بعد انقطاع أمل خروج أحياء من سجون ومعتقلات نظام بشار الأسد البائد، سيئة السمعة، توجهت أنظار عائلات المفقودين والمغيبين قسريًا إلى البحث عن أبنائهم في المقابر الجماعية المكتشفة مؤخرًا في مناطق متفرقة وقريبة من مراكز ومواقع عسكرية تتبع لأجهزة نظام الأسد.
ويطالب أهالي المفقودين والمعتقلين إيجاد رفات أبنائهم وأحبائهم الذين اعتقلوا من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية والميلشيات الرديفة التابعة لنظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، لعلّهم يقطعون شك بقاءهم على قيد الحياة بوفاتهم ليدفنوهم بطريقة كريمة.
وفي الوقت نفسه، حذرت منظمات سورية من خطورة فتح المقابر الجماعية بشكل عشوائي لأنها تمنع تحديد هوية الضحايا، ومحاسبة الجناة، مع ضرورة الحفاظ عليها في الوقت الحالي ريثما يتخذ إجراءات حقيقية من قبل فرق متخصصة للكشف عن الأدلة وتوثيق هوية الضحايا وتحديد سبب الوفاة لتحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم في المحاكم الدولية.
اكتشاف مقابر جماعية
اكتشف أهالي ومنظمات إنسانية وحقوقية وجود مقابر جماعية تحوي رفات أشخاص قتلوا تحت التعذيب في السجون والمعتقلات، أو أعدموا ميدانيًا على الحواجز من قبل أجهزة نظام بشار الأسد السابق طيلة سنوات الثورة السورية.
وانتشلت فرق الدفاع المدني السوري رفات 7 جثث في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري، كانت ضمن قبر مفتوح في موقع مسور قرب مدينة عدرا في ريف دمشق الشرقي، وأكد الدفاع، أن المكان يضم أخاديد طويلة ومنتظمة مغطاة بألواح أسمنتية، مما يرجح وجود مقبرة جماعية، كانت محظورة على الأهالي باعتبارها منطقة عسكرية.
كما اكتشفت مقبرة جماعية قرب منطقة القطيفة القريبة من مقر الفرقة الثالثة التابعة لجيش نظام الأسد، وتبعد نحو 40 كيلومترًا إلى شمال دمشق، وتعد من أكبر المقابر الجماعية المكتشفة مؤخرًا.
وتقدر منظمات حقوقية، من بينها المنظمة السورية للطوارئ، التي جمعت معلومات من شهود عيان طيلة الأشهر الماضية، أن عدد الجثث في مقبرة القطيفة تصل إلى أكثر من 100 ألف جثة، تضم رفات معتقلين قضوا تحت التعذيب أو أعدموا ميدانيًا بين عامي 2011 و2018، بينما عمل النظام على إخفاء الأدلة وتجريف المقبرة.
كما عثر الأهالي على مقبرة جماعية في منطقة الحسينية الواقعة خلف قصر المؤتمرات في ريف دمشق، وتضم نحو 150 قبرًا جماعيًا بعمق 20 مترًا، وتحتوي على رفات نحو 75 شخصًا تعود لجثث معتقلين قتلوا جراء التعذيب بين عامي 2012، و2016 حسب شهود عيان من المنطقة الذين أكدوا، أن قوات نظام الأسد كانت تجلب الجثث بشاحنات لدفنها في المقبرة أسبوعيًا.
كما اكتشف مقبرة جماعية قرب جسر بغداد شمال دمشق، تبلغ مساحتها قرابة 5 آلاف متر مربع، وتضم خنادق متوازية، وضعت الجثث فيها وغطت بكتل اسمنتية، وطمرت لاقحًا بالأتربة، ويعتقد أن الجثامين تعود لأشخاص قتلوا تحت التعذيب في معتقلات نظام الأسد، إذ تشير الصور إلى وجود أرقام على الأكياس التي تحتوي رفات الضحايا.
وفي بلدة ازرع التي تبعد 28 كيلومترًا إلى الشمال من محافظة درعا، عثر أهالي على مقبرة جماعية تقع قرب حاجز تابع للأمن العسكري ضمن أجهزة نظام الأسد، واستخرج منها الأهالي جثامين 30 شخصًا بينهم أطفال، نساء، مسنين، مرجحين ارتفاع أعداد الجثث.
وتؤكد شهادات الأهالي أن معظم المدفونين في المقبرة الجماعية قتلوا نتيجة طلق ناري في الرأس وبعضهم حرقًا، في إشارة، إلى أن عناصر الحاجز العسكري أعدموهم ميدانيًا أثناء مرورهم على الحاجز طيلة فترة وجوده في المنطقة.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نحو 96 ألفًا و321 حالة اختفاء قسري بينهم ألفين و329 طفلًا و5742 سيدة، بينما قتل نحو 201 ألف و290 مدنيًا بينهم 15 ألف شخص تحت التعذيب على يد النظام المخلوع منذ مارس/أذار 2011 حتى يونيو/حزيران 2024.
وحول أعداد المقابر الجماعية المكتشفة في سوريا، أكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فاضل عبد الغني، خلال حديثه لـ “نون بوست”، أنه لا يوجد توثيق دقيق لأعداد المقابر الجماعية في سوريا، لأنه بشكل يومي تقريبًا يعثر الأهالي على مقابر جماعية في مناطق متفرقة من البلاد، مشيرًا إلى أن معظم الضحايا من المغيبين والمعتقلين قسريًا.
أهمية المقابر الجماعية
تعول منظمات حقوقية وإنسانية بينها الدفاع المدني السوري، المركز السوري للعدالة والمساءلة، الشبكة السورية لحقوق الإنسان على دور السلطات المحلية في تحمل مسؤوليتها للحفاظ على المقابر الجماعية من عمليات الحفر والنبش العشوائي، نظرًا لأهميتها في تحديد هوية الضحايا وتحقيق العدالة لهم ولذويهم.
ووجهت الشبكة السورية لحقوق الإنسان توصيات بهدف اتخاذ تدابير دقيقة في التعامل مع المقابر الجماعية، من خلال الاعتماد على أسس القانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، والقانون الجنائي الدولي، بهدف تحقيق العدالة للضحايا، ومساءلة الجناة.
وأكد فاضل عبد الغني، ضرورة حماية المقابر الجماعية من قبل السلطات السورية الجديدة للحفاظ عليها ومنع العبث بها، مع ضرورة الالتزام ببروتوكول بورنموث بشأن حماية المقابر الجماعية، وضرورة توثيق مواقع المقابر بهدف العودة إليها لاحقًا، واحترام كرامة الضحايا وتحديد هويتهم وإعادة رفاتهم إلى عائلاتهم.
وشدد، على ضرورة التحقيق وضمان المساءلة من خلال إجراء تحقيقات مستقلة وشفافة وجمع الأدلة الجنائية، وفقًا للاعتبارات المجتمعية والإنسانية لا سيما حق ذوي الضحايا في معرفة الحقيقة والعدالة للضحايا.
وطالب مدير الدفاع المدني السوري، رائد الصالح، في تغريدة على منصة “إكس“، السلطات السورية الجديدة في تحمل مسؤوليتها وإغلاق السجون والمعتقلات السابقة ومنع العبث بها وحفظ الوثائق والأدلة الموجودة فيها، ومنع دخول المقابر الجماعية لأهميتها في كشف مصير المفقودين ومحاسبة الجناة.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن المقابر الجماعية تساعد في كشف مصير المفقودين والمعتقلين والمختفين قسريًا، وتكشف المتورطين في جرائم اختفائهم ومحاسبة مرتكبي تلك الجرائم، إذا تعتبر المقابر الجماعية أحد أهم المصادر لأدلة حاسمة على ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وأي عبث فيها أو فتحها دون ضوابط قانونية وجنائية سيضر بالأدلة وفي تحديد هوية الضحايا وإعادة رفاتهم لذويها ليتم دفنها بكرامة”.
وأضاف الصالح: “أن الأدلة في المقابر الجماعية تساعد في تحديد ما إذا كانت الرفات التي دُفنت فيها هي لضحايا الاختفاء القسري أم لأشخاص ماتوا نتيجة ممارسات وإجراءات غير قانونية، كالإعدام خارج نطاق القضاء، والتعذيب، وتدنيس الجثث، أو حتى التجويع. تُعد المقابر الجماعية مسارح للجريمة وبمثابة مستودعات للأدلة على انتهاكات جسيمة ممكنة لحقوق الإنسان”.
وتعرضت السجون والمعتقلات بعد سقوط النظام السابق إلى عمليات بحث عشوائي وفوضى عارمة تسببت في اتلاف وضياع كثير من الوثائق الضرورية التي تساهم في تحديد هوية المعتقلين والمفقودين الموجودين في السجون أو مروا عليها خلال فترة اعتقالهم، فضلًا عن عرقلة جهود الفرق الإنسانية والحقوقية سواءً خلال انتشال الضحايا أو توثيقهم.
خطوات فتح المقابر الجماعية
يشكل التعاطي مع موضوع فتح المقابر الجماعية بشكل عشوائي واعتباطي كما حصل في سجون ومعتقلات النظام البائد، أمرًا سلبيًا يساهم في تغييب العدالة للضحايا وذويهم ويحرمهم من حقهم في الحصول على رفات أقاربهم لدفنهم بشكل كريم.
وأكد المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة، محمد العبدلله، أن فتح المقابر الجماعية واستخراجها دون خبرة علمية وقانونية وتحقيقات مسبقة تمنع الحصول على الأدلة التي يمكن استخراجها وفقًا للبروتوكولات الصحيحة من قبل فرق مختصة.
وقال العبد الله خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن فتح المقابر بطريقة عملية وخبرة تقنية كافية يساهم في معرفة هوية الضحايا من خلال تحديد السمات الرئيسية، مثل: عمر الجثة المدفونة، ذكر أو أنثى، طويل أم قصير، عنده كسور سابقة في العظام، وجود أسنان معدنية ذهب أم فضة..”.
وأضاف: “أن تلك المعلومات يتم مطابقتها مع المعلومات التي يقدمها أهالي المفقودين خلال عمليات التحقيقات، لأن تحليل DNA غير متاح ومكلف جدًا، ومسألة إرسال عينات خارج سوريا أمر إشكالي ويخضع لبروتوكولات معقدة لا يمكن اتخاذها اليوم”.
وأوضح، أن فتح المقابر الجماعية من قبل مختصين يحدد طبيعة الجريمة التي اقترفت، أثار ضرب، تعذيب، كسور في العظام، كسر في العنق يدل على الشنق، طلق ناري يدل على إعدام ميداني.. مشيرًا إلى أن مسح الجثث بشكل علمي وتوثيقها وتصويرها خطوة بخطوة أمر أساسي وهام جدًا لمعرفة الانتهاكات التي تعرض لها الضحايا لمحاسبة الجناة.
وساهم المركز السوري للعدالة والمساءلة في عمليات الحفاظ على رفات ضحايا المقابر الجماعية التي خلفها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في محافظتي دير الزور والرقة، عبر فريق الاستجابة الأولية منذ العام 2019 الذي خضع لدورات تدريبية على يد الطب الشرعي الأرجنتيني في العام 2021، وفريق الطب الشرعي الكونتمالي في بداية 2024.
ويتفق رائد الصالح، مع العبدلله، بأن عملية فتح القبور مسألة حساسة ومعقدة للغاية، سواء من الناحية القانونية أو الجنائية، فهي تتضمن بروتوكولات لضمان الحفاظ على أي دليل واحترام كرامة المتوفى.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: إن فتح المقابر الجماعية من قبل فرق مختصة ومهنية خلال هذه المرحلة لا يمكن لأنه يتطلب تصريحًا قانونيًا رسميًا من الهيئات القضائية أو التحقيقية مثل السلطات الوطنية أو الآليات الدولية، وهذا التفويض غير متوفر حاليًا، وفتحها دون تصريح يعتبر تعديا كبيرا يؤدي للعبث بالأدلة، وانتهاك للمعايير الدولية، وتعريض التحقيقات الجنائية المحتملة للخطر”.
وبحسب الصالح، تحتاج عملية فتح القبور إلى بروتوكولات جنائية وقانونية صارمة:
- الحفاظ على الموقع: يتم التعامل مع موقع القبر كمكان للجريمة، ويجب تأمينه وتوثيقه قبل أي عمل أو تغيير.
- إشراك الخبراء: مطلوب من علماء الجنائيين وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأمراض وغيرهم من المتخصصين في قيادة العملية، يقومون بشكل منهجي باستعادة البقايا والأدلة المرتبطة بها.
- توثيق شامل: يتم تسجيل كل خطوة بدقة – صور ومقاطع فيديو وملاحظات بما يضمن سلسلة العهدة لجميع الرفات والبقايا والأشياء الخاصة بالرفات.
- تقنيات متخصصة: هذا أمر فني تفصيلي بشكل واسع.
- التنسيق مع السلطات القضائية: يجب أن تتوافق العملية بشكل كامل مع المتطلبات القانونية لضمان قبول الأدلة في المحاكم.
هل يوجد فرق متخصصة في سوريا؟
تركز فرق الدفاع المدني السوري في الوقت الحالي على الاستجابة الطارئة لنداءات الأهالي بوجود رفات مكشوفة غير مدفونة وتنتشلها وفقًا للبروتوكولات الخاصة والتنسيق لاستكمال كافة الإجراءات الخاصة بحفظها بما يساعد في إمكانية التعرف عليها لاحقًا.
وأوضح الصالح، أن فرق الدفاع المدني لا تقوم بفتح المقابر الجماعية ولا تستخرج أي رفات مدفونة فيها، وإنما تعمل في إطار الاستجابة للتعامل مع الجثامين والقبور المفتوحة أو الرفات المكشوفة خارج المقابر الجماعية، إذ أن التعامل مع المقابر الجماعية يحتاج إلى ولاية قضائية وجنائية وإلى فرق مختصة وتفويض قانوني، بالإضافة إلى وجود تقنيين مختصين ومختبرات متخصصة لضمان التعامل مع الرفات بشكل علمي ودقيق.
في حين أكد، محمد العبدالله، أنه لا يوجد في سوريا جهات تمتلك مختبرات DNA وخبيرة في الطب الشرعي، ولا يوجد معدات تقنية، ويشكل الاستعجال في فتح المقابر الجماعية خطر يضرها ويدمر الأدلة فيها.
وأشار، إلى أن فتح المقابر الجماعية يجب أن يكون عبر الصليب الأحمر الدولي أو بمساعدة الأمم المتحدة، أو عبر منظمات سورية وإشراف من قبل منظمات دولية نشطت في هذا المجال.
وأوضح، أن فصل العظام وأخذ عينات رفات جثث مختلطة لا يمكن دون وجود طبيب شرعي أنثروبولوجي تحديدًا، وأطباء جراحة العظام، لذلك ندعو، إلى الحفاظ على المقابر الجماعية لضمان الأدلة ريثما تمتلك الفرق الخبرة أو تحصل على إشراف دولي.
وإلى الآن لا يوجد فرق متخصصة في سوريا لفتح المقابر الجماعية، رغم حصول أفراد من الدفاع المدني على تدريب من فريق الطب الشرعي الكونتمالي، بينما تركز المنظمات والجهات الفعالة حاليًا جهودها في الحفاظ على المقابر الجماعية بالإمكانيات المتاحة، لأن عملية فتحها يحتاج تحقيقات وخبرات ومعدات وتجهيزات ضرورية بغية ضمان تحديد هوية الضحايا وتحقيق العدالة.
ختامًا.. ينتظر ذوي آلاف المعتقلين والمغيبين قسريًا أبنائهم وأحبائهم حيث ترجح منظمات إنسانية وحقوقية أن رفات الجثث في المقابر الجماعية المكتشفة مؤخرًا تعود إلى هؤلاء الضحايا الذين أعدموا ميدانيًا أو قتلوا تحت التعذيب في سجون نظام الأسد البائد، لكن لا يمكن اخراجهم بشكل اعتباطي لأنه يحتاج فرق مختصة وجهود سورية ودولية.