لم تمنع الأزمة السياسية الخانقة في الجزائر، استمرار البلاد في التقدم بصورة غير مسبوقة بمجال تكنولوجيات الإعلام والرقمنة، وما يبعث على التفاؤل لبلاد المليون شهيد، منافسة الشركات الناشئة، حديثة العهد في الأسواق الرقمية ومزاحمة الكيانات الكبرى، في فعاليات معرض “تحيا التكنولوجيا” الذي نُظم في باريس قبل أسبوعين، ما فتح الباب على مصراعيه لعرض قدرات شباب الجزائر في هذه المجالات شديدة الأهمية بالأسواق العالمية.
عن مؤتمر باريس.. ما الجديد؟
20 شركة جزائرية شابة دافعت عن ألوان بلادها التي تعيش حمم براكين ثورية، وما زالت تأمل في الحرية والديمقراطية، ولكن في اتجاه موازٍ قدمت الشركات أنشطة لافتة بأحدث التقنيات التكنولوجية والمعلوماتية، بداية من جمع البيانات، مرورًا بالذكاء الاصطناعي ونزهات الأطفال والبيئة والتدريب والعمل المشترك والشبكات، كل هذا لمشاركين تتراوح أعمار أغلبهم بين 20 و30 عامًا.
المشاركة الإيجابية للشركات الجزائرية، سُلط الضوء عليها من جانب وسائل إعلام عالمية، وكذلك زوار معرض “فيفاتش” الذي استقبل نحو 124 ألف شخص خلال الأسابيع الماضية، للتعرف على عمالقة التكنولوجيا الجدد في العالم، وكان لافتًا لهم مشاركة الجزائر رغم ما تمر به من صعاب سياسية.
عسكر الفريق الجزائري في جناج مساحته 100 متر مربع بالمعرض، على بعد خطوات من أجنحة “Google” و”Cisco” العملاقة
كما كانت الفرصة جيدة للشركات الجزائرية، في فتح منافذ ترويجية لأنشطتها بالأسواق العالمية، كما حقق الوفد عبر المساهمة كاتيا ساحي هي وفريقها نجاح ساحق، في مشروع IBM بإحدى مسابقات المعرض، وتفوقت الجزائرية الشابة على نحو 60 فريقًا، وحصلت على جائزة بقيمة 5 آلاف يورو، حيث يساعد مشروعها على اكتشاف ملف المريض وحالته ومساعدة الطبيب على معالجته بنظام تنبؤي مرقمن.
عسكر الفريق الجزائري في جناج مساحته 100 متر مربع بالمعرض، على بعد خطوات من أجنحة “Google” و”Cisco” العملاقة، وعرض الجزائريون أنشطتهم بطرق مبتكرة، ومنهم مريم لاجاتي البالغة من العمر 24 عامًا، وهي مهندسة معمارية ومدير تنفيذي لشركة Yardin Co، وتملك منصة مطابقة تم إطلاقها في فبراير لسرد البيانات عن مواد البناء والعملاء في الجزائر، ويعمل مشروع “لاجاتي” على التوفيق بين عملاء الشركات واحتياجاتهم، وخاصة في إفريقيا.
مريم لاجاتي الرئيس التنفيذي لشركة Yardin Co
أحد المشروعات اللافتة أيضًا، كان من نصيب شركة المجموعة الرقمية الجزائرية “Cooffa“، وهي حديثة العهد، وجرى إنشاؤها منذ أشهر قليلة، ورغم ذلك تملك خطة نشر في 19 دولة، لدعم تجار التجزئة الأفارقة عبر صناديق ذكية مجانية، تعمل مع جهاز لوحي يجمع البيانات ويوزعها، وتمكن المتداولون من الوصول إلى الائتمان المصرفي، حسبما يقول مهدي عمرواش، رئيس المجموعة.
مهدي عمرواش الرئيس التنفيذي لشركة كوفا
بداية النجاح.. الاعتماد على النفس
منذ عام 2009 كان للجزائر حاضنة تكنولوجية عامة واحدة، تتمثل في تقنية سيدي عبد الله التكنولوجية التي تعرضت لانتقادات شديدة من مجتمع التكنولوجيا وقتها، بسبب تعذر الوصول إليها بالسيارة أو وسائل النقل العام، وبعد مناوشات عدة مع السلطات، تم إطلاق حاضنة خاصة، بدعم مشغل الاتصالات Ooredoo، وحازت سمعة أفضل بكثير واستهدفت مساعدة الفائزين بمسابقة خطة الأعمال الوطنية “Tstart” التي كانت تستضيف وتمول عدد قليل من الشركات الناشئة سنويًا.
اهتم مشغل الاتصالات بعمل دورات تدريبية عالية الجودة، ما مكن الشركات من شراء معدات حديثة وقوية، بجانب المساهمة في المساعدات المالية، ورغم ذلك لم تهتم الدولة بالقدر الكافي أو القطاع الخاص، بتدشين جمعيات لرواد الأعمال التكنولوجيين في الجزائر، وظل الأمر يدار بطريقة ارتجالية، حتى أطلقت جمعية أصحاب العمل الجزائرية في أواخر عام 2015 مشروعًا لتعبئة وتشجيع قادة الأعمال الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا، وقدمت المساعدة لرجال الأعمال الشباب في أنشطة التدريب والتواصل.
تطور البنية التحتية للإنترنت في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، فتح الطريق لنمو قطاعات تكنولوجيا المعلومات مثل الاستضافة والتخزين السحابي
هدفت الجمعية الجديدة الجمع بين الجيل الجديد من رواد الأعمال الذين يعيشون في الجزائر، والرواد الذين يعيشون خارجها، وبمساعدة من الحكومة، دشنت مجموعة الجزائر الرقمية لتعزيز الاقتصاد الرقمي، ونجحت في حشد وفد من عشر شركات ناشئة لحضور أحد المعارض بنفس العام في فرنسا.
ومع ازدياد الوعي بأهمية الرقمنة والتكنولوجيا، عينت الحكومة في 2016 أول نائب لوزير الاقتصاد الرقمي وتحديث الأنظمة المالية، معتصم بوضياف، وخلال خطابه الأول، وعد بصياغة قانون لدعم وتعزيز الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة.
معتصم بوضياف الوزير المنتدب لدى وزارة المالية المكلف بالاقتصاد الرقمي
تطور البنية التحتية للإنترنت في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، فتح الطريق لنمو قطاعات تكنولوجيا المعلومات مثل الاستضافة والتخزين السحابي، وذلك بالمشاركة بين القطاع العام والخاص، لتشجيع الشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في البلاد على المضي قدمًا في مشروعاتها، ورغم مواجهة القطاع ضغوطًا ليست سهلة، بسبب سياسات خفض الإنفاق الحكومي، فإن مزايا السياسة الجديدة في البلاد، فتحت الباب للشباب للتأهيل جيدًا للعمل في مجالات تكنولوجيا المعلومات والطاقة الرخيصة، الأمر الذي انعكس بدوره على التطوير السريع بقطاع تكنولوجيا المعلومات.
ارتفع معدل انتشار الإنترنت في الجزائر بحسب هيئة تنظيم البريد والاتصالات الحكومية، من 25.6% عام 2014 إلى 46% عام 2015، مع زيادة إجمالي عدد اشتراكات الإنترنت بنسبة 83.8% إلى 18.6m. وهو ارتفاع كبير، يبرره الإقبال المتزايد على استعمال خدمات البيانات المتنقلة للجيل الثالث التي تم إطلاقها في أواخر عام 2013.
كما ارتفعت اشتراكات 3G بنسبة 91.8% بين عامي 2014 و2015 إلى 16.3 مليون، أو 87.6% من إجمالي اتصالات الإنترنت، وارتفعت أيضًا اتصالات ADSL بنسبة 21.1% إلى 1.84m، وما يسمى بخدمات 4G LTE الثابتة وهي خدمة يقدمها مشغل الاتصالات المملوكة للدولة “Algérie Télécom” لرجال الأعمال وخاصة بالمدن الكبرى، ويتوقع مراقبون ارتفاع استخدام الإنترنت في زيادة عدد الشركات، بعد دعم سرعته بشكل أكبر من شبكات 4G LTE المحمولة.
تضع الدولة آمالاً كبيرةً خلال الأعوام القليلة القادمة، على تمكين قطاعي البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لا سيما أن الدولة ما زالت العميل الرئيسي للقطاع
ويساهم قانون الاتصالات الحاليّ بالبلاد، في زيادة المنافسة بين الشركات بشكل كبير، مما يفتح المجال لانخفاض الأسعار المستمر، مع ضمان الحصول على نفس الخدمة، بل وتطويرها من عوائد الدخل، حيث تمكن هذه التحديثات المستمرة، العملاء الجدد من شراء الاشتراكات واستخدامها في الاستثمارات المطلوبة للاقتصاد الجزائري الذي يعاني من انهيار عائدات النفط منذ انخفاض أسعاره بدءًا من عامي 2014 و2015.
وتضع الدولة آمالاً كبيرة خلال الأعوام القليلة القادمة، على تمكين قطاعي البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لا سيما أن الدولة ما زالت العميل الرئيسي للقطاع، بما يخضع بعض المشروعات للتأخير، وخاصة المشروعات غير العاجلة التي تحتاج إلى بيروقراطية الموافقة المباشرة من السلطات العليا بسبب قيود الميزانية، ورغم هذه المعوقات يبقى الأمل في صعود القطاع الخاص بفضل النمو السريع في استخدام الإنترنت وتحسينات البنية الأساسية المستمرة.
إذا تجاوزت الجزائر أزماتها، واستمرت الدولة في تنفيذ خطط تطوير التكنولوجيا وبناء البنية التحتية الإدارية، تزامنُا مع ظاهرة عودة رواد الأعمال العالميبن في مجال التكنولوجيا وخاصة المغتربين الأفارقة إلى بلدانهم، ستقفز الجزائر بعيدًا جدًا عن جيرانها في هذا المجال الحيوي
وتتميز الجزائر حاليًّا، بتوفير الخدمات المعتمدة على الإنترنت مثل الاستضافة ومراكز البيانات وتطوير المحتوى، وجميعها ضمن قطاعات تكنولوجيا المعلومات الواعدة، صحيح أن هناك نقصًا حادًا في مراكز البيانات، إلا أن القطاع في المجمل، يمثل فرصًا هائلة للمستقبل، بالنظر إلى حجم الشركات والمؤسسات الجزائرية التي تسجل سنويًا على الشبكة، فضلاً عن انخفاض سعر الطاقة في الجزائر، وهي ركن أساسي في تشغيل مراكز البيانات، ما يضمن مزايا تنافسية كبيرة لمستقبل القطاع، وخاصة في تدريب الفنيين بمجالات عدة بأحدث الوسائل التكنولوجية.
وإذا تجاوزت الجزائر أزماتها واستمرت الدولة في تنفيذ خطط تطوير التكنولوجيا وبناء البنية التحتية الإدارية، تزامنًا مع ظاهرة عودة رواد الأعمال العالميين في مجال التكنولوجيا وخاصة المغتربين الأفارقة إلى بلدانهم، للعثور على فرص مثمرة لإطلاق مشاريع تكنولوجية جديدة في بلدانهم الأصلية، ستقفز الجزائر بعيدًا جدًا عن جيرانها، في هذا المجال الحيوي.