تكشف العمليات النوعية التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية في شمال قطاع غزة خلال الأونة الأخيرة تحولا لافتا في تكتيكات القتال والمواجهة، يتناسب مع مقتضيات الضرورة والتطورات الميدانية، وهي العمليات التي تحاول من خلالها فصائل المقاومة التأكيد على بقائها وصمودها في المعركة بعد مرور أكثر من 440 يومًا من القتال.
وأسفرت تلك العمليات التي تنوعت بين قنص واشتباك من المسافة صفر واستخدام الأحزمة النارية والعمليات الاستشهادية والطعن بالسكاكين والتنكر في زي عسكري إسرائيلي عن مقتل 60 ضابطًا وجنديًا في صفوف جيش الاحتلال (17 منهم قنصًا) منذ بدء عمليات الشمال قبل أكثر من شهرين، بحسب تصريحات الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب القسام، فيما قال المحتل إن عدد قتلاه 35 ضابطًا ومجندًا فضلا عن عشرات الإصابات في صفوفه.
يتزامن هذا التكثيف لمثل تلك العمليات التي تبث الرعب في صفوف عناصر الاحتلال لما تمتلكه من عنصر المفاجأة وعدم القدرة على كشفها استخباراتيًا ولا تقنيًا، مع التفاؤل النسبي بشأن مفاوضات اتفاق الهدنة وصفقة التبادل بين المقاومة والكيان المحتل في ضوء الأجواء الإيجابية -بحسب الإعلام العبري والأمريكي وتصريحات مسؤولي حماس- التي تخيم على جلسات النقاش بين الأطراف المختلفة والوسطاء واحتمالية التوصل إلى اتفاق وشيك لإنهاء القتال ولو بصورة مؤقتة.
الذئاب المنفردة.. نقلة نوعية في تكتيكات المواجهة
شهدت الأيام العشرة الأخيرة تحديدًا تكثيفًا للعمليات النوعية في استهداف جنود وضباط جيش الاحتلال في مناطق الشمال رغم آلة التدمير التي سوتها بالأرض والحصار المطبق من البر والجو والبر المفروض على جباليا وبيت لاهيا وغيرها من المناطق المحاصرة والتي يهرول المحتل لتنفيذ مؤامرته الاستعمارية المعروفة باسم “خطة الجنرالات”.
في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري نشرت كتائب القسام مقطع فيديو تناول إحدى العمليات التي قامت بها ضد جيش الاحتلال والتي سمتها بـ “كمين الفالوجا” الذي نفذه مقاتلوها غربي مخيم جباليا، حيث قالت في بيان لها إن “مجاهدا قساميا تمكن من الإجهاز على قناص صهيوني ومساعده من المسافة صفر في مخيم جباليا”، لافتة أنه بعد ساعة من ذلك “تنكر المجاهد نفسه بلباس جنود الاحتلال، واستطاع الوصول لقوة صهيونية مكونة من 6 جنود وتفجير نفسه بواسطة حزام ناسف في القوة وإيقاعها بين قتيل وجريح”، لتكون تلك العملية الاستشهادية هي الأولى في جباليا منذ عام 2002.
وفي التاسع عشر من الشهر ذاته أعلنت القسام عن طعن أحد مقاتليها ضابطا إسرائيليا و3 جنود من نقطة الصفر والإجهاز عليهم واغتنام أسلحتهم الشخصية في مخيم جباليا، كما أعلنت كذلك عن إجهاز مقاتل على جندي إسرائيلي بجوار دبابة “ميركافا” والاستيلاء على سلاحه وإلقاء قنبلتين يدويتين داخل الدبابة غرب مدينة بيت لاهيا.
وفي الحادي والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الجاري نفذت المقاومة عملية مركّبة وسط مخيم جباليا أجهزت خلالها على 3 جنود إسرائيليين طعنا بالسكاكين واغتنموا أسلحتهم الشخصية، وبحسب ما ذكرت الكتائب فقد اقتحم مقاتلو القسام بعد ذلك منزلا تحصنت به قوة راجلة أخرى وأجهزوا على جنديين من أفرادها عند بوابة المنزل، واشتبكوا مع بقية أفراد هذه القوة من مسافة صفر، تبعها عملية أخرى حين ألقت عناصر المقاومة قنابل يدوية إسرائيلية الصنع صوب جنود للاحتلال بجوار ناقلة جند وأوقعتهم بين قتيل وجريح وسط مخيم جباليا.
تطور يلائم المرحلة
يعكس التحول في عمليات المقاومة من الاستهدافات بعيدة المدى إلى تكتيك الذئاب المنفردة، القراءة الموضوعية الدقيقة لتطورات المشهد، فالقدرات العسكرية للفصائل لم تعد كما هي منذ بداية الحرب قبل 14 شهرًا، حيث استُنزفت معظم الترسانة التسليحية وفقدت المقاومة الكثير من الإمكانيات اللوجستية في ظل مخطط تضييق الخناق الممارس عليها من الاحتلال وحلفاءه من دول الطوق.
هذا بخلاف غياب وتراجع جبهات الإسناد التي مثلت الأشهر الأولى من المعركة رقما مهما في خارطة المواجهة، فغاب حزب الله، الجبهة الأكثر حضورًا وتأثيرًا، نتيجة مقارباته السياسية والتزامه بالاتفاق المبرم مع الكيان المحتل والذي يتضمن وقفا لإطلاق النار من الأراضي اللبنانية باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتراجع العمليات القادمة من جبهتي العراق واليمن، هذا بجانب استمرار الخذلان العربي المعتاد الذي تحول في بعض محطاته من التزام الحياد إلى دعم المحتل بشكل أو بأخر.
وفي المقابل استمرار الدعم المطلق لجيش الاحتلال عسكريًا ولوجستيًا واقتصاديًا من الولايات المتحدة والقوى الغربية الداعمة للاستعمار، بما يعوض أي نقص في الترسانة التسليحية أو خسائر في القدرات العسكرية، الأمر الذي يساعد الجيش الإسرائيلي على الاستمرار بذات القوة رغم ما تكبده من ضربات مؤلمة على أيدي المقاومة منذ بداية الحرب.
وأمام تلك المعادلة غير المتكافئة والتي تميل بطبيعة الحال لصالح جيش الاحتلال ما كان أمام المقاومة سوى التحايل على تلك الوضعية الصعبة باللجوء إلى تكتيكات أخرى، أقل احتياجا للسلاح الثقيل، وأكثر مرونة في التعاطي مع التطورات الميدانية خاصة بعدما تحول القطاع إلى أرض محروقة نتيجة ألة التدمير الوحشية الإسرائيلية.
لذا كان التحول للعمليات الاستشهادية واستراتيجية الذئاب المنفردة، من خلال العُقد القتالية قليلة العدد، وغير المركزية، وهي الاستراتيجية التي أتت أكلها ونجحت في استعادة بعضًا من التوازن المطلوب، خاصة في ظل صعوبة التصدي لها بشكل ممنهج، تقنيًا ومخابراتيًا، كونها تعتمد على تحركات فردية مستفيدة من جغرافيا القطاع المدمرة، ما أحدل حالة من القلق والرعب بين صفوف جيش الاحتلال، خشية الانتقال إلى مرحلة جديدة من حرب الشوارع التي يجيدها المقاومون الفلسطينيون بحكم التاريخ والجغرافيا.
رسائل الثبات والصمود
تحاول المقاومة بشتى فصائلها من خلال هذه النقلة في عملياتها النوعية إرسال حزمة من الرسائل ثلاثية الأبعاد، للداخل الفلسطيني وللكيان المحتل وللمجتمع الدولي:
للداخل الفلسطيني.. رسائل الطمأنة بأن المقاومة ثابتة ميدانيًا، وحاضرة بقوة في المشهد، وصامدة في مواجهة الاحتلال، ومتمسكة بثوابتها الوطنية المتمثلة في الدفاع عن القضية الفلسطينية حتى أخر رمق في حياة عناصرها، وهو ما يؤصل شعارها الذي اعتادت ترديده منذ بداية الحرب: إنه لجهاد نصر أو استشهاد.
للكيان المحتل.. التأكيد على وقوف المقاومة على أقدامها في الميدان رغم ما تعرضت له من خسائر وضربات في ظل الفوارق الكبيرة في الإمكانيات والقدرات، فبعد أكثر من 440 يومًا من القتال الشرس، تكبد المقاومة جيش الاحتلال الخسائر الفادحة، ولا زالت صواريخها ترشق سماء تل أبيب وغلاف غزة، بما يفند كافة المزاعم الإسرائيلية التي تروج لسردية القضاء على حماس بشكل نهائي.
التأكيد كذلك على النجاح الاستخباراتي للمقاومة، إذ تعتمد مثل تلك العمليات النوعية في المقام الأول على المعلومات الاستخباراتية الدقيقة، بداية من تحديد الهدف بدقة متناهية، ودراسة جغرافيا العملية بكل تفاصيلها بحرص شديد، والعناية الفائقة في التنفيذ، الاقرب للانتحار منه للعمليات التقليدية التي تحتمل ثنائية النجاح والفشل.
كما أن بث تلك العمليات عبر مقاطع مرئية على منصات التواصل الاجتماعي وبتلك الدقة في التصوير والمونتاج والإخراج يبرهن على حضور المقاومة ميدانيًا بشكل كبير، وقدرتها على إدارة المشهد من كافة جنباته، وحجم التنسيق الواضح بين القيادات والتشكيلات الصغيرة، وأن اللجوء إلى استراتيجية حرب الشوارع إنما هو تنويع في العمليات بما يتواكب مع التطورات والقراءة الدقيقة للمشهد وليس إفلاس وانزواء كما يحلو للمرجفين أن يرددوا.
وفي ذات السياق فإن الفيديو الأخير الذي بثته القسام، السبت 21/12/2024، والذي يُظهر فيه للمرة الأولى تجمع قادة حماس الراحلين إسماعيل هنية ويحيى السنوار وصالح العاروري، ومشاهد زيارات لورش تصنيع الأسلحة مع إخفاء وجوه من رافق القادة الثلاثة في تلك الزيارات، حمل هو الأخر العديد من الرسائل التي تؤكد على استمرار المعركة وأن المقاومة لا تزال تحتفظ بعناصر قيادية فاعلة تواصل القتال والمواجهة بعيدًا عن الإعلام والأضواء، وأن قدراتها على إنتاج المزيد من الأسلحة لا تزال قائمة رغم ما تعرضت له ترسانتها التسليحية من تدمير واستنزاف، وهو ما تترجمه بعض العبارات التي تضمنها المقطع والتي تؤكد على الرسالة نفسها كعبارة “مدد بلا حد”.
للمجتمع الدولي.. رغم المرونة التي أبدتها حماس وفصائل المقاومة فيما يتعلق بإدارة قطاع غزة وترتيبات اليوم التالي للحرب، ومحاولة تخفيف حدة التوتر مع الحركات الفلسطينية الأخرى رغم تصاعد الخلاف بينهما، إلا أن ذلك لا يعني غياب حماس عن المشهد الغزي بالكلية، فالحركة متواجدة كلاعب أساسي في مناقشات ما بعد الحرب، ليس شرطا أن يكون بنفس الثقل والحضور الذي كان قبل عملية الطوفان، لكن في الوقت ذاته لن يكون البديل إزاحتها عن الساحة بشكل نهائي، وهي الرسالة التي تبعث بها الحركة للمجتمع الدولي المعني بالأزمة والوسطاء المصريين والقطريين والولايات المتحدة من خلفهما.
وفي الأخير..
فإن تزامن تلك العمليات النوعية التي تكبد الاحتلال خسائر فادحة في صفوفه، والتكثيف منها، مع المفاوضات الجارية حاليًا بشأن صفقة تبادل رهائن واتفاق لوقف إطلاق النار، يحمل بين طياته رسالة مباشرة وواضحة تحاول المقاومة إيصالها للجميع، المفاوض والوسطاء، بأنها تفاوض من منطلق قوة لا ضعف، من وضعية الثبات لا التقهقر، وأنها ماضية في حرب الاستنزاف تلك حتى أخر مقاتل بين صفوفها.
وهذا ما تحاول المقاومة التأكيد عليه مرارًا وتكرارًا، مع كل جولة تفاوضية تُجريها، حيث التمسك بالثوابت والتشدد في تحقيق مطالبها، وأن أي مرونة تبديها في مسار التفاوض إزاء أي من تلك المطالب إنما باعثه الأساسي رغبتها في تخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لمخطط تجويع وإنهاك غير مسبوق تاريخيًا، والعمل على إنهاء الحرب حتى لو كان الثمن إبداء المزيد من التعاطي المرن، في ظل مجتمع دولي يعاني من ازدواجية الصمم والعور البصري والأخلاقي.