ترجمة وتحرير: نون بوست
كان جثماناهما يرقدان جنبا إلى جنب، لا يفترقان: ”قطعة واحدة، كفن واحد، قبر واحد… ملكان صغيران، قُتلا حرقا“.
هكذا وصفت صديقتي العزيزة، أستاذة اللغة الإنجليزية عبير بركات، رحيل ابنة أخيها دانيا (7 سنوات)، وشقيقها يحيى (4 سنوات).
وجدت عبير، التي كانت تدرّس بالكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في غزة، صعوبة في وصف “الجريمة الإسرائيلية البشعة” التي أودت بحياة شقيقها الأصغر طارق وزوجته وطفليهما الصغيرين.
حُرق أفراد أحياء في خيمة بقرية الزوايدة في غزة، بعد أن قصفت إسرائيل المنطقة في أوائل الشهر الماضي؛ حيث أصاب صاروخ خيمتهم بشكل مباشر، ولم يترك لهم أي فرصة للنجاة.
في مشهد مؤلم يجب أن يؤرّق ضمير العالم إلى الأبد، تصل خالة طارق، نعيمة (69 سنة)، إلى سيارة الإسعاف للتعرف على جثة ابن شقيقها المتفحمة.
بصوت مرتجف أكدت للمسعفين هويته، وهمست بصوت مرتجف من شدة الصدمة: “لقد استهدفوه مع طفليه الصغيرين وزوجته وأحرقوه حياً”.
صرخت ولطمت وجهها بحسرة، وأضافت: “لم يقتلوهم فحسب، بل أحرقوهم، أحرقوهم، أحرقوهم، أحرقوهم”.
حاول المسعفون تهدئتها بينما كانت تلاحقهم في يأس لإلقاء نظرة أخيرة على أحبائها، لكن مع وجود أهوال جديدة تنتظرها في ممرات المستشفى، حثها المسعفون على الصمود والتحلي بالقوة. لم يتبق لها شيء سوى الدمار.
خسارة لا يمكن تصورها
كل من في غزة يعرف نعيمة، المعلمة السابقة في منظمة الأونروا، كانت ذات حضور بارز في الماضي، وإحدى الأيقونات في غزة؛ حيث أمضت عقودًا في إعداد أجيال من الرياضيين، وكانت شخصيتها رمزًا للقوة والصمود.
كانت القلب النابض للاحتفالات والمناسبات الرياضية والمهرجانات والمباريات في قطاع غزة، وعُرفت بتفانيها الشديد وأناقتها وأسلوبها المميز.
والآن، بعد مرور سنة على بداية هذه الإبادة الجماعية، اختفت تلك الأناقة بسبب المآسي التي لا يمكن تصورها، فقد سلبتها الحرب الإسرائيلية كل شيء: منزلها الذي بنته طوال عمر كامل من العمل الشاق، وإحساسها بالأمان، وميدالياتها، وصورها الثمينة، وتذكارات إنجازاتها، وحتى الملابس الجميلة التي كانت ترتديها.
تقف اليوم في رواق المستشفى الموحش حافية القدمين بملابس النزوح، في اختبار لا يمكن تحمّله: فحص جثث أفراد عائلتها.
كان الناجي الوحيد من المذبحة هو زياد (13 سنة)، والذي قرر بالصدفة أن يقضي تلك الليلة مع عمته الكبرى، وأصبح الآن يتيمًا بعد أن فقد والدته ووالده واثنين من أشقائه؛ لينضم إلى ما يقدر بـ 20,000 طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما في الهجمات الإسرائيلية، وهي خسارة لا يمكن تعويضها أبداً.
أصبحت أهوال القصف وحرق الناس أحياءً هي الأمر المعتاد وليس الاستثناء في كل ركن من أركان قطاع غزة.
ففي منطقة المواصي بخان يونس، والتي يُزعم أنها منطقة إنسانية آمنة، يستمر الاستهداف الوحشي للعائلات بلا توقف. إن تسمية هذه المنطقة بـ”المنطقة الآمنة” ليس أمرا مضللا فحسب، بل مفارقة مأساوية، لأنها أصبحت مقبرة لعدد لا يحصى من المدنيين.
كل هذا جزء من سياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل، وهي إبادة جماعية ممنهجة؛ حيث فقد جيراننا الذين يعيشون على بعد أقل من كيلومتر من منزل عائلتي ثمانية أفراد في غارة إسرائيلية مؤخرًا. وبعد يومين، قصفت طائرة هليكوبتر خيامًا في المواصي، مما أدى إلى إصابة 12 شخصًا بجروح خطيرة، من بينهم نساء وأطفال. وبعد ذلك بساعات، استُهدفت خيمة أخرى في المنطقة وأُحرقت، مما أدى إلى مقتل شخصين، أحدهما طفل.
أهوال لا تُوصف
في منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، استهدفت غارة إسرائيلية بطائرة مسيرة مقهى صغيرًا أقيم في خيمة بمنطقة في المواصي، وكان بمثابة شريان حياة لأولئك الذين يبحثون عن التواصل مع أحبائهم في غزة وخارجها. كان الناس يتجمعون هناك لشحن هواتفهم والوصول إلى الإنترنت وتحميل الدروس، في محاولة يائسة للحفاظ على بعض مظاهر الحياة الطبيعية في ظل الإبادة الجماعية.
قُتل عشرة أشخاص على الفور في هجوم الطائرة المسيرة، وأصيب آخرون بجروح بالغة، وبعضهم أصيب بحروق وتشوهات لا يمكن وصفها، ونُقل الجرحى إلى مستشفى ناصر الذي كان شبه متوقف عن العمل؛ وكان العديد منهم يحتاج إلى عمليات جراحية لإنقاذ حياتهم.
كان هذا المقهى أكثر من مجرد مكان للتجمع، كان ضروريًا لعائلتي؛ حيث كان أبناء وبنات إخوتي يشحنون هواتفهم هناك ويستخدمون الإنترنت في محاولة لمواصلة دراستهم المتوقفة.
قبل أيام من الهجوم، أرسل لي أخي صورة من داخل المقهى وهو يراقب أطفاله، وحين علمت أن المكان قد تعرض للقصف، أُصبت بصدمة رغم أن أقاربي نجوا بمعجزة، حيث غادروا قبل ساعات فقط من الهجوم.
كان ذلك هو الحادث الثاني الذي كاد يودي بحياتهم: ففي 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تركوا هواتفهم لشحنها في متجر ابن عمي، والذي كانت به محطة شحن مجانية تعمل بالطاقة الشمسية. بعد لحظات من مغادرتهم لجلب المياه، قصفت الطائرات الإسرائيلية المتجر وقتلت كل من بداخله.
إن استهداف المدنيين في غزة ليس أمرًا استثنائيًا؛ بل هو الواقع اليومي في “المناطق الآمنة” وغيرها، سواء قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أو بعده. “الأمان” مجرد وهم في غزة، وهي كلمة بلا معنى في القطاع الذي تلاحق فيه الغارات الجوية العائلات حتى في الملاجئ.
تُقتل العائلات في كل مكان قد تلجأ إليه: المنازل والمستشفيات والمدارس التابعة للأمم المتحدة والخيام. في هذه المناطق التي يُزعم أنها آمنة، قُتل أكثر من 60 فردًا من أقاربي؛ حيث استهدفت آلة القتل أربعة أجيال في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولقي خمسة وثلاثون فردًا من عائلة شقيقة زوجي حتفهم في المنطقة الآمنة جنوب غزة في الشهر ذاته.
العالم لا يبالي
نقلتُ هذه الفظائع إلى العالم، لكن شهادات الفلسطينيين غالبًا ما يتم التشكيك بها أو تجاهلها، ولا تجد معاناتنا وآلامنا سوى اللامبالاة. وسط الصمت العالمي والشكوك التي تحيط بروايتنا عن الأحداث، نتساءل عما إذا كانت كلماتنا وصرخاتنا وخسائرنا تهم أحدًا خارج حدود غزة المحاصرة.
بعد مرور أكثر من 430 يومًا على انطلاق الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، لا يزال مليونا فلسطيني محاصرين في هذا السجن الكبير، محتجزين كرهائن على يد نظام يميني فاشي عازم على إبادتهم تحت ستار الدفاع عن النفس، وهو ادعاء دحضه القانون الدولي.
على مدى عقود، رفع الفلسطينيون أصواتهم عاليًا وتحدثوا عن معاناتهم وعن الاحتلال والتطهير العرقي، لكن العالم يبدو غير مبالٍ بهذه الصرخات.
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عبّرت صديقتي عبير عن هذا الإحباط على صفحتها على فيسبوك وكتبت: “مرت سنة وما تزال المأساة مستمرة، فقدنا أصواتنا، لقد سئمنا من إخبار العالم بما يحدث لأن هذه الممارسات تتكرر باستمرار.. نحن ضحايا صمتكم، لا سامحكم الله جميعاً”.
هذه ليست قصة غزة وحدها، بل هي محنة لا تنتهي لشعب أُجبر منذ قرن على تحمل المعاناة والعنف الاستيطاني الذي لا يمكن أن يتحمله أي بشر.
لا يمكن اختزال معاناة الفلسطينيين من خلال الإحصائيات فحسب، بل بالأحلام المحطمة والعائلات المنكوبة والقدرة على الصمود التي استُنزفت إلى أقصى حد.
العائلات التي احترقت حتى الموت ليست مجرد أرقام. إن صمت العالم في وجه هذه الفظائع يرقى إلى مستوى التواطؤ؛ نحن بحاجة إلى تحرك عالمي حاسم الآن لإنهاء الإبادة الجماعية.
عندما علمت ابنتي غيداء بمعجزة نجاة أقاربنا من الموت، كتبت ما يلي:
أتساءل كيف تبدو وجوهكم الآن..
العيون التي تحمل ضحكات أوقاتنا وذكرياتنا معًا
ماذا شاهدت، وماذا تحمل الآن؟
أتساءل ما الذي تحمله ذكرياتكم؟
كيف تنطوي تحت ظلال هذه الأيام والليالي القاسية التي لا تنتهي؟
صور العالم يتداعى من حولكم، ولا تعرفون ماذا في الأفق
أتساءل ماذا أكلتَم من طعام، وإن كنتم تناولتم أي شيء
ماذا تذوقتم وأنتم لا تعرفون ما إذا كانت اللقمة الأخيرة
وكيف نمتم تحت سماء لا تهدأ أبدًا، ولكنها تسجل كل ما مرّ عليكم
أتساءل متى سأراكم بعد ذلك
وإذا كنت سأجدكم كما تركتكم منذ وقت قريب
أو جزءا من زمن لا أستطيع أن أفهمه، ولكنني شاهدتكم جميعاً تمرون به
ما زلت متمسكة بكم جميعاً، كل يوم، كل ليلة، وفي كل نفَس حائر
لا أستطيع أن أصدق أن حباً كهذا يمكن أن يدوم حتى بعد الموت
ومع ذلك أتساءل، وأنا أحصي الأسماء التي عرفتها ذات مرة
كم منكم لا يزال هنا، وكم منكم قد رحل..
رحلوا مع الريح، إلى الله يعودون مثل الهمسات في قلب الانفجار
عبر الأنقاض والرماد، إنه الشيء الوحيد الذي يدوم، كالخيط الذي يربطنا، حتى عندما تزول كل الأشياء الأخرى.
المصدر: ميدل إيست آي