تواجه الجبهة الشعبية التي كانت تعد إلى وقت قريب أحد أبرز الائتلافات الحزبية تماسكًا في تونس، مشاكل كبرى من شأنها أن تهدد وجودها، خاصة بعد الاستقالات الأخيرة التي عرفتها كتلة هذا الائتلاف اليساري في البرلمان، نتيجة اختلافات في وجهات النظر بمسائل عدة، فهل نشهد انفراط عقد الجبهة قبل الانتخابات المبرمجة في خريف هذه السنة؟
الكتلة تواجه خطر الحل
قدم 9 نواب من “الجبهة الشعبية“، أمس الثلاثاء، استقالاتهم من الكتلة البرلمانية، وشملت الاستقالات كلاً من هيكل بلقاسم وعبد المومن بلقاسم وشفيق العيادي ونزار عمامي وزياد لخضر ومنجي الرحوي وفتحي الشامخي وأيمن العلوي ومراد حمايدي.
نتيجة هذه الاستقالات، ستفقد الجبهة، وهي أحد أهم التشكيلات السياسية اليسارية في تونس، كتلتها البرلمانية، ذلك أن كتلة هذا الائتلاف ستصبح 6 بعد أن كانت 15، وهو أدنى من العدد المطلوب لتكوين كتلة (7 نواب)، ما سيؤدي مباشرة لحل الكتلة، يذكر أن هذه الاستقالات تصبح نافذة بعد 5 أيام من تقديمها لرئيس البرلمان.
تتهم قيادات يسارية في تونس، حمة الهمامي بالتفرد بالرأي وتسويق خطاب أدى إلى تراجع شعبية الجبهة
ينص النظام الداخلي للبرلمان التونسي، على فقدان المستقيل من كتلته عضويته آليًا في اللجنة التشريعية أو الخاصة التي كان فيها، كون تقسيم اللجان يتم بناء على التمثيل النسبي للكتل، وكل مسؤولية أخرى في البرلمان تتم بناء على الانتماء إلى الكتلة.
والجبهة الشعبية هي ائتلاف سياسي يساري تونسي معارض، يقول إنه يمثل “طريقًا ثالثًا” في مواجهة الاستقطاب الثنائي بين حزبي النهضة ونداء تونس، تأسس هذا الائتلاف في 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2012، وجمعت الجبهة خلال تأسيسها 10 أحزاب يسارية التوجه أبرزها حزب العمال التونسي الذي كان اسمه حزب العمال الشيوعي التونسي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد الذي كان يرأسه شكري بلعيد قبل اغتياله في 6 من فبراير/شباط 2013.
مرشح الرئاسة يقسم الجبهة
هذه الاستقالات جاءت نتيجة تباين وجهات نظر مكونات الائتلاف في العديد من القضايا، خاصة فيما يتعلق بمرشح الجبهة للانتخابات الرئاسية القادمة، حيث رشح شق من الجبهة القيادي في حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (الوطد) منجي الرحوي، بينما تمسك شق آخر بترشيح مرشح الانتخابات الرئاسية عام 2014 حمة الهمامي.
ويعد منجي الرحوي الذي يترأس لجنة المالية في البرلمان (تُمنح وفق لوائح النظام الداخلي لمجلس النواب التونسي للمعارضة)، أكثر نواب “الجبهة” تجربة على اعتبار أنه الوحيد الذي نجح في محطتين انتخابيتين تشريعيتين أي في انتخابات عام 2011 وانتخابات عام 2014.
تسعى الجبهة الشعبية للوصول إلى الحكم
مؤخرًا، عُرف الرحوي، بتوجيهه نقدًا لاذعًا للجبهة الشعبية خاصة للناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمة الهمامي بتأكيده أن الهمامي بقي متكلسًا ولم يتمكن بعد الثورة من تطوير خطابه السياسي الذي بقي حبيس زمن المعارضة قبل ثورة يناير 2011.
وبرزت هذه الخلافات إلى العلن في شهر مارس/آذار الماضي، عندما قررت اللجنة المركزية لحزب “الوطد” اقتراح الرحوي، مرشحًا للانتخابات الرئاسية، في وقت كان فيه الاتجاه يسير نحو تجديد ترشيح الهمامي الذي جاء ثالثًا بعد الرئيس الحاليّ الباجي قائد السبسي والسابق منصف المرزوقي في انتخابات 2014.
عقب ذلك، صوت المجلس المركزي للجبهة الشعبية الذي يتكون من كل الأمناء العامين للأحزاب المنضوية داخلها، لصالح حمة الهمامي، إلا أن هذا القرار لقي معارضة من حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وكذلك حزب القطب الديمقراطي.
غياب الديمقراطية داخل الجبهة
تعتبر المرحلة التي تمر بها الجبهة الآن، الأصعب منذ تأسيسها قبل 7 سنوات، فهي تواجه خطر التفكك في حال تواصل الأزمة بين أبرز مكونين داخلها وهما حزب العمال التونسي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد.
وتبين الاستقالات الأخيرة داخل كتلة الجبهة الشعبية، حجم الخلافات الكبيرة داخلها، فمجرد اختلاف في وجهات النظر تحول إلى عامل تفرقة بين مكونات الجبهة التي تسوق نفسها بديلاً للحكم، وترى في نفسها الأجدر بحكم تونس.
وبرزت الجبهة الشعبية في بداية تأسيسها كأنها طوق النجاة لبعض الأحزاب والمجموعات اليسارية المتشرذمة، لتحقيق مزيد من الفاعلية والتأثير في الشارع السياسي التونسي، إلا أنها عجزت طوال الأربع سنوات منذ التأسيس عن بناء هياكل الائتلاف على مستوى الجهوي والمحلي، وعن إدارة البنية القيادية للجبهة التي سيطر عليها الزعيم الواحد.
ويشير العديد من التونسيين إلى غياب الديمقراطية داخل الجبهة الشعبية، رغم ادعائها تسيير عملها وفق الأطر القانونية، وتقول الصحفية التونسية خولة بن قياس في تصريح لنون بوست: “هذه الاستقالات هي نتيجة طبيعية ومنتظرة مع الانقسام الكبير الذي يعيشه الائتلاف نتيجة غياب الديمقراطية داخله”.
وتضيف بن قياس “الناطق الرسمي باسم الجبهة وزعيم حزب العمال حمة الهمامي يعتبر نفسه المهيمن على القيادة والدليل نيته الترشح للرئاسة مرة ثانية رغم خسارته في الأولى، وتراجع شعبيته وفق ما تبينه عمليات سبر الآراء”.
يهدد هذا الصراع الداخلي والتنافس المحموم على الزعامة، وحدة الجبهة ويقلل من حظوظها في الانتخابات القادمة
تتهم قيادات يسارية في تونس، حمة الهمامي بالتفرد بالرأي وتسويق خطاب أدى إلى تراجع شعبية الجبهة، وأظهرت نتائج سبر الآراء لشركة “سيغما كونساي” أجري بداية شهر مايو/أيار الحاليّ، تراجع “الجبهة الشعبية” إلى المركز السادس بنسبة 5.5% من نوايا التصويت للتونسيين، بعد أن كان ترتيبها يتراوح بين الثالث والرابع.
أما فيما يخص الانتخابات الرئاسية، أظهرت النتائج تراجع مكانة مرشحي الجبهة، حيث حصل حمة الهمامي ومنجي الرحوي على نسب ضعيفة جدًا، إذ لم يتجاوز الهمامي نسبة %0.8 من نوايا التصويت، وهي أقل نسبة يتحصل عليها منذ فترة طويلة.
ورغم يقينهم التام بعدم قدرتهم على المنافسة في الانتخابات الرئاسية القادمة، المقررة في نوفمبر/تشرين المقبل، أبى كل من حمة الهمامي والمنجي الرحوي التنازل عن الترشح حتى لا ينفرط عقد الجبهة وتتفكك نهائيًا، ما يفسر حرب الزعامات داخل هذا الائتلاف.
مستقبل “غامض”
هذه الأزمات الداخلية الحادة التي تمر بها الجبهة الشعبية، وأثرت على العلاقة بين مكوناتها قيادة وقاعدة وأنصارًا، من شأنها أن تؤثر سلبًا على وحدة هذا الائتلاف السياسي اليساري في تونس ومستقبله، خاصة أننا على بعد نحو 6 أشهر على الانتخابات.
وتوقعت الصحفية التونسية خولة بن قياس تواصل الانقسامات داخل الجبهة الشعبية رغم عراقة هذه المدرسة اليسارية في البلاد، ما يؤثر على مستقبلها، وتقول بن قياس في هذا الشأن “عائلة اليسار التونسي لم تقدم إلى اليوم مشروعًا يقنع الناس بهم ويمنح قوة للمتحالفين معهم رغم عراقة هذه المدرسة”.
وتضيف بن قياس “منذ اغتيال بلعيد والجبهة تعيش مشاكل عدة، مشاكل مالية، وأخرى متعلقة بالزعامة وأيضًا غياب الهيكلة اللازمة لتسيير الائتلاف، وهو ما أدى إلى جملة من التراكمات جعلت هذا المكون حساس من كل صدمة ورد فعل”، وتتابع “إن لم تجد الجبهة حلولاً لهذه المشاكل فستعرف مزيدًا من الانسحابات”.
تواجه الجبهة الشعبية خطر الانقسام قبل الانتخابات
ترى الصحفية التونسية أن “خطأ الجبهة أنها تبني مشروعها على حساب عدائها لحزب النهضة الإسلامي وهذا لم يعد ينفع بعد الآن”، وفق قولها، ذلك أن “المستفيد الوحيد من ضعف الأحزاب في تونس هو النهضة”، وأظهرت عمليات سبر الآراء الأخير تصدر النهضة نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية المقبلة المقررة في الـ6 من أكتوبر/تشرين الأول القادم.
ويهدد هذا الصراع الداخلي والتنافس المحموم على الزعامة، وحدة الجبهة ويقلل من حظوظها في الانتخابات القادمة، وكانت الجبهة قد خاضت الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، واستطاعت أن تفوز لأول مرة بـ15 مقعدًا، واستفادت حينها من التعاطف الشعبي الواسع معها بعد اغتيال القيادي بها وأحد مؤسسيها شكري بلعيد في فبراير/شباط 2013 ثم اغتيال الزعيم القومي التقديمي محمد البراهمي في يوليو/حزيران من نفس السنة.
تكشف هذه الأزمة، حالة التصدع التي تعرفها الجبهة وعجز مكوناتها عن تحويلها إلى تنظيم فاعل ومهيكل، نتيجة حالة التصلب الإيديولوجي والخطاب المتكلس الذي تقدمه للناس على لسان ناطقها الرسمي حمة الهمامي، فجميع الأحزاب تتطور في رؤيتها وسلوكها وتتكيف من أجل التغيير إلا الجبهة الشعبية، لم تعرف تطورًا في رؤيتها ولا سلوكها منذ تأسيسها، وفقًا لعديد من المراقبين.
الانقسام الحاصل داخل الجبهة الشعبية ليس حكرًا على هذا الائتلاف فقط، فأغلب التكتلات والأحزاب اليسارية في تونس تعيش نفس المشاكل بسبب حرب الزعامات وغياب الممارسات القانونية داخل هياكلها الداخلية، الأمر الذي يجعل الحديث عن وحدة الأحزاب اليسارية مجرد كلام لا أكثر.