في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1922، أُعدم علي كمال بيك، الصحفي والروائي والسياسي العثمانيّ، بعد اختطافه من صالون الحلاقة الذي كان يقصده في إسطنبول. كان الأمر الحكومي يقتضي بإحضاره إلى محكمة الاستقلال في أنقرة لمحاكمته بتهمة الخيانة وتحالفه مع الانجليز ضد الاستقلاليين، لكنّ الأمر لم يسر هكذا.
أثناء المسير من إسطنبول إلى أنقرة، هاجمه عددٌ من الجنود التابعين لقائد الجيش التركي الأول، فانتهى الأمر بجريمةٍ بشعة مات على إثرها علي كمال مقتولًا بالعصيّ والحجارة والسكاكين وبجمجمة هشّمت بالمطارق والهروات قبل أنْ يعلّق جيده على عمودٍ بالقرب بالقرب من محطة القطار حتّى تتسنّى رؤيته لعصمت إينونو، واحد من العقول المدبرة للثورة التركية.
عُلّق على ذلك الجسد المغطّى بالدم رسالةً كُتب عليها “أرتون كمال”، اسمٌ أرمنيّ قصد قاتلوه فيه إهانة الرجل الذي عُرف عنه أنه واحدٌ من أشدّ وأعتى أصوات المعارضة للإبادة الجماعية بحقّ الأرمن وغيرهم من الأقلّيات والإثنيات ممّن عاشوا في الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1923.
تعود القصّة اليوم إلى الواجهة بعد عقودٍ كثيرة. فزوجة علي كمال الأولى كانت فتاة بريطانية توفّيت جرّاء حمّى النفاس التي لاحقتها بعد ولادة طفلها “عثمان” الذي بقيَ مع عائلة أمّه بعد الولادة، ليقرّر تبنّي اسم جدّته لأمه “جونسون” ليكون اسم عائلته، واسمه الأوسط “ويلفريد” كاسمٍ أول له بعد الجريمة البشعة التي تعرّض له والده. وهو الأمر الذي فعلته أخته الكبرى سلمى أيضًا.
علي كمال وزوجته الإنجليزية ويلفريد برون
بعد الحرب العالمية الأولى، عادت ابنة كمال نصف الإنجليزية إلى اسمها التركي “سلمى” وأخذت الجنسية التركية. أمّا ويلفريد، أو عثمان كما كان يُعرف، حافظ على اسمه وكنيته الإنجليزيّتين. يُعرف اليوم في عالم السياسية بأنه جدّ بوريس جونسون، الذي أُعلن اليوم عن انتخابه رئيسًا لوزراء بريطانيا خلفًا لتيريزا، وكان شغل سابقًا مناصب مهمة على رأسها عمدة لندن السابق ووزير الخارجية البريطاني الأسبق. ربّما أصبح من الواضح الآن لماذا عادت القصة إلى الواجهة بعد كلّ ذلك الزمن.
صحفيّ لامع ومعارض عنيد
اسمه الأصليّ علي رضا، وقد اشتغل صحافيًا وناشرًا وشاعرًا يكتب مقالات وقصائد في الصحف التركية مثل صحيفتي إقدام وسربستي (تعني بالتركية حرية) ويوقّعها باسم “كمال علي” فلزمه الاسم وبقي معروفًا به طوال حياته.
نُسخة من صحيفة “إقدام” التي أنشأها وأدارها علي كمال في إسطنبول على مدى سنواتٍ عديدة
وُلد كمال بيك عام 1867 في حيّ السليمانية في إسطنبول لأمٍ شركسية وأبٍ تركيّ كان من المعروفين في عالم الأعمال آنذاك، ما مكّن كمال من العيش برفاهية وتلقّي تعليمًا ممتازًا في عددٍ من المدارس المرموقة التي أنشأها السلطان عبد الحميد على أمل إعداد جيلٍ من الشباب يرقى بالإمبراطورية التي كانت على وشك الانهيار ويُصلح من حالها المريض.
لكنّ الأمور لم تسر كما أراد السلطان تمامًا. فتلك المدارس والجامعات كانت معاقل مثالية لجمعٍ من المعارضين الذين تحدّثوا الفرنسية بطلاقة وتبنّوا الأفكار الليبرالية وتأثروا بأوروبا وديموقراطيّتها وإصلاحاتها الاقتصادية والصناعية في العواصم الكبرى. كان كمال واحدًا منهم بطبيعة الحال، وهو ما تسبّب له بالكثير من المتاعب مع السلطات أدّت إلى سجنه ونفيه إلى مدينة حلب السوريّة.
أدان علي كمال الإبادة الجماعية ضدّ الأرمن موجّهًا اللوم لعددٍ من السياسيّين ومطالبًا بمقاضاة مجلس النواب العثمانيّين المتورّطين بالمذابح
كان المنفى لكمال بمثابة فرصة ممتازة للعمل على مشروعه الأدبي فأنهى كتابة اثنتين من رواياته؛ ممرّضتان (İki Hemşire) وهروب إلى الصحراء (Çölde Bir Sergüzeşt). وبمرور الوقت، طوّر أيديولجيةً سياسية تدعو إلى إمبراطورية عثمانية حرّة ومتعدّدة الثقافات والقوميات توحّد الناس تحت مظلّة الهوية العثمانية المدنية بدلًا من القومية العرقية التي تحطّ من الأقلّيات غير المسلمة الموجودة تحت حكم العثمانيين.
خطاب كمال كان صريحًا للغاية برفضه لمعاملة الدولة العثمانية للأقلّيات، وتحديدًا الأرمن، فأدان الإبادة الجماعية ضدّهم موجّهًا اللوم لعددٍ من السياسيّين ومطالبًا بمقاضاة مجلس النواب العثمانيّين المتورّطين بالمذابح. وتماشيًا مع موقفه الرافض والمُدين ذاك، قام بحملةٍ ضدّ الحركة الكمالية بزعامة أتاتورك والتي كانت مدعومةً من قبل جمعية الاتحاد والترقّي.
بقي اسم عليّ كمال في الذاكرة الجَمعية التركية باعتباره واحدًا من أكثر الخائنين شهرةً في البلاد، واستمرّ اللقب يلاحقه حتى عام 2004 عندما أدرج اتحاد الصحافيّين الأتراك اسم عليّ كمال بين شهداء الصحفيّين في الجمهورية التركية. ما يعني بعد مرور ثمانية عقود من وفاته في تلك الجريمة البشعة، لم يعد يُنظر إلى كمال وفقًا لموقفه السياسيّ الرافض ولكن كواحدٍ من ألمع الصحافيّين في عصره. فقد صاغ كمال على مرّ حياته المهنيّة أكثر من ألف مقال تقريبًا.
لو تمكّن من الفرار والهرب من رجال الشرطة الذين اختطفوه من صالون الحلاقة في ذلك اليوم الذي انتهى بوفاته، لربّما كان نُفي بعد محاكمته في أنقرة إلى أوروبا والعيش فيها حتى عام 1939، وهو العام الذي أصدر فيه البرلمان التركي عفوًا سياسيًا عمّن أُدرجت أسماؤهم في قائمة “الخائنين”. ومن المحتمل أنه كان سيتخذ من لندن مدينةً لمنفاه لحبّه إياها دون أنْ يعلمَ أنّ أحدَ أحفاده سيترأسها ويصبح عمدتها في يومٍ ما قبل أنْ يكون المرشّح الأول لرئاسة الاتحاد الأوروبي جميعه.