“آه آمال إيه، أنا عامل قصور رئاسية، وهأعمل تاني… أنتم هاتخوفوني، ولا إيه، أنا اعمل واعمل”.. سرعان ما استدعى المصريون تلك الكلمات التي قالها الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال كلمته على هامش فعاليات المؤتمر الثامن للشباب، الذي عقد بمركز المنارة للمؤتمرات بالقاهرة الجديدة، في 14 سبتمبر/أيلول 2019، ردًا على التصريحات التي قالها حينها الفنان والمقاول محمد علي والتي اتهم فيها السيسي بتبديد أموال المصريين في بناء القصور الرئاسية الفخمة في وقت تعاني فيه الدولة من أزمات اقتصادية خانقة.
جاء استدعاء تلك الكلمات بعد مرور أكثر من 5 سنوات عليها، إثر المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام المصرية والأجنبية للقصر الرئاسي الجديد بالعاصمة الإدارية (60 كم شرق القاهرة)، والذي احتضن فعاليات قمة “الدول الثماني النامية”، التي عُقدت الخميس 19 ديسمبر/كانون الأول 2024، ويعد هذا الظهور هو الأول للقصر إعلاميًا بشكل رسمي في المناسبات الكبرى.
ورغم أهمية القمة التي شارك فيها قادة وزعماء كل من بنغلاديش، إندونيسيا، إيران، ماليزيا، نيجيريا، باكستان، تركيا، بجانب مصر، وتأتي في ظل تطورات إقليمية ودولية دقيقة، تُعيد تشكيل خارطة الشرق الأوسط بأكمله، إلا أن بهرجة القصر والبذخ الواضح في الإنفاق عليه ومساحته الشاسعة سحب الأضواء من تحت هذا الحدث ومخرجاته، وجذب أنظار الجميع حتى الوفود المشاركة.
ويمتد القصر الجديد على مساحة تزيد عن 607 فدان، أي أكثر من مليوني ونصف المليون متر مربع، وهو بذلك يبلغ أكثر من 30 ضعف مساحة البيت الأبيض في واشنطن (18 فدانًا أي ما يقارب 75.6 ألف متر مربع) ونحو 9 أضعاف الكرملين في موسكو (67.2 فدان أي ما يقارب 282.2 ألف متر مربع) وقرابة 32 ضعف قصر باكنغهام في لندن (77 ألف متر مربع) وأكثر من 227 ضعف مساحة قصر الإليزيه في باريس (11 ألف متر مربع).
تناقض مثير للجدل
يأتي استعراض القصر الرئاسي الجديد الذي يتجاوز في فخامته ومساحته القصور الرئاسية في أغنى بلدان العالم، قبل يوم واحد فقط من موافقة المفوضية الأوروبية على منح القاهرة قرضًا بقيمة مليار يورو كانت قد تقدمت به الحكومة المصرية قبل عام تقريبًا، وبعد أيام قليلة من تعليق صندوق النقد الدولي للشريحة الرابعة بسبب عدم اكتمال الحكومة للشروط المطلوبة بحسب خطة الإصلاح المقدمة للحصول على القرض البالغ قيمته 8 مليار دولار.
مشاهد البذخ والإنفاق غير المسبوق على هكذا قصور رئاسية في العالم تعكس حجم البون الشاسع والتناقض الفج بين إنفاق الدولة على الشعب وإنفاقها على مثل تلك القصور، ففي الوقت الذي تنفق فيه الحكومة قرابة 58 مليار دولار لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة ومن بينها القصر الرئاسي، بحسب “رويترز”، يعاني المصريون من واقع معيشي متدنٍ جراء إرهاق كاهلهم بموجات متتالية من الضرائب والرسوم وتقليص الدعم ورفع أسعار السلع والخدمات بمستويات جنونية، بجانب اقتصاد مكبل بالديون والالتزامات التي يدفع محدودي ومتوسطي الدخول فاتورتها الباهظة.
صدق أو لا تصدق..
– يُنفق السيسي على بناء تلك القصور الفخمة بينما يصل حجم ديون مصر الخارجية 152.9 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران الماضي، بعدما كانت 45.2 مليار دولار عندما تولى السلطة عام 2014، ما يعني أنها زادت في سنوات حكمه العشرة بنسبة 238% وهي الزيادة التي لم تعرفها مصر حتى أوقات الاستعمار الأجنبي.
– يأتي هذا البذخ بينما وصل عدد الفقراء في مصر أكثر من 60 مليون مواطن من أصل 107 مليون مصر هم إجمالي عدد السكان، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن هذا العدد مرشح للزيادة إذا ما اعتمدت رؤية البنك الدولي بشأن حد الفقر والذي يبلغ 2 دولار يوميًا وفي بعض الاعتبارات 4 دولار يوميًا.
– يتزامن هذا الإنفاق غير المحدود على بناء القصور مع ارتفاع مُرعب في معدلات التضخم بعدما انهارت العملة المحلية (الجنيه) من 7 جنيهات للدولار حين تولي السيسي الحكم إلى أكثر من 50 جنيها للدولار الواحد اليوم، بتراجع تزيد قيمته عن 700% مما كان له أثره الكارثي على أسعار السلع والخدمات والتي قفزت بشكل فاق قدرة الغالبية العظمى من الشعب المصري الذي لجأ قهرًا إلى التقشف في كل مجالات الحياة.
– في الوقت الذي يفتح فيه السيسي وحكومته خزائن الدولة لمثل تلك المشروعات المليارية والتوجه نحو الاقتراض من الخارج لتغطية كلفتها الباهظة، يطلب من المصريين التقشف وتحمل الأزمات الاقتصادية، ويحثهم على إعادة النظر في ثقافتهم الاستهلاكية والتوجه نحو الترشيد الإجباري في كل شيء.
– كيف يتسق مثل هذا القصر مع وصف السيسي للمصريين بأنهم شعب فقير؟ ففي خطابه 28 يناير/ كانون الثاني 2017، قال في مداخلته بمؤتمر الشباب في أسوان (جنوب)، ردًا على مداخلة سيدة تطالب بالاهتمام بأهل النوبة: “خلي بالك إنك فقير أوي، أه لازم نقول الحقيقة، إحنا فقرا أوي”.
تبريرات غير مقنعة ومثيرة للسخرية
قبل أيام التقى السيسي بعدد من رموز آلته الإعلامية الموالية في جلسة حاول فيها التبرؤ من دماء المصريين وغسل سمعته من اتهامات تبديد أموال الدولة في مشروعات غير ضرورية ومن بينها العاصمة الإدارية وما بها من قصور وأحياء لا تتناسب مطلقًا مع الوضعية الاقتصادية التي تحياها الدولة والتي بسببها تطرق أبواب الدائنين، ليل نهار، شرقا وغربًا، ما يدفع الحكومة للضغط على المواطن من خلال ورقة الدعم التي تقلصت حد التصفير لتوفير ما عليها من التزامات لسد تلك القروض.
أكد السيسي خلال هذا اللقاء وغيره من لقاءات سابقة أن العاصمة الجديدة لم تكلف الدولة المصرية أي شيء، كما خرج رئيس العاصمة الإدارية الجديدة السابق، اللواء أحمد زكي عابدين، ليؤكد هو الآخر أن القصر الرئاسي الذي يتم تشيده في العاصمة لم يكلف موازنة الدولة مليمًا واحدًا، موضحًا في تصريحات صحفية له أن جميع المباني الحكومية والرئاسية والخدمية يتم تمويلها من عائد بيع الأراضي للمستثمرين والشركات العالمية العملاقة.
لكن يبدو أن مثل هذا التبرير لم يقنع، لا خبراء الاقتصاد ولا حتى الشارع المصري، وهو ما ألمحت إليه أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة، والعميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة، عالية المهدي، حين أكدت في حديثها لموقع “الحرة” أن “الدولة ساهمت بشكل أو بآخر في الإنفاق على العاصمة الإدارية، مستشهدة بالقروض التي حصلت عليها لتنفيذ الأبراج التي يتم بناؤها، أو القطارات الكهربائية والمونوريل التي تمر كلها على العاصمة الإدارية، والتي تعد النقطة الأساسية فيها ومن أجلها تم تنفيذ هذه المشروعات”.
يتفق مع هذا الكلام عشرات التصريحات التي نقلتها وسائل الإعلام المؤيدة للنظام حول القروض التي حصلت عليها الحكومة لبناء مشروعات العاصمة الجديدة، منها تصريح وزير الكهرباء السابق محمد شاكر، في 2018، حين أشار إلى أن تكلفة محطة كهرباء العاصمة (من أضخم المحطات في مصر) والبالغة نحو 2.041 مليار يورو، جاءت عن طريق جهات التمويل العالمية والبنوك ولا بدَّ من ردّها، أي أنها ديون على مصر تستوجب السداد من ميزانية الدولة.
كذلك مشروع القطار السريع الذي كلف الدولة 1.2 مليار دولار، وجرى تمويله عبر قرض من بنك صيني، ومشروع المونوريل الذي اقترضت الحكومة لأجله 1.8 مليار يورو، كما اقترضت وزارة الإسكان في عام 2019 مبلغ 3 مليارات دولار من بنوك صينية، من أجل إنشاء حي المال في العاصمة الإدارية.
وأثارت تلك الأرقام التي تفند تصريحات السيسي وحكومته، شكلًا ومضمونًا، سخرية الكثير من المصريين، ممن طالبوا الجهات التي تمول بناء تلك المشروعات الضخمة العملاقة دون أن تحمل الدولة أي شيء أن يوجهوا تلك الأموال لصالح الشعب المصري وأن يمولوا بها مصانع وشركات ومشروعات اقتصادية تعود بالنفع على المصريين.
البحث عن المجد الشخصي.. عقدة “الفشخرة”
منذ تولي السيسي المسؤولية قبل عشرة سنوات، احتلت المشروعات ذات الطابع التمجيدي لشخص الرئيس المرتبة الأولى بين قائمة المشروعات التي ابتلعت عشرات المليارات من الدولارات، رغم الحديث مرارًا وتكرارًا على عدم جدواها في تلك الأوقات الصعبة التي تعاني فيها مصر من أزمات اقتصادية خانقة تجعل من فقه الأولويات ضرورة للتمايز بين المهم والأهم في مسألة المشروعات وطبيعتها وحجم الإنفاق.
وبينما بُحّت أصوات الاقتصاديين والخبراء حول ضرورة توجيه الإنفاق للمشروعات الإنتاجية والتصنيعية والخدمية، التي توفر العملة الصعبة وتقلص من حجم البطالة المرتفع، كان التوجه صوب بناء أكبر برج أيقوني وأعلى سارية وأفخم مسجد وأرقى كنيسة، كذلك المشروعات النوعية التي تُنتسب حتمًا للسيسي وفترته كالتفريعة الجديدة لقناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين وغيرها من المشروعات التي حملت بصمة الرئيس بشكل أساسي.
هذه المليارات التي أنفقت على القصر الرئاسي الجديد في العاصمة الإدارية، والتي كشفها مستوى فخامته ومساحته العريضة التي ظهر عليها خلال استضافته لقمة الثماني النامية، دفعت الكثير من المصريين إلى التساؤل: هل مصر بالفعل بحاجة إلى قصور رئاسية جديدة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تحياها منذ سنوات؟ ألا توجد بالدولة قصور يمكن الاستعانة بها لتلبية الغرض؟ لماذا لم يبنِ مبارك أو من سبقوه قصور رئاسية بالبهرجة والبذخ التي اتبعها السيسي؟
بالعودة إلى خارطة القصور الرئاسية المصرية يلاحظ أن هناك 5 قصور مصنفة على أنها من بين الأكبر في العالم، على رأسها “قصر الاتحادية” كما يطلق عليه “قصر العروبة” الواقع في قلب العاصمة القاهرة، مقر الحكم، والذي يضم أكثر من 400 حجرة إضافة إلى 55 شقة خاصة وقاعات بالغة الضخامة، كذلك “قصر عابدين” الذي يعد تحفة تاريخية نادرة، يجسد واحدة من أهم مراحل مصر التاريخية كونه ظل مقر الحكم من العام 1872 حتى العام 1952، وقد بني عام 1863، وتقدر قيمته بعشرات المليارات من الدولارات نظرًا لموقعه الاستراتيجي وسط القاهرة وما يحتويه على مقتنيات وتحف لا تقدر بثمن.
وهناك “قصر رأس التين” الذي يطل على شاطئ البحر المتوسط بمدينة الإسكندرية وهو أحد المعالم التاريخية والأثرية في المحروسة، فهو القصر الوحيد الذي شهد قيام أسرة محمد علي باشا في مصر وحكمها الذي استمر قرابة 150 عامًا، و”قصر القبة”، وسط القاهرة، أكبر قصور مصر من حيث المساحة، والذي بناه الخديوي إسماعيل، وتحول إلى أحد قصور رئاسة الجمهورية بعد ثورة 23 من يوليو 1952، وقد كان مقر استقبال كبار الزوار إبان فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
إضافة إلى تلك القصور الخمسة الضخمة هناك أكثر من 35 قصرًا ملكيًا آخر، تعود إلى عصور سياسية مختلفة، يمكن لأي واحد منها أن يكون مقرًا للحكم وقصرًا رئاسيًا قادرًا على تمثيل الدولة المصرية خير تمثيل لما يحتضه من كنوز أثرية وتراثية تضرب بجذورها أعماق التاريخ والحضارات المختلفة.
ومع ذلك ترك السيسي كل تلك القصور الفارهة تاريخًا وإرثًا وحضارة ومعمارًا، ليبني قصره الأسطوري في العاصمة الإدارية الجديدة، بعشرات المليارات دون أي اعتبارات أخرى، في حلقة جديدة من مسلسل المجد الشخصي الذي يحاول الرئيس بناءه على أكتاف المصريين ومن جيوبهم، فهو وحدهم من يتحملون كلفة سداد تلك الفاتورة الباهظة في وقت يُزج فيه الملايين من الشعب إلى مستنقعات الفقر أمواجا تلو الأخرى.
احتقان شعبي وشبح الأسد يطل برأسه
أثارت مشاهد القصر رغم احتفاء البعض به بزعم أنه عنوان عريض لفخامة مصر وإمكانياتها العالية، احتقان وغضب السواد الأعظم من المصريين ممن شعروا بخيبة الأمل والصدمة وفقدان الثقة في أمانة الحكومة والنظام عمومًا في إدارة مقدرات الدولة وإنفاقها في مساراتها الصحيحة والتوازن بين التزاماتها واحتياجات الشعب المتصاعدة.
وعبرت ردود الفعل على منصات التواصل الاجتماعي عن حالة الغضب إزاء البذخ الفاضح في تدشين القصر الرئاسي، إذ كتب أحدهم قائلًا: “ده مش مبنى البيت الأبيض ولا مبنى الكرملين ولا مبنى قصر الإليزيه ولا مبنى قصر باكنغهام.. ده قصر السيسي في العاصمة الإدارية الجديدة يا شعب مش لاقي، يأكل فلوسك اهي”. وكتب آخر مغردًا: “تخيل السيسي يستضيف اجتماع دول الثماني النامية للاقتصاد. -ونامية يعني فقيرة! – في العاصمة الإدارية وفي قصر ليس له مثيل في كبرى الدول الغنية كلف المليارات من البزخ وبحضور قادة من دول مختلفة ليتحدث السيسي عن حاجته للمال من أجل الاستثمار وتخطي التحديات وإنقاذ البلد من كوارث اقتصادية!”.
كما تساءل البعض كيف للمصريين أن يقتنعوا بدعوات النظام لهم بالتقشف بينما هو ينفق عشرات المليارات في بناء القصور الرئاسية وأكبر برج وأطول سارية، ثم كيف يقتنع الدائنون بعدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المادية إذا ما طلبت التأجيل أو الجدولة أو الإعفاء في أوقات الاستثناء والضرورة، في الوقت الذي تُنفق فيه مليارات القروض على مثل تلك المشروعات غير الضرورية.
البعض ذهب إلى أن السيسي يحاول من خلال تلك الإمبراطورية التي يدشنها منذ سنوات حماية نفسه من أي استهداف شعبي او احتجاجات قد تطيح به خارج المشهد، خاصة بعد اتساع البون بينه وبين المصريين والذي يزداد يومًا بعد الأخر، إلا أن ذلك يتعارض- بحسب آخرين- مع نواميس الكون التي تؤكد أن الجدران الخرسانية والقصور المشيدة والأسوار العالية، لا يمكنها أن تحمي حاكم من شعبه طول الأمد، فالطاولة قد تُقلب في لحظات، ولعل ما حدث في سوريا خير مثال على ذلك.
فعلى مدار سنوات طويلة بنى خلالها رئيس النظام السوري المخلوع الهارب، بشار الأسد، ترسانة من القصور والسياج الحامية، على رأسها القصر الرئاسي المعروف باسم “قصر الشعب” الواقع على قمة جبل المزة غرب دمشق على مساحة قدرها 510.000 متر مربع، والذي كان يعده البعض القلعة الحصينة التي لا يمكن اختراقها، ومع ذلك نجح السوريون بإرادتهم، بعدما طفح بهم الكيل، في إجباره على الهروب خلسة في جنح الليل، دون حتى أن يٌخبر أفراد عائلته التي لحقت به هربًا عبر الحدود.
ويبدو أن شبح الأسد سيظل كابوسًا يطارد السيسي وغيره من رؤوس الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، ممن حولوا بلدانهم إلى “تكايا” ينفقون بها على مجدهم الشخصي، وسُلمًا يصعدون عليه نحو الخلود، على حساب الشعوب التي تدفع وحدها فاتورة “الفشخرة” و”المنظرة”، متوهمة أنها مانعتهم حصونهم من الشعب الذي قد يأتيهم من حيث لم يحتسبوا.