نتنياهو يقود “إسرائيل” إلى ورطة سياسية غير مسبوقة

190527-benjamin-netanyahu-se-1051a_a6acbc8c8a57272caa7fa5f71cb866ad

جراء فشل بنيامين نتنياهو رئيس حزب “الليكود” الفائز بأكبر كتلة تصويتية ورئيس الوزراء الحاليّ، في تشكيل حكومة ائتلافية يمينية على أساس الانتخابات البرلمانية التي جرت مبكرًا في الـ9 من أبريل/نيسان 2019، خلال المهلة الزمنية القانونية المقدرة بـ30 يومًا المنتهية مساء اليوم 29 من مايو/أيار 2019، التي منحها له رئيس الدولة في “إسرائيل” رؤوفين ريفلين، لإنجاز مهمة مفاوضات تشكيل الحكومة، أقر الكنيست الإسرائيلي في قراءته الأولى، مشروع القانون الذي قدمه النائب الليكودي ميكي تسوهر لحل الكنيست الإسرائيلي في نسخته الـ21، بأغلبية 66 عضوًا من أصل 121 عضوًا، وسط تكهنات بأن تشهد جلستا التصويت الثانية والثالثة، المقرر انعقادهما اليوم الأربعاء في الـ12 ظهرًا أغلبية مماثلةً، لتشهد “إسرائيل” لأول مرة في تاريخها الانتخابي حل برلمانين منتخبين في نفس العام، فما الذي أدى إلى هذه الحالة غير المسبوقة سياسيًا؟

معركة الهوية: دولة يهودية أم إسرائيلية؟

لم تستطع صناديق الانتخاب في المرة السابقة حسم موضوع هوية الدولة في “إسرائيل” ولو مؤقتًا، إذ لا يزال الحريديم (اليهود الأرذوكس) مصرين على معاملةٍ خاصةٍ تقتضي احترام قيمهم التوراتية ومبادئهم الدينية المتحفظة في مسألة عدم انقياد طلاب المعاهد الدينية لقانون التجنيد الإجباري في المؤسسة العسكرية، كما أنهم يتطلعون إلى دور أكبر في تطبيق شرائعهم المقوضة للحياة العامة الطبيعية كتعطيل العمل في المؤسسات التجارية والمواصلات العامة يوم السبت المقدس، ومنع النساء من الصلاة إلى جوار الرجال في الأماكن الدينية.

يقف أفيجدور ليبرمان وزير الدفاع السابق وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا” الذي يتبنى نموذجًا لدولة علمانية ديمقراطية لا تعادي المكون الديني الاجتماعي، في وجه تطلعات اليمين الحريديمي

استغلت الأحزاب السياسية الممثلة لليهود الأرذوكس، وعلى رأسها حزبا شاس ويهودوت هتوراة، نجاحها في الحصول على 16 مقعدًا من أصل 60 مقعدًا حصل عليها الليكود في تحالفه السياسي الثلاثي (الليكود والحريديم وكولانو (حزب موشيه يعالون وزير الدفاع الأسبق)) في السعي إلى ضم حقيبة الإسكان والأشغال العامة التي ستمكنها من تطبيق تصوراتها النظرية عمليًا على أرض الواقع، إلى جانب حقيبة المالية والصحة الواقعتين فعليًا في قبضة هذه الأحزاب منذ التشكيل الحكومي السابق، وبحسب سعيد بشارات الباحث في الشأن الإسرائيلي، فإن أدمور جور رئيس مجلس حكماء التوراة البالغ من العمر 80 عامًا هو العقل المدبر لكثير من طموحات الحريديم في “إسرائيل”.

وفي الجهة المقابلة تمامًا، يقف أفيجدور ليبرمان وزير الدفاع السابق وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا” الذي يتبنى نموذجًا لدولةٍ علمانية ديمقراطية لا تعادي المكون الديني الاجتماعي، في وجه تطلعات اليمين الحريديمي، معتبرًا أن سياساتهم الحاليّة وتعنتهم في الانصياع إلى قانون التجنيد الذي كان سببًا في حل الكنيست والدعوة إلى الانتخاباتٍ البرلمانية المبكرة في أبريل/نيسان الماضي، تؤول إلى “يهودية تفرق ولا تجمع”، ويرتكز ليبرمان في وقفته ضد اليمين المحافظ على أرضٍ صلبة بحصوله على نسبة الحسم البرلماني (3.25%) التي تمكنه من دخول الكنيست بعد فوزه بـ5 مقاعد في الانتخابات.

وفي حقيقة الأمر، لم يقف وزير الدفاع المستقيل من حكومة بنيامين نتنياهو إثر خلافات سياسية تتعلق بطبيعة إدارة الدولة وملف الحريديم فبراير/شباط الماضي في وجه تطلعات الحريديم وحدهم، وإنما أعاق أيضًا تشكيل حكومة ائتلافية ذات أغلبية يمينية بزعامة نتنياهو، عبر رفضه أي حلول لا تؤدي إلى مساواة طلاب “اليشيفا” بغيرهم من الشبان الإسرائيليين، اتساقًا مع مبادئ حزبه التي أعلنها في حملته الانتخابية على حد قوله.

اتهمت رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية إستر حايوت، في مؤتمر لنقابة المحامين في إيلات، يوم الإثنين الماضي، نتنياهو بالعدول عن دوره كجسر للحوار بين السلطتين التشريعية والقضائية

ولو كانت التزام الحريديم بتقديم عددٍ معين من عناصرهم، يصل إلى 4 آلاف عنصر ويزداد سنويًا، للالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، حيث يحتاج نتنياهو إلى تأييد الـ5 مقاعد التي حصل عليها “إسرائيل بيتنا” في الكنيست كي يتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية ذات أغلبية يمينية قوية، وهو ما دفع نتنياهو لإلقاء مسؤولية شل الدولة سياسيًا على ليبرمان واتهامه بتكبيد ميزانية الدولة المنهكة أصلاً، نحو 475 مليون شيكل كفاتورة مبدئية قد تصل إلى 5 مليارات شيكل لإعادة الانتخابات، بحسب ما أوردته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، إلا أن ليبرمان يرى أن نتنياهو غير جدير بالثقة ويقدم “تحايلات” لا حلول، ولا فائدة من تأجيل هذه المعركة لأنها لا بد أن تحسم في وقت ما.

مخاوف قضائية وشعبية من استبداد نتنياهو

خطط كل من الحريديم المتضررين من معارضة المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2017 لتعديلاتهم القانونية القاضية باستثناء أبنائهم طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية والمدنية، ونتنياهو الذي يواجه اتهامات  بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في قضايا ثلاثة معروفة رقميًا بـ(1000 و2000 و4000) تتعلق بتقديم تسهيلات حكومية لشركات اتصالات مملوكة لمؤسسات إعلامية مقابل دعايا انتخابية وعلاقات عامة، وتورط في رشاوى على خلفية ملف استيراد الغواصات الألمانية “دولفين”، لتمرير قانون “حصانة” لحماية نتنياهو من الملاحقة الجنائية عبر الكنيست، حيث يحظيان فيه بأغلبية جيدة، على أن يفعل نتنياهو آلية “تجاوز” تقوض صلاحيات المحكمة العليا في رفض القوانين التي يقرها الكنيست، بما يمنح نتنياهو حصانةً قضائية تامة بعدما أعلن المدعي العام الإسرائيلي ميندلبليت في فبراير/شباط الماضي عزمه إجراء جلسة استماع أقوال لرئيس الوزراء المتهم، ويقضي من ناحية أخرى بتمرير أي قانون لاستثناء الحريديم من الخدمة العسكرية، دون طرق أبواب المحكمة كما حصل في السابق.

نظم اليسار المعارض بقيادة بيني غانتس ويائير لابيد، زعيما تحالف أزرق أبيض (أكبر تحالفات المعارضة في الكنيست)، مظاهرة كبيرة في تل أبيب، يوم السبت الماضي، احتجاجًا على نوايا نتنياهو والحريديم الالتفاف على القضاء والاستئثار بالسلطة

رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية إستر حايوت، في مؤتمر لنقابة المحامين في إيلات، يوم الإثنين الماضي، اتهمت نتنياهو بالعدول عن دوره كجسر للحوار بين السلطتين التشريعية والقضائية، والتراجع عن تصريحه السابق برغبته في أن تكون المحكمة العليا “قوية ونزيهة ومحايدة ومستقلة”، خاصة أنه كان قد سبق وصرح في أثناء حملته الانتخابية بأنه لا ينوي المضي في تشريع يحصنه من المساءلة القضائية، منوهةً، في وقت سابق في مناسبة قضائية بألمانيا، بأن تغول السلطة التشريعية على السلطة القضائية في “إسرائيل” بدعم رئيس الوزراء يشبه سياسات النازية مع القضاء في نورمبرج عام 1935، وأن البلاد تشهد “أكبر عملية تغيير دستوري على الإطلاق” بعد أن اتهم نواب الليكود المحكمة بـ”عداوة الشعب”، باعتبار أنها تراجع وتعارض تشريعات مؤسسة منتخبة، حيث شعر القضاة أن نواب الليكود يبتزونهم ويسمعون لتجاوزهم كسلطة قضائية عبر التحايل اللفظي والاستقواء بالأنصار.

وليس ببعيد عن ذلك، فقد نظم اليسار المعارض بقيادة بيني غانتس ويائير لابيد، زعيما تحالف أزرق أبيض، أكبر تحالفات المعارضة في الكنيست، مظاهرة كبيرة في تل أبيب، يوم السبت الماضي، احتجاجًا على نوايا نتنياهو والحريديم الالتفاف على القضاء والاستئثار بالسلطة، خاصة بعد تلويح ميكي تسوهر النائب الليكودي، بحل الكنيست والدعوة إلى انتخابات مبكرة جديدة بدلاً من ترك المجال أمام رئيس الجمهورية لتكليف نائب آخر بتشكيل الحكومة، رجحت التكهنات أن يكون بيني غانتس زعيم المعارضة وزعيم تحالف “أزرق أبيض”، إلى جانب نية ميكي رئيس لجنة الكنيست طرح قانون حصانة جديدة، يحصن أعضاء الكنيست من الملاحقة القضائية تلقائيًا بمجرد دخولهم الكنيست، بدلاً من القانون الحاليّ الذي قد يلجأ إليه نتنياهو، ويستوجب موافقة أغلبية لجنة الكنيست ثم موافقة الأغلبية في الانعقاد الكامل.

مخاطر إستراتيجية

بغض النظر عما سيحدث في الساعات القادمة، فقد استشعر كبار رجال الدولة في “إسرائيل” وعلى رأسهم رئيس الدولة رؤوفين ريفلين خطورة هذه الحالة من الانسداد السياسي والاجتماعي على مستقبل الديمقراطية والدولة بشكل عام، فانتقد ريفلين في مأدبة إفطار أقامها في منزله أول أمس، سياسات نتنياهو والليكود المحرضة على العرب في الداخل، التي تبدت في عزوف الناخبين العرب عن المشاركة السياسية في انتخابات الكنيست الأخيرة، التي كان آخرها اتهام الليكود أيمن عودة بالإرهاب بعد مشاركته في مظاهرة يوم السبت الماضي مع اليسار، محذرًا من انضمام عرب الداخل إلى هذا الاحتقان في الأيام القادمة.

في حال الذهاب إلى انتخابات جديدة وهو الأقرب، فإن التصريحات الخلفية تقول إنها لن تخرج عن ثلاثة مواعيد متقاربة إلى حدٍ كبير، الـ27 من أغسطس/آب أو الـ3 أو الـ17 من سبتمبر/أيلول من هذه العام

موشيه لانداو رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية المتقاعد منذ 18 عامًا، قال أيضًا في مقابلة مع صحيفة “هآرتس” إنه لأول مرة يشعر أن بلاده في خطر حقيقي، خطر من الداخل أكبر من أخطار الخارج، مشبهًا ما يحدث بغمر الماء سفينة “التايتنك” ولكن “التايتنك” الآن هي الدولة التي باتت تشهد “ارتباكًا في المفاهيم، وتفككًا في بنية المجتمع، وضعفًا في الإرادة، وتغليبًا للصالح الشخصية”، خاصة أن تاريخ “إسرائيل” السياسي شهد تعقدًا مماثلاً في مفاوضات تشكيل الحكومة أكثر من مرة، كما حصل مع شيمون بيريز 1984 وتسيبي ليفني رئيسة “أكاديما” 2009 ولكنه لم يشهد تعقدًا يؤدي إلى إعادة الانتخابات كما هو الوضع الآن.

وهو نفس الاستنتاج الذي رصده الباحث الأكاديمي الفلسطيني عدنان أبو عامر عن الأوساط الداخلية الإسرائيلية في مقالة له بعنوان:”هكذا يحذر الإسرائيليون من تصدعات جبهتهم الداخلية” قائلاً: “تحمل زيادة الشروخ السياسية والاجتماعية داخل “إسرائيل” جملة من المخاطر على استقرار الدولة واستمرارها، مع تنامي رقعة الخلافات الداخلية، مما قد يؤثر سلبًا على تآكل المشروع الصهيوني، في ظل تباين الأصول الجغرافية والعرقية والتاريخية لليهود القادمين من شتى أصقاع العالم!”.

وفي حال الذهاب إلى انتخابات جديدة وهو الأقرب، فإن التصريحات الخلفية تقول إنها لن تخرج عن ثلاثة مواعيد متقاربة إلى حدٍ كبير، الـ27 من أغسطس/آب أو الـ3 أو الـ17 من سبتمبر/أيلول من هذه العام، حيث اتفق الليكود وإسرائيل بيتنا، على واحدٍ من هذه الأيام لاعتباراتٍ تتعلق بالأجندة السياسية الرسمية والحزبية في جولةٍ لن تشهد تغييرًا في مرشحي الليكود أو تحالفاتهم بعد ما أعلنت الأمانة العامة لليكود خلوص اجتماعها العاجل في القدس إلى عدم رغبتها في تنظيم انتخابات داخلية جديدة واستمرار تحالفها مع “كولانو”، كما يرجح أيضًا ألا تشهد أي تغيير في خريطة التحالفات، باستثناء احتمال ترشح كل من غادي إيزنكوت ويائير جولان من رئاسة الأركان السابقة، وبحث شاكيد وزيرة القضاء عن تحالف جديد مع أي من القوى المطروحة على الساحة بعد فشلها في الانتخابات السابقة واستقالتها من حزب “البيت اليهودي”.