الحياة وتتعرف على الأصدقاء وتجرب أشياء كثيرة.
قد يتعجب الكثيرون من وجود شخص يقبض مئات الدولارات شهريًا ويعاني من أعراض مثل هذه، خاصة في ظل شظف العيش والحياة الاقتصادية السيئة التي تدفع الفرد لأن يبذل كل ما بوسعه ليلاحق سباق الزمن
وفرصة حدوث ذلك صعبة بسبب عدم وجودك في بيئة تشجعك على ذلك، ستظل تتذكر ما ينقصك وتخشى من المستقبل، لأن الحاضر لم يعطك الفرصة لتتعلم وتكون خبرات ضرورية لحياتك القادمة، ستظل أثير هواجسك وأفكارك، وسيزداد الأمر أو ينقص حسب طبيعتك الشخصية، فإن كنت أكثر انطواءً ستجد أن الوضع جيد لك ولكن له آثارًا ضارة على حياتك المهنية مستقبلًا، أما إن كنت منطلقًا ومحبًا للحياة ستجد أن الأوقات ليست على ما يرام دائمًا وستضطر لأن تغير جدولك اليومي لتتناسب مع الآخرين.
قد يتعجب الكثيرون من وجود شخص يقبض مئات الدولارات شهريًا ويعاني من أعراض مثل هذه، خاصة في ظل شظف العيش والحياة الاقتصادية السيئة التي تدفع الفرد لأن يبذل كل ما بوسعه ليلاحق سباق الزمن، ولكن من سيجرب ذلك سيجد أنه وإن كان للدخل الجيد ناتج نفسي وحياتي مهم فالحياة النفسية لا تقل أهمية عن ذلك، فإن كنت تعيش تحت وطأة القلق والاكتئاب من الحياة والمستقبل وعدم معرفة ما تحمله لك الأيام؛ ستجد أنه لا معنى للمال ما لم تكن تتمتع بالسلام النفسي أولًا.