كما هي العادة في منطقتنا، فإن المناصب المهمة التي تتعلق بمصير بلداننا ومصير أحزابها، يتم توريثها للأولاد ثم الأحفاد، وبطريقة تنطبق عليها المعايير “الديمقراطية” التي يفصلونها حسب المقاييس التي ترضيهم، والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها، والأحزاب الكردية بإقليم كردستان لا تخرج عن تلك القاعدة.
فحكومة الإقليم تدار منذ وقت طويل من عائلة البارزاني، ولا تكاد تخرج من هذه العائلة المناصب المهمة، حتى لو اقتضى ذلك تعطيل الحكومة والبرلمان ودوائر الإقليم وتعطيل مصالح الناس، وحتى لو أصبحت الديمقراطية التي يتحدثون عنها كخرقة بالية يُمسح فيها سوءات السياسيين.
هذا ما حدث في أزمة ولاية مسعود البارزاني الذي أصر على البقاء بمنصبه كرئيس للإقليم لمدة 12 عامًا، ضاربًا الديمقراطية التي يتغنى بها عرض الحائط، ولولا الرفض الجماهيري لولايته، لربما استمر لـ12 سنة أخرى.
العملية السياسية في إقليم كردستان لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها في بغداد، فقد تطلبت مدة ما يقارب السنة لانتخاب رئيس للإقليم بعد أن أجريت الانتخابات البرلمانية في 30 من سبتمبر/أيلول من العام الماضي، ولا نعرف كم ستستغرق مدة تشكيل حكومة الإقليم التي سيكلف الرئيس الجديد نيجيرفان بارزاني ابن عمه مسرور بارزاني نجل مسعود بارزاني بتشكيلها، في وقت ما زالت حكومة بغداد إلى الآن ناقصة.
قرابة نصف القوى الكردية كانت ضد انتخابه، الأمر الذي يعتبر نكسة في تاريخ نيجيرفان السياسي، فهو لم يحصل على الإجماع الكردي المطلوب لمثل هذا المنصب
وعلى ما يبدو فإن إصرار حزب البارزاني على حسم مناصب رئاسة الإقليم وتشكيل الحكومة والاستيلاء على المناصب المهمة فيها، جعلهم يستعجلون عقد جلسة للبرلمان الكردي، رغم مقاطعة الاتحاد الوطني الكردستاني المنافس الأهم للبرزانيين، وامتناع أحزاب مهمة أخرى عن المشاركة بجلسة انتخاب رئيس الإقليم، فما كان من الحزب الديمقراطي الكردستاني (حزب البارزاني)، إلا الاستفادة من عدد مقاعد حزبه الكثيرة في البرلمان الكردي (45 مقعدًا) ومقاعد حزب التغير (12 مقعدًا) الذي أعطى أصواته للبارزاني نكاية بحزب الاتحاد، بالإضافة إلى مقاعد الأقليات، لفرض إرادته على باقي الأحزاب الكردية، ليتم فيها انتخاب نيجيرفان بارزاني رئيسًا للإقليم.
قراءة سريعة للمقاعد التي صوتت لنيجيرفان بارزاني، تبين لنا، أن قرابة نصف القوى الكردية كانت ضد انتخابه، الأمر الذي يعتبر نكسة في تاريخ نيجيرفان السياسي، فهو لم يحصل على الإجماع الكردي المطلوب لمثل هذا المنصب، رغم أنه طرح نفسه بوصفة البديل الآمن لعمه مسعود بارزاني.
لم تكن اعتراضات حزب الاتحاد الكردستاني على الحزب الديمقراطي الكردستاني في جلسة انتخاب رئيس الإقليم، لأنه قد أخلَّ بالمعاير الديمقراطية كما يظن البعض، إنما كان اعتراضه لأسباب تتعلق بالمناصب الحكومية التي يريدها حزب الاتحاد، سواء في بغداد أم في حكومة الإقليم، أما القشة التي قسمت ظهر العلاقة بين الحزبين، فكانت منصب محافظ كركوك الذي أصر حزب الاتحاد على أن يكون من حصته والاتفاق على تسميته قبل الذهاب لانتخاب رئيس الإقليم.
رغم أن نيجيرفان بارزاني تقلَّد مناصب مهمة وعديدة طيلة الفترة التي حكم بها الكرد مناطقهم بمعزل عن حكومة بغداد بدءًا من التسعينيات، فإن نجمه لم يبزغ سوى بعد أن استلم التركة الثقيلة من عمه مسعود البارزاني
وبالتالي فإن كلا الحزبين ليس لديهم اعتراض على ما يدور في هذه العملية السياسية من محاصصة حزبية وعائلية، إنما الخلاف كان بشأن المناصب فقط، وهذا ما تعترض عليه معظم أحزاب المعارضة الكردية.
نيجيرفان بارزاني.. ماله وما عليه
رغم أن نيجيرفان بارزاني تقلَّد مناصب مهمة وعديدة طيلة الفترة التي حكم بها الكرد مناطقهم بمعزل عن حكومة بغداد بدءًا من التسعينيات، فإن نجمه لم يبزغ سوى بعد أن استلم التركة الثقيلة من عمه مسعود البارزاني، بعد أن أقدم الأخير على مغامرته بإجراء استفتاء في الإقليم على الانفصال من العراق، حينها استلم نيجيرفان مقاليد السلطة في الإقليم من عمه، ليديرها ويحاول ترميم التصدع الذي حصل بعلاقات الإقليم الداخلية ومع حكومة المركز ودول الجوار ودول العالم الفاعلة التي معظمها نصحت الكرد بعدم الإقدام على خطوة الاستفتاء.
نجح نيجيرفان بشكل ملفت بترميم تلك العلاقات وإرجاع الكثير منها إلى سابق عهدها، إذا لم تكن أفضل من حالتها التي كانت عليها إبان حكم عمه مسعود البارزاني، بالأخص فيما يتعلق بعلاقتهم بالمركز، فرغم القرارات القاسية التي أقرها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي ضد حكومة الإقليم، وكانت الأمور تمضي إلى مواجهة حتمية بين الجانبين، فقد استطاع وببراعة نزع فتيل التوتر بين الإقليم وحكومة المركز، ربما يرجع ذلك إلى شخصية نيجيرفان الدبلوماسية التي تبتعد في طبيعتها عن الخطابات والشعارات النارية التي تتغنى بالأحلام القومية الكردية التي تبناها سلفه مسعود البارزاني.
رغم النجاحات التي حققها نيجيرفان بارزاني على صعيد العلاقات المعقدة، سواء مع حكومة المركز أم العلاقات الدولية، فإنه ظل يعاني من العلاقة مع أكبر منافس له في كردستان، وهو حزب الاتحاد الكردستاني
لقد استطاع نيجيرفان تجسيد دور الحمائم في القيادة الكردية، بوسط طيف واسع من الصقور الذين يعزفون على نغمة الطموحات القومية الكردية، واستطاع إدارة علاقة الإقليم بحكومة المركز، بشكل مثالي، واستثمر العلاقة التي تربط رئيس الوزراء العراقي الجديد عادل عبد المهدي بالقادة الكرد، استثمارًا جيدًا، جعلها تنعكس إيجابيًا على مصالح الإقليم، واستطاع اللعب بالتحالفات السياسية المشكلة لحكومة المركز، بشكل جعل من الكرد، بيضة القبان في تسلم أي منصب سياسي مهم في حكومة المركز، سواء رئاسة الجمهورية أم رئاسة الوزراء أم رئاسة البرلمان، ووصل إلى أقصى ما يستطيع في تحصيل المنافع للكرد، والحصول على تنازلات مهمة من بغداد، جعل الساسة الكرد، هم الأكثر دفاعًا عن رئاسة عادل عبد المهدي.
لكن رغم النجاحات التي حققها نيجيرفان بارزاني على صعيد العلاقات المعقدة، سواء مع حكومة المركز أم العلاقات الدولية، فإنه ظل يعاني من العلاقة مع أكبر منافس له في كردستان، وهو حزب الاتحاد الكردستاني الذي تأزمت العلاقة معه بعد أن سحب الأخير قوات البيشمركة التابعة له من كركرك دون قتال، وأطلقت تهم الخيانة والغدر عليه من قيادة حزب الديمقراطي الكردستاني وجماهيره، لكن نيجيرفان بارزاني تعامل بسياسة الأمر الواقع، وضرورة الاتفاق مع هذا الحزب مهما كانت سياساته، للخروج من الأزمة التي يمر بها الإقليم.
ومع كل تلك الجهود، مرت فترة تقارب السنة على انتخابات الإقليم عام 2018، إلا أن الأحزاب الكردية لم تستطع الاتفاق على تقسيم المناصب، بشكل يلبي طموحات كلا الحزبين، ناهيك عن باقي أحزاب المعارضة التي وجدت نفسها ضحية ذلك الصراع بين الحزبيين، وأنها مهمشة في رسم سياسة الإقليم، مما جعلها تقاطع الكثير من المحادثات السياسية وتقف بالضد من الحزبين.
هناك إخفاقات كبيرة وجوهرية في سياسات نيجيرفان، لا سيما الاقتصادية منها
وفي وسط كل تلك الخلافات بين الحزبين الرئيسيين، وجدت قياداتهما أنهما مضطرين لتوحيد جهودهما ضد مواقف أحزاب المعارضة، مستثمرين سيطرتهما على كامل الأجهزة الأمنية العاملة بالإقليم، بالإضافة إلى امتلاك القوة العسكرية المتمثلة بقوات البيشمركة التابعة لكلا الحزبين، لكي يضغطوا على تلك الأحزاب والعمل على تفكيكها من الداخل وتهميش دورها السياسي، بسياسة العصا والجزرة، وما يحدث لحزب “حركة الجيل الجديد”، خير مثال على ذلك الصراع الداخلي بين الحزبين من جهة، وباقي أحزاب المعارضة في إقليم كردستان من جهة ثانية.
بالمقابل، هناك إخفاقات كبيرة وجوهرية في سياسات نيجيرفان، لا سيما الاقتصادية منها، الأمر الذي جعل المواطنين الكرد، يخرجون لأكثر من مرة بتظاهرات غاضبة ضد سوء إدارة نيجيرفان، وضد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها الإقليم.
ففي عهده تضخم الجهاز الحكومي في الإقليم بالآلاف من الموظفين غير الفاعلين، جعلهم يستهلكون معظم موارد الإقليم المالية، وأدت هذه السياسية لإضعاف القطاع الخاص، وسياسة فتح أسواق الإقليم أمام البضائع التركية والإيرانية والعالمية، أثرت بشكل بالغ على تدهور الزراعة والصناعة الكردية، الأمر الذي سبَّب نزوح الملايين من القرويين للسكن بالمدن الرئيسة.
انتخاب رئيس لكردستان ومن ثم تشكيل حكومة للإقليم، ليست آخر مشاكل الكرد، والحراك السياسي داخل الإقليم والعلاقة المعقدة بينهم وبين حكومة المركز، لا يبدو أنها في طريقها للحل بشكل نهائي، فهل سيجد نيجيرفان بارزاني حلولًاً جوهرية لها؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.