قبل 20 عامًا، سجّل العالم انخفاضًا كبيرًا في عدد الإصابات بمرض الحصبة، فيما أعلنت العديد من الدول المتقدّمة أنّها قضت كلّيًا عليه. وقبل أنْ يُعرف اللقاح عام 1963، فقد كانت الحصبة تحصد أرواح حوالي 2.6 مليون شخص كلّ عام. أمّا اليوم، فهناك مئات الآلاف من المصابين بالمرض، معظمهم نتيجةً لعدم تمكّنهم من الوصول إلى اللقاح.
فيما هناك نسبةٌ أخرى يتوفّر لها اللقاح بسهولة ويمكنها الوصول إليه على نطاقٍ واسع، إلا أنها قررت عدم أخذ اللقاح كافرةً بالتقدّم المحرز الذي توصّل إليه العلم في مكافحة الكثير من الفيروسات والأمراض المعدية وداعيةً إلى مناهضة ومقاطعة أيّ نوعٍ من التطعيمات واللقاحات.
بحسب الإحصائيات الصادرة عن المراكز الأمريكية لمراقبة والوقاية من الأمراض، فهناك ما يقارب الـ555 حالة حصبة تم الإبلاغ عنها بدءًا من العام الحالي في 20 ولاية. وفي الأسبوع الماضي وحده، تمّ الإبلاغ عن 90 حالة جديدة، معظمها في ولاية نيويورك. في أوروبا، يًشير موقع منظمة الصحة العالمية أنه تمّ تسجيل أكثر من 34 ألف حالة في الشهرين الأولين من هذا العام و83 ألف حالة في شهر آذار وحده فقط موزّعةً على 42 دولةً من دول القارّة، مع حالات وفاةٍ تصل إلى المائة حالة تقريبًا. أمّا على مستوى العالم فهناك ارتفاع بنسبة 300% في حالات الحصبة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2018.
هناك ارتفاع بنسبة 300% في حالات الحصبة على مستوى العالم مقارنة بالفترة نفسها من عام 2018
تُعزى مشكلة الحصبة أساسًا إلى رفض الآباء إعطاء أطفالهم التطعيمات واللقاحات الإلزامية في المدارس، كما يرفض أصحاب الحيوانات الأليفة تحصين كلابهم أو قططهم، انطلاقًا من العديد من المعتقدات والآراء المضلّلة التي تروّج إلى أنّ اللقاحات تؤدّي لمرض التوحّد أو قد تؤثّر سلبًا على جهاز المناعة، وهو الأمر الذي يدحضه المجتمع العلميّ كليًّا.
أمّا الأعداد الهائلة لحالات الإصابة فترتبط بشكلٍ رئيسيّ بالمسافرين الذين يحملون معهم الفيروس أثناء سفرهم من البلدان التي تفشّى وما يزال يتفشّى فيها المرض بتزايدٍ ملحوظ. وفي الوقت الحالي، تعدّ أوكرانيا ومدغشقر والهند وباكستان والفلبين واليمن والبرازيل من بين البلدان الأكثر تضررًا، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. فعندما يذهب المسافرون بدون تلقيح إلى هذه النقاط الساخنة ويُعيدون الفيروس معهم إلى مجتمعاتهم، فليس من الصعب أبدًا على الحصبة البدء في الانتشار خلال فترةٍ وجيزةٍ جدًا من الزمن.
عدوى سريعة
يعدّ فيروس الحصبة من أكثر الأمراض المعدية التي عرفها الإنسان. يحتاج الأمر لساعاتٍ قليلة فقط حتى يُصاب شخصٌ ما بالمرض بعد التقاطه للفيروس عن طريق سُعال أحد المصابين حوله. هذا في حال لم يكن ذلك الشخص قد أخذ اللقاح بكلّ تأكيد. ما يعني أنّنا يمكننا التقاط الفيروس من مجرّد استنشاقنا للهواء الملوّث بسعال شخصٍ مُصاب.
أكثر من 40% من المرضى يعانون من مضاعفات الفيروس، مثل الالتهاب الرئوي أو التهابات الأذن أو الإسهال الحاد أو تقرّحات الفم أو أورام في الدماغ
أمّا طبيعة المرض فيمكننا القول بأنه مرض فتّاك عادةً ما يُصيب الأطفال. تمتدّ فترة حضانة الفيروس ما بين 10 إلى 12 يومًا ثمّ يتبعها عدد من الأعراض مثل الحمّى والسعال واحتقان الأنف وحرقة في العينين وفقدان الشهية والشعور بالضيق. لاحقًا يبدأ الطفح الجلدي بالظهور والانتشار في جميع أنحاء الجسم، بدايةً من الوجه والرقبة، قبل أنْ يتلاشى بعد ثلاثة أو خمسة أيام.
في الحالات العادية، يبدأ الأشخاص المصابون بالحصبة بالتعافي بمجرد ظهور الطفح الجلدي ويعودون إلى طبيعتهم في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. لكنّ ليس جميع الحالات بتلك السهولة. فأكثر من 40% من المرضى يعانون من مضاعفات الفيروس، مثل الالتهاب الرئوي أو التهابات الأذن أو الإسهال الحاد أو تقرّحات الفم.
مضاعفات خطيرة
في بعض الحالات يمكن أنْ تؤدي الحصبة إلى العمى أو التهاب وتورّمات في الدماغ (encephalitis) مما قد يؤدي إلى التشنجات وفقدان السمع والإعاقة الذهنية، لا سيّما عند الأطفال دون عمر الخامسة وعند البالغين الذين تزيد أعمارهم عن 20 عامًا ممّن يعاني من ضعف المناعة أو سوء التغذية.
تكمن خطورة الإصابة بأنّ شخصًا واحدًا مصابًا بالحصبة يمكنه أنْ ينقل العدوى بالفيروس نفسه إلى 12- 18 شخصًا آخر، وهي نسبة أعلى بكثير من العديد من الفيروسات المخيفة مثل الإيبولا الذي يمكن أنْ يؤدي إلى إصابة حالة أو اثنتين بالعدوى، وفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) الذي يمكن أنْ ينقل العدوى إلى أربع حالات أخرى فقط. عدا عن أنّ أيًا من الأدوية والعلاجات لا يمكنها مساعدة المرضى على تخطّي المضاعفات الشديدة مثل العمى والالتهاب الرئوي وتورّم الدماغ وغيرها.
العديد من مضاعفات المرض مثل العمى والالتهاب الرئوي وتورّم الدماغ لا يمكن علاجها بالدواء
من جهةٍ ثانية، على الرغم من أنّ أعراض الحصبة تظهر مبكرًا بعد الإصابة بالفيروس، إلا أنها تبدو تمامًا وكأنها عدوى في الجهاز التنفسي العلوي مع حمّى، حيث لا يمكن تمييزها عن فيروس الإنفلونزا أو غيره من الفيروسات التي تُصيب الجهاز التنفسّي. ما يعني أنّ الفيروس يبدأ بالانتقال والعدوى قبل ظهور الطفح وتمييز المرض.
وعلى الرغم من أنّ هناك الكثير من الأدوية والعلاجات التي ممكن أنْ تحسّن من أعراض الحصبة، إلا أنّ المرض لا يزال يُعتبر مميتًا وخطيرًا كما كان دائمًا. ومن الناحية النظرية، يمكن مجدّدًا القضاء على الفيروس من خلال تناول اللقاحات قبل فوات الأوان، لا سيّما الأطفال في سنتهم الأولى. تدرك الحكومات المشكلة تمامًا. هناك من بدأ باتخاذ إجراءات صارمة ضد الآباء الذين يرفضون التلقيح ويفرضون العقوبات عليهم، وهناك من سنّ قوانين تغرّم الذين لا يأخذون لقاحاتهم، لكن هل ستكون تلك الإجراءات كافية لمنع الفيروس من الانتشار ثانيةً على مستوى العالم ومواجهة حملات وحركات مناهضة اللقاحات التي تمتدُّ أكثر وأكثر مع الوقت.