تختلف الأساليب والأدوات المستخدمة في الحروب على مر العصور، فمنها ما بَطُل ولم يعد يستخدم، ومنها ما تطور ومنها ما بقي قائمًا حتى هذه اللحظة بنفس معناه وتعريفه الاصطلاحي، كـ”المرتزقة”، وهم جنود مستأجرون ليحاربوا من أجل دولة أخرى غير دولهم، بهدف تلبية مصالحهم الخاصة بهم، بمقابل مادي، بغض النظر عن المصالح السياسية أو الإنسانية أو الأخلاقية.
وقد ورد تعريف المرتزقة في الملحق الأول الإضافي “المتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة” إلى اتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949، وهي أول اتفاقية دولية تتناول بالتحديد موضوع المرتزقة، بأن “المرتزق” هو أي شخص يجرى تجنيده خصيصًا – محليًا أو في الخارج – ليقاتل في نزاع مسلح أو يشارك فعلاً ومباشرة في الأعمال العدائية.
في ديسمبر عام 1989، اعتمدت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، حيث اعتبرت أن كل مرتزق وكل من يجند أو يستخدم أو يمول المرتزقة مجرم، كما حظرت على الدول تجنيدهم واستخدامهم، إذ لا يتمتع المرتزق بوضع المقاتل أو أسير الحرب.
عرف التاريخ ظهور المرتزقة بشكل موثق في مصر القديمة تقريبًا عام 2500 ق.م، وذلك عندما تم اكتشاف “رسائل العمارنة”
ونعرض في هذا التقرير، أهم المحطات التاريخية الشهيرة التي تم استخدام المرتزقة فيها، منذ عهد الفراعنة وحتى القرن العشرين.
المرتزقة في مصر القديمة
عرف التاريخ ظهور المرتزقة بشكل موثق في مصر القديمة تقريبًا عام 2500 ق.م، وذلك عندما تم اكتشاف “رسائل العمارنة”، وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من الرُقم الطينية المكتوبة باللغة الأكادية “البابلية” والخط المسماري التي وجدت في أرشيف قصر الملك المصري إخناتون (أمنحوتب الرابع) في مقر حكمه (أخت أتون) تل العمارنة في مصر.
أطلق المصريون القدماء على مجموعة المرتزقة في ذلك الزمان اسم “Apiru” أو “Habiru” “هابيرو” باللغة الأكادية، الذين تم وصفهم على أنهم مجموعة من الآسيويين يتجولون في بلاد الشام بحثًا عن الرزق في أي مصلحة كانت، شأنهم في ذلك شأن العبرانيين.
إن كلمة “هابيرو” مرتبطة بكلمة “هابتو” الأكادية التي تعني “النهب” أو “السرق”، وكلمة “saggasu” “سا جاز” التي تعني “القاتل”، وقصدوا بهذه الكلمة المجموعة الصغيرة من الجنود المتجولين الذين يعملون كمرتزقة محليين، ويبدو أن هذا المصطلح بات متداولًا بين الشعوب القديمة، فهو مكتوب في النصوص الحثية القديمة وكذلك النصوص القديمة الموجودة في الأناضول.
انتقل أسلوب استخدام المرتزقة من مصر إلى باقي أنحاء العالم القديم
وصفهم الفيلسوف النمساوي اليهودي مارتن بوبر على أنهم “أشخاص بلا وطن، حيث انفصلوا عن صلاتهم الوطنية واتحدوا في رحلات مشتركة من أجل الرعب والنهب، فنصفهم رعاة وبدو، أو مرتزقة حسبما تتوافر الفرصة”، ولكن المؤرخين الآخرين قالوا إن وصف الهابيرو بالبدو ليس دقيقًا.
عام 1288 ق. م، استخدمهم رمسيس الثاني في معركة “قادش” ضد الحيثيين، وكان لأدائهم المُتقن في هذه المعركة السبب في استجلاب الفراعنة المرتزقة إلى صفوف الجيش المصري من أماكن كثيرة، لا سيما بلاد الإغريق وما حولها.
10 آلاف مرتزقة
انتقل أسلوب استخدام المرتزقة من مصر إلى باقي أنحاء العالم القديم، حيث استأجر “كورش الأصغر” 10 آلاف مرتزق من بلاد الإغريق عام 401 ق.م ليساعدوه في طرد أخيه الملك “أرتحششتا الثاني” من العرش الفارسي.
ذكر هذه الواقعة الشهيرة المؤرخ والفيلسوف الإغريقي “كسينوفون” تلميذ سقراط، في كتابه “Anabasis”، وهذا المؤرخ هو بعينه كان أحد قيادات المرتزقة الإغريقية في هذه المعركة التي حدثت بالقرب من بغداد، وقُتل فيها “كورش الأصغر”.
يُعرف الحرس السويسري اليوم بأنهم حماة البابا ذي الزي الرسمي في الفاتيكان، لكن تاريخهم يمتد إلى عصابات من المرتزقة التي ازدهرت خلال عصر النهضة
يقول “كسينوفون” إنه تولى قيادة جيش المرتزقة بعد مقتل قياداته، وخاضوا معركة شرسة ومميتة استمرت تسعة أشهر، زحفوا بها من قلب مدينة بابل حتى وصلوا إلى ميناء البحر الأسود اليوناني، وأصبحت رواية “كسينوفون” فيما بعد ملحمة كلاسيكية بطولية تتغنى بها الثقافة الأوروبية.
الشركة البيضاء
كانت شركة White Company The واحدة من أكثر الشركات المعروفة تحت مسمى “الشركات الحرة”، وهي عبارة عن مجموعة من الجنود المرتزقة الذين جنوا الأموال الكثيرة من وراء الحرب في إيطاليا في القرن الرابع عشر.
قاد المرتزقة السير البريطاني جون هاوكوود الذي كان فارسًا في الحرب التي عرفت بـ”حرب المئة عام” بين إنجلترا وفرنسا، وفي عهده أصبحت الشركة واحدة من أكثر جيوش المرتزقة النخوبة في إيطاليا وأوروبا، حيث ضمت مغامرين إنجليز وألمان ومجريين، أرعبوا المعارضين بهجماتهم المفاجئة السريعة في أي زمان ومكان.
كان الفارانجيون تجارًا سويديين غزوا شرق روسيا، بدأت قصتهم عام 874 عندما أبرم كل من كييف روس والقسطنطينية معاهدة سلام ألزم فيها كييف روس بإرسال المساعدة العسكرية البيزنطية، وهنا عمل الفارانجيون لصالح الدولة البيزنطية في عهد الإمبراطور “مايكل الثالث”، حيث عملوا كحرس شخصي له
كانت الشركة تعمل لمن يدفع لهم أجرًا أعلى، فقد قاتلوا من أجل البابا، ثم حاربوا ضده، وحاربوا لأجل مدينة ميلانو ثم لمدينة فلورنسا، وكانوا معروفين بأنهم يقومون بشن غارات على القرى والبلدات القريبة، وينهبون أهلها.
الحرس السويسري
يُعرف الحرس السويسري اليوم بأنهم حماة البابا ذو الزي الرسمي في الفاتيكان، لكن تاريخهم يمتد إلى عصابات من المرتزقة التي ازدهرت خلال عصر النهضة، حيث حارب أكثر من مليون مغامر سويسري في جيوش أوروبا بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر.
كانت هذه القوات من بين الجنود الأوروبيين الأوائل الذين أتقنوا استخدام الحراب والناردين ضد الأعداء المدججين بالسلاح، وبحلول القرن الثامن عشر الميلادي، اكتسبتهم تكتيكاتهم الثورية وقسوتهم الشديدة سمعة كأفضل مرتزقة ممكن العمل معها، وغالبًا ما كان المرتزقة السويسريون يعملون لصالح الفرنسيين، وقد قاتلوا وماتوا بأعداد كبيرة خلال الثورة الفرنسية.
حرس فارانجي
هي وحدة النخبة التي عملت كحراس شخصيين للأباطرة البيزنطيين من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، وقد تم إرسالهم إلى الجبهة على تاحدود في أوقات الحرب لحماية وتوسيع حدود الإمبراطورية البيزنطية.
كان الفارانجيون تجارًا سويديين غزوا شرق روسيا، بدأت قصتهم عام 874 عندما أبرم كل من كييف روس والقسطنطينية معاهدة سلام ألزم فيها كييف روس بإرسال المساعدة العسكرية البيزنطية، وهنا عمل الفارانجيون يعملون لصالح الدولة البيزنطية في عهد الإمبراطور “مايكل الثالث”، حيث عملوا كحرس شخصي له.
انتهى دور المرتزقة الفارنجيون بعد إجلاء بيزنطا من القسطنطينية عام 1204 من الأوروبيين الغربيين خلال الحملة الصليبية الرابعة
عام 911، أصبح الحرس الفارانغي كمنظمة أمنية دائمة، كان ولاؤهم للإمبراطور الذي كان يدفع له الأجر الكبير مع السماح لهم بالقيام بعمليات النهب، وقد كان لهم دور أساسي في الحفاظ على وحدة الإمبراطورية وحماية العرش البيزنطي.
انتهى دور المرتزقة الفارنجيون بعد إجلاء بيزنطا من القسطنطينية عام 1204م من الأوروبيين الغربيين خلال الحملة الصليبية الرابعة.
شركة كاتالونيا
تم تنظيم شركة كاتلونيا عام 1302 من المغامر روجر دي فلور، وكانت تتألف في المقام الأول من قدامى المحاربين الإسبان الذين شاركوا فيما عُرف بـ”حرب صُلاة الزبل” في إيطاليا.
بعد نهاية الصراع مع إيطاليا، تعاقد دي فلور ومرتزقته العاطلين عن العمل مع الإمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الثاني الذي نقلهم إلى شرق البحر المتوسط لمحاربة غزو الأتراك العثمانيين، ولقد نجح الكتالونيون البالغ عددهم 6500 فرد في اجتياح الأتراك بعيدًا عن القسطنطينية، ولكن ميلهم إلى الاستغناء عن البيزنطيين ونهبهم قد أثار غضب البيزنطيين.
عام 1305، تعرض دي فلور ونحو 1300 من رجاله لكمين وقتلوا على يد مجموعة أخرى من المرتزقة أرسلهم الإمبراطور، فيما شرع الباقين منهم على قيد الحياة في واحدة من أكثر المغامرات دموية والأكثر حيرة في التاريخ العسكري في العصور الوسطى.
بعد سحق الجيوش اليونانية وقتل الدوق في معركة “كيفيسوس” عام 1311، وجدوا المرتزقة أنفسهم أمراء فعليين لدوقية أثينا
وبعد محاولة فاشلة منهم لإقامة دولة خارجة على القانون في جاليبولي، سار المرتزقة إلى اليونان، وعملوا لصالح دوق أثينا، ولكن سرعان ما نشأ نزاع بشأن الأجور المتأخرة بينهم، حتى عاد الكتالونيون مرة أخرى إلى الحرب ضد اليونان.
بعد سحق الجيوش اليونانية وقتل الدوق في معركة كيفيسوس عام 1311، وجد المرتزقة أنفسهم أمراء فعليين لدوقية أثينا، وتمكنوا من تعزيز سلطتهم وحكمهم على مساحات شاسعة من اليونان لأكثر من 75 عامًا حتى هزمهم جيش من فلورنسا في المعركة.
النمور الطائرة
هي فرقة معروفة رسميًا باسم المجموعة الأمريكية للمتطوعين، وقد كانت فرقة “النمور الطائرة” المشهورة قوة من ثلاثة أسراب من الطيارين المقاتلين الذين قاتلوا مع الصينيين ضد اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية.
تم حل المجموعة رسميًا في يوليو 1942، لكن بعض أعضائها انضموا لاحقًا إلى وحداتهم القديمة وخدموا بقية الحرب العالمية الثانية
تم تنظيم الوحدة لأول مرة في أوائل عام 1941 في الأشهر التي سبقت تفجير ميناء بيرل هاربل، وقد سمح الرئيس فرانكلين دي روزفلت للضابط العسكري الأمريكي السابق كلير تشينولت بتجنيد لاعبي الجيش من صفوف القوات الجوية للجيش الأمريكي كمرتزقة، حرصًا منه على عرقلة الاستيلاء الياباني على الصين مع استمرار حياده.
تم حل المجموعة رسميًا في يوليو 1942، لكن بعض أعضائها انضموا لاحقًا إلى وحداتهم القديمة وخدموا بقية الحرب العالمية الثانية.
هذه بعض النماذج التاريخية للمرتزقة التي ما زالت تعاني منها الكثير من الدول على المستوى العربي والعالمي، حتى وقتنا هذا، تحت شعار “نقتل أكثر لمن يدفع أكثر”.