ودّ الإسرائيليون لو أن أحدًا يأتي ليخبرهم أن ما حصل بالأمس كان مزحة. هذا لم يحصل، وظلّوا عالقين خارج دوائر الخلاص المنتظر، الدوائر التي أغلقها نتنياهو على نفسه منذ الانتخابات الأخيرة التي لم يمضِ شهرين على مرورها.
حلّت الكنيست الإسرائيلية نفسها قبل منتصف ليل أمس، عقب فشل مفاجئ نسبيًا لمفاوضات نتنياهو -رئيس الكتلة الأكبر في البرلمان الإسرائيلي بحسب نتائج الانتخابات الأخيرة- لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة. كانت الصدمة كبيرة ووقعها مدوٍ، لم يتسطع الإعلام معالجتها إلا بالسخرية من نتنياهو، المنتصِر في إبريل والمهزوم في مايو. كما استيقظ الإسرائيليون مهنئين بعضهم البعض بعبارة “يوم انتخابات سعيد”، ساخرين.
بين خطاب نتنياهو ليلة الفوز وبين خطابه ليلة أمس بون شاسع، من النصر إلى الخزي والفشل
كانت مهمّة نتنياهو تشكيل إئتلاف حكومي يضم أكثر من 60 عضوًا، خلال 28 يومًا، استنفدها ومدّة إضافية امتدت لأسبوعين منحه إياها رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، بموجب القانون. بذلك، تكون دورة الكنيست هذه أقصر دورة كنيست في تاريخ “إسرائيل”.
ما القصة؟ تجنيد المتديّنين وتقسيم الكعكة
بين خطاب نتنياهو ليلة الفوز وبين خطابه ليلة أمس بون شاسع، من النصر إلى الخزي والفشل. في خطابه، ألقى نتنياهو المسؤولية كاملة على أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب “إسرائيل بيتنا”، ووزير الجيش السابق. ادعى نتنياهو قائلًا إن “ليبرمان يجرّ “إسرائيل” مرة ثانية نحو الانتخابات بدوافع شخصية”، كما اتهمه بأنه جزء من “اليسار الإسرائيلي-المتهالك أساسًا وتمثيله البرلماني ضئيل كذلك”، وأنه يخاطر باستقرار الدولة بهدف كسب مقاعد إضافية معدودة في الانتخابات القادمة. وتابع نتنياهو بأن ليبرمان ابتزه كثيرًا، مصرّحًا: “لم تكن هناك نية من اللحظة الأولى لتليبة ما قاله. لقد وضع طلبًا وراء آخر، وفي كل مرة يتم فيها تلبية الطلب، يطرح طلبًا آخر”. على أي حال، هل هذه هي الصورة الكاملة أم أن هناك أسبابًا أخرى لحلّ الكنيست الإسرائيلي؟ لنوضح ذلك..
في البداية عقد نتنياهو الآمال على أحزاب اليمين المتديّن (شاس، يهدوت هتوراة-اتحاد أحزاب اليمين) الذين حظوا بنسبة تمثيل كبيرة في الكنيست الـ21 وكذلك عقد الأمل على وزير المالية السابق موشيه كاحلون، وحزبه اليميني “كولانا”، إضافة لحزب “يسرائيل بيتنو” بقيادة ليبرمان من اليمين. سعى نتنياهو لتشكيل ائتلاف حكومي من 65 مقعدًا، وهو ما يعتبر ائتلافًا ضعيفًا مقابل كتلة معارضة مشكّلة من 55 مقعدًا، وهو ما يعادل تقريبًا حجم قوة الإئتلاف.
دائمًا ما يصرّ ليبرمان على موقفه العلماني بأنه لا يجب السكوت عن توغّل التيار الديني بالمؤسسات الإسرائيلية ومؤسسات فرض القانون
تعثّرت المفاوضات بين نتنياهو وشركاؤه، بسبب قانون التجنيد الذي يجبر الحريديم على الانتظام في الجيش، في حين أن الحريديم هم فئة معفاة من التجنيد لأسباب دينية عقدية، يؤدي الخوض فيها لإشعال نيران الخلاف. هذا بالإضافة لخلاف حول تقسيم الحقائب الوزارية، حيث أن ليبرمان طلب لـ 3 وزراء من حزبه 5 حقائب وزارية.
دائمًا ما يصرّ ليبرمان على موقفه العلماني بأنه لا يجب السكوت عن توغّل التيار الديني بالمؤسسات الإسرائيلية ومؤسسات فرض القانون. إن قناعة ليبرمان وإصراره على موافقة نتنياهو على هذا التعديل يمسّ بشركاء نتنياهو من الطرف الآخر، أي الأحزاب الحريدية، وعليه توصّل نتنياهو لتسوية مع ليبرمان مفادها أن القانون سيمرّ بالقراءة الأولى للمصادقة عليه ومن ثم بعد تشكيل الحكومة سيمرّ بالقراءة الثانية فالثالثة. رفض ليبرمان هذا العرض، رغم موافقة الحريديم، بقيادتهم الدينية والسياسية، من باب الالتفاف على نتنياهو ومنع انتخابات مبكرة، ربّما تجلب للحكم طرفاً “معادياً” يحوّلهم لمعارضة. أما حزب “كولانو” فلم يوقّع على اتفاق الائتلاف مع نتنياهو كذلك، مشترطًا توقيع ليبرمان، لتجنّب تشكيل ائتلاف ضعيف يشكله 60 عضوًا فقط، دون ليبرمان.
وقد ورد في تحليلات مختلفة استندت لتصريح من الناطق باسم حزب الليكود، يونتنا أوريش، أن الخلاف بعيد عن قانون التجنيد، وأنه ثأر بين نتنياهو وليبرمان، أي أن ليبرمان يريد تصفية نتنياهو وأن لديه نيّة مبيّتة لذلك. ومن رصد عام للتحليلات في الإعلام الإسرائيلي اليوم، بدا أن هذه الرواية متفق عليه بين المحللين الذين وصفوا ليبرمان بأقذر الأوصاف.
تضيف التقديرات السياسية بان نتنياهو قد جنّ بالدفاع عن نفسه ومنصبه وأنه يبذل كل ما لديه للحفاظ على نفسه بالحك
بالطبع، لا يمكن إعفاء نتنياهو من المسؤولية الخطأ الذي وقع فيه بعد انتخابات عام 2015، حين عقد زواجا كاثوليكيا مع الأحزاب الحريدية، الأمر الذي قدّم لهذه الانتخابات المبكرة والتي سبقتها. نتنياهو لم يستطع أن يرضي شركاءه في هذا الزواج فأتى بانتخابات مبكرة للمرة الرابعة في فترات حكمه. مرة كانت بسبب خلاف مع تسيبي ليفني وأخرى بخلاف مع وزير المالية السابق يئير لابيد، والثالثة للهروب من القضاء والمحاكمة بسبب تراكم الملفات المتهم بها. وتضيف التقديرات السياسية بان نتنياهو قد جنّ بالدفاع عن نفسه ومنصبه وأنه يبذل كل ما لديه للحفاظ على نفسه بالحكم. يعزّز ذلك حقيقة أنه كان يملك إمكانية منع انتخابات مبكرة عبر إحالة الأمر لرئيس الدولة، الذي بدوره كان سيكلّف ثاني أكبر كتلة في البرلمان (أي كاحول-لافان) لتشكيل حكومة، وهو ما لم يرد بالحسبان لدى نتنياهو المتمسك المستميت بالسلطة.
استنجاد بحزب العمل
سقط نتنياهو سقطته الأخيرة أمام حزب العمل (المصنّف حزب مركز) حين عرض على الحزب المعارض الانضمام للائتلاف مقابل أربعة حقائب وزارية، عرف من بينها حقيبة الأمن والمالية والقضاء والاتصالات/الاعلام. كما وعدهم بعدم تقديم قانون يعطيه الحصانة من القضاء في قضية التحقيقات الجارية ضدّه، ولكن حزب العمل رفض الانضمام لحكومة يرأسها نتنياهو. وفي تغريدة لآفي غاباي، رئيس كتلة حزب العمل، أكد المغريات التي عرضت على حزبه وأضاف: “أن الحزب يرفض الذهاب بانتخابات مبكرة، وعلى الرئيس ريفلين منح بني غانتس تفويضًا بتشكيل الحكومة”.
ستخوض بعض الأحزاب انتخابات تمهيدية جديدة، وهذا وارد في حالة حزب العمل، ومن الممكن أيضاً تشكيل قوائم مشتركة جديدة لتغيير موازين القوى بالانتخابات القادمة
أما بيني غانتس، من حزب كاحول لافان، المناوئ الأكبر لحزب الليكود ونتنياهو، فقد هاجم الأخير قائلًا: “أثبت نتنياهو مجدّدًا ليست “إسرائيل” أولًا، بيبي فوق كل شيء، بيبي أسير الإجراءات القضائية وهذه محاولة للتهرب من الاعتقال. بيبي فشل والشعب سيدفع الثمن”.
المآلات أفق مسدود
ستضاعف الانتخابات العبء الاقتصادي على خزينة “إسرائيل”. فمن جهة، الأحزاب التي أخذت قروضًا للمشاركة في الانتخابات لم تسدّدها بعد، ستضطر أن تأخذ قروضًا بقيمة مشابهة للقروض السابقة، وهذه الانتخابات ستتيح الفرصة لأشخاص كانوا قريبين من نسبة الحسم للمشاركة مرة أخرى بالإنتخابات مثل نفتالي بينيت (وزير التعليم السابق) وآييلت شاكيد (وزيرة القضاء السابقة).
كما ستخوض بعض الأحزاب انتخابات تمهيدية جديدة، وهذا وارد في حالة حزب العمل، ومن الممكن أيضاً تشكيل قوائم مشتركة جديدة لتغيير موازين القوى بالانتخابات القادمة. ففيما يتعلق بحزب العمل، فقد عُرض عليهم من قبل رئيسة حزب ميرتس دخول الكنيست بقائمة واحدة، إلا أن حزب العمل يرفض العرض على ما يبدو.
يتمثّل العبء الاقتصادي أيضًا بأن يوم الانتخابات هو يوم عطلة مدفوع الأجر. فقد أوضحت تقديرات وزارة المالية، يوم أمس، بأن تكلفة حل الكنيست وتقديم موعد الانتخابات ستصل إلى 5 مليون شيكل تقريبًا. وهذه المبلغ لا يشمل حسابات تأثير ذلك على الاقتصاد الإسرائيلي، بل يشمل ميزانية لجنة الانتخابات المركزية وميزانية تمويل الأحزاب فقط.
أن نتنياهو يواجه اتهامات بتلقي رشاوى في القضية 4000ـ وتهم احتيال وخرق الثقة في قضية رقم 1000 و2000
يبدو أن خسارة نتنياهو كبيرة، فلم يستطع تمرير قانون يعطيه الحصانة الكاملة من القضاء والقانون. ويزداد الإرباك من ناحيته مع اقتراب جلسة الاستماع الخاصة بقضيته. فبعد أسبوعين من الآن، أي في 10 يونيو، كان من المقرر أن يعقد ماندلبليت – المستشار القضائي للحكومة- عقد جلسة استماع لنتنياهو، إلا أن الأخير طلب تأجيلها سنة. ولم يتضح حتى الآن ما مآل هذه الجلسة بعد التطورات الأخيرة، إلا أن جلسة استماع أخرى مقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
يذكر أن نتنياهو يواجه اتهامات بتلقي رشاوى في القضية 4000ـ وتهم احتيال وخرق الثقة في قضية رقم 1000 و2000. وفي هذا السياق نشر قرار سابق لتقديم نتنياهو لجلسة استماع في فبراير الماضي، ولكن بناءً على طلبه أصبحت مواد التحقيق متاحة فقط في 10 أبريل، أي اليوم التالي للانتخابات السابقة.
وفي السياق الدولي والإقليمي، يأتي قرار حلّ الكنيست والانتخابات المبكرة وسط استعداد لاعبين دوليين وعرب لعقد اجتماع حول تصفية القضية الفلسطينية، عبر تمرير صفقة القرن، المقترح الأمريكي لخطة السلام في الشرق الأوسط.
إلا أن التحليلات الواردة في الصيحفة المقربة من نتنياهو “يسرائيل هيوم” أفادت بـ “مقتل” صفقة القرن على يد “حل الكنيست”، والذهاب لانتخابات مبكرة، أي أن ذلك سيقود لتأجيل أي قرار أو إجراءات تخصها إلى حين تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، في حين تشكّلت، بعد 17 أكتوبر 2019. ويضاف لذلك تأجيل إضافي متعلق بنتائج الانتخابات الأمريكية التي ستجري عام 2020، وقد تضع صفقة القرن ومستنداتها في “مزبلة التاريخ” كما وصف صائب عريقات في تصريحه المنقول في الصحيفة الإسرائيلية المذكورة، التي أكدت أن الفلسطينيين “راضون” عن هذه التطورات.