عام 2018، كانت الإمارات أول دولة عربية تخرق حالة العزلة التي عاش فيها بشار الأسد، منذ اختياره الحل العسكري لقمع المظاهرات التي اندلعت ضده في معظم المدن السورية ربيع 2011، وطرده من مقعد الجامعة العربية في العام 2012، وأعلنت رسميًا إعادة العلاقات مع دمشق.
يومها نظرت أبو ظبي إلى بشار على أنه “الطرف المنتصر” بعد سبع سنوات من الحرب، وأعادت سفارتها في دمشق على عُجالة، وعيّنت قائمًا بالأعمال الدبلوماسية دون مرتبة سفير، فيما أجّلت خطوة تعيين السفير إلى يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، أي قبل نحو 9 أشهر من سقوطه المدويّ.
وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، ألقى كلمة شهيرة خلال مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الذي عُقد في باريس، يوليو/تموز 2012، تحدث فيها عن ضرورة “وضع حد” لمجازر نظام الأسد ضد الشعب السوري، غير أن موقف الإمارات بعد أقل من عام واحد، اختلف تمامًا من الثورة السورية وجميع ثورات الربيع العربي، واتخذت توجّهًا مناهضًا لما اعتبرت أنها “هيمنة للإسلاميين” على الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا.
دعم الأسد سرًا وعلانية
وتبنّت الإمارات، وفقًا لهذا التوجّه، ما عُرف إعلاميًا بـ”تيار الثورات المضادة”، في دول الربيع العربي، وعلى رأسها مصر وليبيا، إذ كانت ركنًا أساسيًا في مشروع الانقلاب على الرئيس الراحل “محمد مرسي”، أول رئيس منتخب في تاريخ مصر، كما شجّعت ودعمت نشوء كيان انفصالي في شرق ليبيا، عن طريق حكومة بنغازي.
خلال السنوات بين 2013 و2018، اكتفت الإمارات بتنفيذ ما تسمّيها “عمليات إغاثة إنسانية” في المدن السورية المنكوبة بآلة الأسد الحربية، ومهاجمة انتشار ونفوذ كل من تنظيم داعش وإيران في الأراضي السورية، غير أن موقفها تجاه دمشق كان أكثر ثقلًا، إذ استضافت أشخاصًا من عائلة الأسد، وواجهت اتهامات بدعمه ماليًا، وتقديم تدريبات لاستخباراته وطياريه، ومساعدته في الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة عليه، وتحوّل هذا الدعمُ السياسي والاقتصادي من الجانب غير المعلن، إلى مرحلة يمكن تسميتها بـ “رعاية إعادة تأهيل الأسد”.
وفي عام 2020، بدأ التعاون الإماراتي مع الأسد يتخذ طابعًا اقتصاديًا أكثر وضوحًا، فقد بدأت الشركات الإماراتية في التوسّع داخل سوريا، وخاصة في مجالات النفط والإعمار، وكان التغيير الأبرز في هذه العلاقة عام 2022، عندما زار الرئيس المخلوع دولة الإمارات في أول زيارة رسمية له لدولة عربية منذ انطلاق الثورة السورية.
بعد ثلاثة أيام فقط، من شنّ المعارضة السورية معركة “ردع العدوان” وتقدّمها في محافظة حلب، كان الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، من أوائل الرؤساء الذين تواصلوا مع بشار الأسد، وأكد له “تضامن دولة الإمارات مع سوريا ودعمها في محاربة الإرهاب والتطرّف”.
بينما كان التعليق الأوّلي لأبو ظبي عقب هروب بشار الأسد وسيطرة المعارضة السورية على العاصمة دمشق، بلسان المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، أنور قرقاش، الذي قال إن سوريا “ليست في مأمن بعد”، وإن “وجود التشدّد والإرهاب لا يزال مصدرًا أساسيًا للقلق”، أمّا الخارجية الإماراتية فأصدرت أول تعليق رسمي في اليوم التالي من سقوط الأسد، وقالت فيه إنها تؤكد “حرصها على وحدة سوريا وسلامة الدولة الوطنية وضمان الأمن والاستقرار للشعب السوري”.
“قلق” من إسقاط الأسد
وبعد أيام، كان موقف الإمارات أكثر وضوحًا، بشأن الخلفيات الإسلامية للفصائل السورية التي أطلقت معركة إسقاط الأسد وأصبحت مركز القرار في دمشق، وقال “قرقاش” خلال كلمة في “مؤتمر السياسات العالمية” في أبو ظبي: “نسمع تصريحات معقولة وعقلانية حول الوحدة، وعدم فرض نظام على جميع السوريين، لكن من ناحية أخرى، أعتقد أن طبيعة القوى الجديدة، ارتباطها بالإخوان، وارتباطها بالقاعدة، كلها مؤشرات مُقلقة للغاية”.
وكانت تصريحات قرقاش “تعكس تشكيك القيادة الإماراتية تجاه الجماعات الإسلامية بشكل عام”، بحسب ما نقلت وكالة فرانس برس عن “صنم وكيل”، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس”.
تضيف “وكيل” أن “قادة الإمارات يرون أن كل الجماعات التابعة للإسلام السياسي، سواء كانت جماعة الإخوان المسلمين أو هيئة تحرير الشام، تشكل خطرًا على نموذجهم من الحكم، واستنادًا إلى تجربة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، يرون أن تأثير هذه الجماعات مزعزع للاستقرار في جميع أنحاء المنطقة”.
وتنقل الوكالة نفسها عن “أندرياس كريغ” المحاضر في كلية الدراسات الأمنية في كينغز كوليدج بلندن، أن “جماعة الإخوان المسلمين هي فزاعة تستخدمها الإمارات لتقويض مصداقية المجتمع المدني والجهات الفاعلة السياسية الاجتماعية في جميع أنحاء المنطقة (…) وتصويرهم كجزء من سلسلة متصلة تؤدّي في نهاية المطاف (…) إلى السلفية والجهادية على غرار القاعدة أو داعش”. ذلك أنه خلال السنوات الماضية “استثمرت الإمارات في العلاقة مع بشار الأسد، وكانت عاملًا أساسيًا في استمالة دول عربية أخرى، وخصوصًا الخليجية، لتطبيع العلاقات مع حكم الأسد”.
وقريبًا من ذلك، يرى “أيمن الدسوقي”، الباحث في مركز عمران للدراسات، أن الإمارات “لا تستسيغ تيارات الإسلام السياسي باختلافها أنواعها”، وقد يكون ذلك -بحسب رأيه- نابعًا من الاعتقاد بأنها “بيئة خصبة لتشكل حركات عنفية، وبأنها تهديد كامن في ظل قدرتها على استخدام الإسلام الذي يمثل المكون الرئيسي للمجتمعات العربية والإسلامية، للحشد والتعبئة وممارسة نفوذ خارج حدود الدولة الوطنية”.
السبب الحقيقي لقلق الإمارات
في أكثر من مناسبة وتصريح، قدّم “أحمد الشرع” قائد العمليات العسكرية التي أطاحت بالأسد، تطميناتٍ بأنّ التيار الإسلامي الذي يصبغ تشكيله العسكرية “هيئة تحرير الشام”، ليس بصدد فرض رؤيته السياسية على السوريين، وأكد مؤخرًا في حوار مع شبكة بي بي سي البريطانية، أن سوريا “لن تكون نسخة من أفغانستان”.
وفي حوار مع صحيفة “الشرق الأوسط”، حاول “الشرع” أن يسحب جميع المخاوف الإقليمية والدولية من الانتماءات السياسية لتشكيله العسكري، وقال: “الثورة السورية انتهت مع سقوط النظام ولن نسمح بتصديرها إلى أي مكان آخر”، مشدّدًا على أن بلاده “لن تكون منصة لمهاجمة أو إثارة قلق أي دولة عربية أو خليجية مهما كان”.
وليس معلومًا بعد، إذا ما كانت هذه “التطمينات” ستساهم في تبديد مخاوف الإمارات من تكرار “التجربة السورية” في بلدان أخرى تتدخل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل مصر وليبيا، غير أن كلام “أندرياس كريغ” السابق، قد يعطي مؤشرًا واضحًا إلى أن مسألة “حكم الإسلاميين” هي مجرد ورقة يطرحها حكام الإمارات، بعيدًا عن مسألة “القلق” من “نموذج الإخوان المسلمين”، وقد يكون الأمر متعلقًا بشكل مباشر، بما يمكن تسميتها “خرائط النفوذ”، التي يُعاد حاليًا رسمها في منطقة الشرق الأوسط.
ولا يخفى أن تركيا كان لها دور أساسي في “المعركة السياسية” لإسقاط الأسد، ونتج عن ذلك ما يجمع عليه محللون وخبراء، من أنها أصبحت “صاحبة الكلمة العليا” في المشهد السوري، ولعل زيارة رئيس الاستخبارات التركية “إبراهيم كالن” المبكرة إلى دمشق، هي الدليل الأوضح على ذلك، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي المنختب “دونالد ترامب” صراحة حين قال: “مفتاح سوريا أصبح في يد أردوغان”.
ويلخّص “كريغ” طبيعة “القلق الإماراتي” تجاه الوضع في سوريا بالقول: “المشكلة عند الإماراتيين الآن هي أنهم يشعرون أنهم يتنازلون عن مساحة رئيسية في العالم العربي لمنافسيهم، المنافسون الإيديولوجيون في الدوحة وأنقرة“، ويضيف: “لذا فإن تصوير هيئة تحرير الشام على أنها تابعة أو مرتبطة بالإخوان المسلمين هو شكل كسول للغاية من خلق رواية لتقويض وتشويه سمعة هذا الكيان الاجتماعي السياسي الجديد الذي يتم تشكيله أو تطويره داخل سوريا“.
يمكن وصف ما حدث في سوريا بأنه “أشبه بزلزال إقليمي بحاجة إلى وقت لتبلور تداعياته على موازين القوى وشكل النظام الإقليمي الناشئ”، بحسب تعبير الباحث “أيمن الدسوقي”، الذي يقول لـ”نون بوست”، إن الإمارات لديها هواجس بأن ما حدث سيُدخل المنطقة مجددًا في استقطاب إقليمي مع تزايد النفوذ التركي، “وهو ما يعني احتمالية أعلى لانحسار ديناميات المصالحة الإقليمية والتعاون الاقتصادي الإقليمي”.
وفي محاولة من الإمارات لجعل تحركها ضد حكام سوريا الجدد لا يبدو “فرديًا”، فإنها أشركت كلًا من لبنان والأردن، في التعبير عن هذه المخاوف، بالتزامن مع انعقاد “اجتماع العقبة” حول سوريا، في 14 كانون الأول ديسمبر الحالي.
وقالت صحيفة “وول ستريت جورنال”، إن الإمارات ولبنان والأردن، التي كانت لها علاقات ودية مع نظام الأسد، تسعى إلى ضمان عدم هيمنة الإسلاميين على الحكومة القادمة خشية تصاعد التطرف، بينما تبدو تركيا وقطر والسعودية أكثر مرونة بشأن احتمال مشاركة “هيئة تحرير الشام” في الإدارة الجديدة، وفق ما نقلت الصحيفة عن دبلوماسيين عرب.
ويبدو أن الإمارات “أدركت عدم واقعية خياراتها السياسية مع سقوط النظام الذي راهنت عليه وسعت إلى دعمه للبقاء”، وفق “الدسوقي”، الذي يؤكد إدراك حكام الإمارات أنهم “لا يمتلكون أوراق قوة للتأثير النوعي بالمشهد السوري راهنًا”، ولذلك فإن “الدبلوماسية الإماراتية تحاول استيعاب ما حدث وحدود تدخلها، والاكتفاء بالضغط السياسي على الإدارة الجديدة من خلال تصريحاتها واشتراطاتها على أمل التوصل إلى تسويات تراعي هواجسها”.
ويتوقع “الدسوقي” أنه في حال عدم تحقق ذلك وفشل التوصل لتسوية إقليمية بخصوص الوضع الناشئ في سوريا، “فإن ذلك يفتح المجال لدولة الإمارات لاستخدام أدوات ضغط أخرى”.
وربما تبدو علاقات أبو ظبي مع واشنطن إحدى هذه الأدوات، فهي “قادرة على قيادة موقف إقليمي من الدول التي تتخوف من تيارات الإسلام السياسي، وهذا يمكن أن يعقد الموقف في سوريا ويضع الإدارة الجديدة في حالة عزلة من جهة ومواجهة من جهة أخرى”، بحسب الدسوقي، الذي يعتقد أن الإمارات يمكن كذلك أن تمتلك أوراقًا ميدانية، “فلا يخفى على أحد أن الإمارات لديها علاقات جيدة مع العديد من فصائل الجبهة الجنوبية، وبالتالي كلها تبقى أوراق يمكن توظيفها للتأثير بالمشهد السوري”.