منذ تنحي الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة في 2 من أبريل/نيسان الماضي، وانطلاق حملة “الأيادي النظيفة” التي طالت من يلقبون بـ”رؤوس الفساد” في نظام الرئيس السابق، اتخذ الجزائريون لأنفسهم شعارات عديدة تتنوع وتتغير لكنها تحمل دلالة واحدة، تعكس رغبتهم في معرفة مصير “أموالهم المنهوبة”.
الجزائريون يبحثون عن أموالهم المنهوبة
بعد إيداع رجال أعمال ومسؤولين شغلوا مناصب سياسية وأمنية في الحبس المؤقت، تمهيدًا لمحاكمتهم، فيما ينتظر آخرون دورهم ضمن أحداث متسارعة وهو ما اتضح في الخطاب الأخير الذي ألقاه رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح الثلاثاء الماضي، انتشر سؤال “ما مصير الأموال المنهوبة” كالنار في الهشيم للتعبير عن حجم الفساد الذي استشرى في البلاد بعد أن كانت تعيش في وقت سابق أزهى أيامها.
ووفق الأرقام التي كشفتها هيئات جزائرية، فإن نسبة البطالة بقيت مرتفعة في السنوات الأخيرة في حدود 17% كما بقيت البلاد قيد تبعية استيراد الأدوية بقيمة ملياري دولار سنويًا والقمح الذي فاق استيراده 7 ملايين طن.
كذلك لجأت الحكومات المتعاقبة خلال الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، إلى فرض سياسة “التقشف” على المواطن الجزائري بسبب الأزمة التي طرقت أبوابها سنة 2014، وتسببت في اتساع دائرة “الفقر” واعتبرت حينها أحزاب سياسية أن لجوء السلطة إلى هذه السياسية دليل قاطع على “إعلان فشل مرحلة تمتد طيلة أربع عهدات لبوتفليقة” ودليل آخر على الفشل الذريع في إدارة مبلغ “ألف مليار” التي ضاعت في اختلاسات وقضايا فساد.
طمأنت السلطات الجزائرية على رأسها المؤسسة العسكرية والعدالة الجزائرية باسترجاع الأموال المنهوبة وهو ما ورد على لسان وزير العدل الجزائري سليمان براهيمي، الإثنين الماضي
ومنذ الجمعة العاشرة التي جاءت بعد أسبوع حافل بالأحداث التي شهدها قطاع العدالة عبر حملة الأيادي النظيفة التب مست بعض المسؤولين الأمنيين ورجال أعمال جزائريين، ردد حراكيو الجزائر شعارات هي نفسها تقريبًا التي رفعت في جميع ميادين الحراك، يتساءلون من خلالها عن مصير الأموال المنهوبة على مدى عقدين كاملين من الزمن على غرار “كليتو البلاد يا السراقين” أي “نهبتم البلاد يا السراقين” و”وأين 1000 مليار دولار” وهي حجم المصروفات الجزائرية في عهدات الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، وكان هذا السؤال حديث العامة في الجزائر، ورد عليه رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى في البرلمان الجزائري في إحدى جلساته بكل برود أعصاب وقال “اسألوا الشعب أين هي الألف مليار؟”، وطبعًا أرفقت هذه الشعارات بلمسة إبداعية وساخرة مرفقة بصور ورسوم كاريكاتورية ترمز كلها إلى رموز الرئيس المتنحي عبد العزيز بوتفليقة.
ضمانات
طمأنت السلطات الجزائرية على رأسها المؤسسة العسكرية والعدالة الجزائرية باسترجاع الأموال المنهوبة وهو ما ورد على لسان وزير العدل الجزائري سليمان براهيمي، الإثنين الماضي، وكشف أنه أعطى تعليمات للنيابات العامة بالشروع في حصر عائدات المتورطين في قضايا الفساد وتحديد مكان وجودها وإحصائها.
وقال الوزير الجزائري بمناسبة إشرافه على تنصيب بلقاسم زغماتي نائبًا عامًا لمجلس قضاء الجزائر، إن هذه الخطوة في سياق “حجز” أو “تجميد العائدات المسترجعة” تحسبًا لإحالتها إلى الجهات القضائية المختصة للتصرف فيها وفقًا لما ينص عليه القانون الجزائري حسبما ذكره الوزير، واعتبر أن “موضوع العائدات الإجرامية حجر الزاوية في مجال مكافحة جرائم الفساد من خلال ضرب شران المذنبين أي ذمتهم المالية”.
تبقى عملية استرداد “الأموال المسروقة” حلمًا صعب المنال في نظر فئات واسعة خاصة تلك التي تم تهريبها إلى الخارج
ولمَح الوزير الجزائري إلى إمكانية اللجوء إلى التعاون الدولي في إطار الاتفاقيات الثنائية أو الدولية المصادق عليها من طرف الجزائر بهدف توقيف الجناة وإحالتهم إلى القضاء الجزائي المختص لمحاكمتهم طبقًا لقوانين الجمهورية وكذا استرجاع الأموال المنهوبة حماية للمال العام.
استردادها حلم صعب المنال
وتبقى عملية استرداد الأموال المسروقة حلمًا صعب المنال في نظر فئات واسعة خاصة تلك التي تم تهريبها إلى الخارج، يقول الحقوقي والناشط الجزائري بوجمعة غشير في تصريح لـ”نون بوست” إن حصر عائدات المتورطين في قضايا الفساد وتحديد مكان وجودها لن تكون بالسهولة التي يتخيلها الكثيرون خاصة أن معظمها مودعة في البنوك الخارجية بالنظر إلى الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها الجزائر في مجال مكافحة الفساد.
وأوضح غشير أن “محاربة الفساد على الصعيد الدولي تحكمها اتفاقيات دولية تضبط كشف الحسابات السرية والعقارات التي يستحوذ عليها المتورطون في قضايا الفساد”، ويقول إن بعض البنوك الخارجية تلتزم بالسرية التامة وترفض في معظم الأحيان كشف المعلومات المتعلقة بزبائنها وهو ما سيصعب مهام القضاء الجزائري في استرداد تلك الأموال خاصة تلك الموجودة في الدول المصنفة في القائمة السوداء للدول التي تمثل ملاذًا آمنًا للتهرب الضريبي.
يقول الخبير الاقتصادي الجزائري سليمان ناصر، إن قضية الأموال المنهوبة خاصة منها المهربة إلى الخارج، تعتبر مشكلة عويصة لعدة أسباب أبرزها صعوبة إثبات نهب تلك الأموال وسرقتها
وحسب الحقوقي الجزائري بوجمعة غشير، فإن استعادة الأموال الموجودة في الخارج التي لم تكشف قيمتها بعد يعود للحنكة الدبلوماسية الجزائرية، فمراسلة أي جهة ليس بالأمر السهل ولن يكون هذا إلا بعد انتهاء التحقيقات وثبوت تورط هذا الأخير في قضايا الفساد لأن الملف الذي سيحال للجهات القضائية في الخارج يجب أن يتضمن كل القضايا التي تورط فيها المعني.
الجنَات الضريبية ملاذهم
من جهته يقول الخبير الاقتصادي الجزائري سليمان ناصر، إن قضية الأموال المنهوبة خاصة منها المهربة إلى الخارج، تعتبر مشكلة عويصة لعدة أسباب أبرزها صعوبة إثبات نهب تلك الأموال وسرقتها، خاصة أن الكثير من رجال الأعمال الناهبين للمال العام يسجلون ممتلكاتهم باسم زوجاتهم وأولادهم، أو تهريب تلك الأموال إلى الخارج، وإنشاء شركات بها خاصة في البلدان التي تمثل جنّات أو ملاذات ضريبية.
ومن بين الأسباب الأخرى، يشير المتحدث في حديثه لـ”نون بوست” إلى صعوبة تتبع تلك الأموال خاصة إذا تم تمويلها عن طريق البنوك، بحيث يتم الولوج إلى الملف بـ”كود” أو “شيفرة” لا يعرفها إلا مدير الوكالة أو المدير العام للبنك، مما يدل على أن هناك نية تواطؤ على السرقة منذ البداية.
يقول الناشط السياسي والقيادي في حركة مجتمع السلم عبد الرحمن سعيدي، في تصريح لـ”نون بوست”: “من الصعب جدًا استرداد الأموال الموجودة في البنوك الخارجية، وخير دليل على ذلك قضية “الخليفة” التي أثيرت في مطلع الألفية وتورطت فيها أسماء ثقيلة الوزن”
ويؤكد الخبير الاقتصادي الجزائري إنه من الصعب جدًا تحديد حجم الأموال المنهوبة من الاقتصاد الوطني، ولكن الرقم الذي يمكن تأكيده هو حجم القروض الممنوحة لفئة قليلة من رجال الأعمال المقربين من السلطة ويتجاوز 6 مليارات دولار دون ضمانات قوية وحقيقة.
وبالنظر إلى صعوبة استردادها، يرى سليمان ناصر أن هناك نموذجين ينبغي اتباعهما لاسترداد الأموال الضائعة، يتعلق الأول بالنموذج المصري وهو المصالحة مع هؤلاء الناهبين بحيث يتعهدون بإرجاع كل أو معظم تلك الأموال مقابل أن لا تتم محاكمتهم، أمَا الثاني فيتعلق بالنموذج السعودي ويتمثل في إلقاء القبض على هؤلاء وإجبارهم على دفع جزء كبير من أموالهم للخزينة العمومية مقابل إطلاق سراحهم.
تقدير الأموال المنهوبة واقع صعب
إلى ذلك يقول الناشط السياسي والقيادي في حركة مجتمع السلم (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد) عبد الرحمان سعيدي، في تصريح لـ”نون بوست”: “من الصعب جدًا استرداد الأموال الموجودة في البنوك الخارجية، وخير دليل على ذلك قضية “الخليفة” التي أثيرت في مطلع الألفية وتورطت فيها أسماء ثقيلة الوزن، فبعد مرور سنوات سلم للجزائر مفلس”.
ويرى سعيدي أنه من الصعب جدًا تقدير حجم الأموال المنهوبة، لأن هذا المال ذهب استثمارًا وعقارات وأرصدة بنكية بأسماء مستعارة ليس بأسماء أصحابها ولا بأسماء عائلاتهم، وأغلب هذه الشركات الوهمية موجودة في جزر التهرب الضريبي والعديد من العواصم الكبرى مثل ما سربته وثائق “بنما” ومن بينها نجد دبي ومولدفيا وليتوانيا وبنما و”إسرائيل” وإسبانيا وفرنسا.