“علينا جميعًا أن نحرص على إنجاح هذه القمم بالتعاون مع ولاة أمرنا، والتخفيف من الزحام على منطقة الحرم”، بهذه الكلمات استحضر إمام الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن السديس الدعاء لولاة الأمر ثوابًا مضافًا لمن قصد البيت الحرام في العشر الأواخر من رمضان، ثم دعا الداعي المسلمين أن “افسحوا في الحرم للقمم فذاك من يسر الدين”، فما الأمر الجلل ليفسح القاصد ويزيح وقد دفع مالاً ليكون حيث يريد أن يكون؟
لمن وُجِّهت الدعوة السعودية؟
في يوم 18 من مايو/أيار الحاليّ، وعلى وقع تصاعد التوتر في الخليج وتضرر منشآت نفطية قرب الرياض وتخريب ناقلتي نفط سعوديتين ضمن 4 سفن بميناء الفجيرة الإماراتي، دعا العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لعقد قمتين طارئتين خليجية وعربية بمكة المكرمة نهاية الشهر الحاليّ.
المعلن لأهداف القمم الطارئة، كان مناقشة التحديات والتهديدات التي تواجه المملكة دون غيرها
دعت المملكة إلى ذلك على حين غرة، محددةً جوار بيت الله الحرام في مكة المكرمة مكانًا لالتقاء الحشود العربية والإسلامية، وهي المدينة التي نفى الحوثيون استهدافها في وقت تعجز فيه المملكة عن رد الهجمات المفترضة للحوثيين عليها، فكيف لمن لا يستطيع صد هجمات هؤلاء أن يجيِّش المحيطين الخليجي والعربي ضد من هو أكبر منه، وهو إيران، في حرب تُقرع طبولها في معسكر الرياض أبو ظبي على الأقل؟
لم تعبأ الدولة المضيفة بالإجابة عن هذا السؤال، ومضت في استضافة ثلاث قمم بدلاً من اثنتين، على مدى يومين (الخميس والجمعة)، بينهم قمة عربية وأخرى خليجية تُعقدان بصفة طارئة في ظل التوتر بمنطقة الخليج، وقمة إسلامية تعقد بصفتها الدورية تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي، ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة، حيث تضم 57 دولة من 4 قارات، وهي تمثل العالم الإسلامي وتسعى لحماية مصالحه.
امتلأت شوارع مكة بلافتات الترحيب بقادة الدول العربية
المعلن لأهداف القمم الطارئة، كان مناقشة التحديات والتهديدات التي تواجه المملكة دون غيرها، وبحسب وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير الذي أكد أن بلاده لا تريد حربًا ولا تسعى إليها فإن المرجو من القمم السعودية هو الخروج بموقف موحد يدين ما سمَّاه “العدوان والأعمال التخريبية” التي تدعمها إيران، مستعرضًا تأهب بلاده للدفاع عن نفسها بكل قوة وحزم لو وقعت الحرب.
لكن لم يظهر من القوة والحزم المخبأين شيء حين قطعت طائرات الحوثيين المسيرة مئات الأميال نحو منشآت “أرامكو” النفطية قرب العاصمة الرياض، وكان هذا فعل الحوثيين الموصوفين بذراع إيران وحرسها الثوري، فكيف بإيران نفسها؟
مجرد تصعيد دبلوماسي
بغض النظر عن كون سمعة القمم العربية عادية أو طارئة قد لا يبشر بتحقق الاحتشاد المطلوب خاصة في الظروف الراهنة، لكن يبقى أن الدعوة لـ3 قمم، منهم قمتان طارئتان دفعة واحدة، تمثل لدى الداعي على الأقل تصعيدًا وإن كان دبلوماسيًا.
والرياض هنا تنفخ دبلوماسيًا في أزمة يؤكد طرفاها الأساسيان أنهما لا يريدان تفجيرها، فإدارة ترامب تعمل على “ردع” إيران ولا تريد “خوض حرب” معها، أمَّا إيران فتستبعد نشوب حرب وتقول أيضًا إنها لا تريدها.
يبرز تساؤل مهم يتعلق بنوع التجاوب والتمثيل القطري وحجمه في القمم التي ستعقد في مكة، وإذا كان التناقض السعودي في الموقف من قطر يمثل تراجعًا عن الاتهامات التي ظلت توجهها السعودية إلى قطر
وفي مقابل “النفخ” السعودي، يبدو مستوى التمثيل الدبلوماسي متدنيًا إلى درجة قد تربك أعمال الدولة المضيفة، فبحسب ما ذكرت وكالة “الأناضول“، تأكد مشاركة نحو ثلث عدد الرؤساء والملوك العرب في القمة العربية الطارئة، حتى عشية انعقادها المقرر اليوم الخميس، أبرزهم العاهل السعودي والرئيس الفلسطيني محمود عباس وعاهل الأردن الملك عبد الله الثاني والرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز.
وباستثناء سوريا المجمد عضويتها، لم تحدد 9 دول عربية، حتى منتصف الخميس، مستوى تمثيلها في القمة الطارئة منها مصر والإمارات والسودان واليمن، بينما أعلنت 4 دول مشاركة تمثيل على مستوى رئيس وزراء فيما أقل حتى الآن.
أما رئيس الوزراء القطري الشيخ عبد الله بن ناصر آل ثاني فسيمثّل بلاده في القمم الثلاثة، بعد أن وجَّه العاهل السعودي دعوة رسمية إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد لحضور القمم الثلاثة الطارئة، في خطوة يُنظر إليها بحسب باتريك وينتور، المحرر الدبلوماسي بصحيفة “الغارديان” على أنها مؤشر على تحسن العلاقات بين الجانبين.
وإثر ذلك، يبرز تساؤل مهم يتعلق بنوع التجاوب والتمثيل القطري وحجمه في القمم التي ستعقد في مكة، وإذا كان التناقض السعودي في الموقف من قطر يمثل تراجعًا عن الاتهامات التي ظلت توجهها السعودية والدول المشاركة في الحصار إلى قطر طوال العامين الماضيين، ومنها محاولة زعزعة أمن السعودية وتمويل الإرهاب ودعم الإخوان المسلمين في الشرق الأوسط.
وعلى أقل من مستوى التمثيل القطري، حضر وزيرا خارجية تونس خميس الجهيناوي والليبي محمد طاهر سيالة على متن طائرة واحدة للمشاركة في القمتين الإسلامية والعربية، ووصل وزير خارجية العراق محمد الحكيم على متن طائرة آتية من بغداد للمشاركة في القمتين العربية والإسلامية، في حين ذكرت مصادر أن وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل لن يحضر القمم ضمن وفد بلاده.
صورة وزعتها وكالة الأنباء السعودية يظهر فيها قادة دول مجلس التعاون الخليجي خلال القمة في الرياض في 9 ديسمبر 2018
ويمثل وفد المغرب مولاي رشيد، شقيق الملك محمد السادس في القمم المذكورة، وعُرف عن المغرب مقاطعة جميع القمم العربية منذ عام 2005 إذ درج على إيفاد إما وزير الخارجية أو ممثل عنه، وتعبر مشاركة مولاي رشيد عن رغبة المغرب بحسب المصادر برفع مستوى التمثيل ولأهمية القمم الثلاثة وما قد ينتج عنها من توحيد موقف عربي تجاه اعتداءات إيران الأخيرة.
أمَّا فيما يتعلق بالقمة الإسلامية في مكة، يبدو من شبه المؤكد عدم حضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسينوب عنه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو.
رغم عدم تلقي إيران أي دعوة رسمية من المملكة العربية السعودية لحضور القمة، فقد فاجأت السعودية بإعلانها نيتها حضور قمة منظمة التعاون الإسلامي، لكن ليس على مستوى رفيع
ورغم عدم تلقي إيران أي دعوة رسمية من المملكة العربية السعودية لحضور القمة، فقد فاجأت السعودية بإعلانها نيتها حضور قمة منظمة التعاون الإسلامي، لكن ليس على مستوى رفيع، حيث ستشارك على مستوى المدير العام لوزارة الخارجية بعد تلقيها الدعوة من أمانة المنظمة فقط، وليس من الملك سلمان بن عبد العزيز، بحسب ما أفادت وكالة “إيسنا” الإيرانية.
وتشير مشاركة إيران رغم التوتر مع دول الخليج إلى خوفها من اتخاذ قرارات وإجراءات ضدها خلال القمة، وهو ما حذَّر منه نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون القانونية والدولية غلام حسين دهقاني، الأحد الماضي، أعضاء منظمة التعاون الإسلامي، مشيرًا إلى احتمالية سعي السعودية وبعض الحكومات المتشابهة في التفكير مع الرياض للاستفادة من قمة مكة لاتخاذ إجراء ضد بعض الأعضاء، بمن فيهم إيران.
ما وراء التحشيد السعودي
تنعقد هذه القمم في ظل أجواء تتجاوز التوتر إلى ما هو أكثر من ذلك، فعاصفة الحزم في اليمن لم تحسم المشهد، وحملة حفتر للسيطرة على العاصمة الليبية تواصل إخفاقاتها، والدماء تسيل بغزارة في سوريا، وثمة منعطف تاريخي في القضية الفلسطينية، لكن يبدو أن القمم لا تنعقد من أجل ذلك، وهناك بيت خليجي متصدع في أقل تقدير.
فماذا تأمل الرياض من حشدها للقمم الطارئة؟ فهي بمقاييس التسلح من أقوى الجيوش العربية، ومَنْ تدعوهم لدعمها ليسوا أضعف منها فقط بل يراقبون فعلها على مدار سنوات في اليمن ضد الحوثيين، وهم بضعة آلاف لا أكثر.
كما لم يظهر من بشائر الدعم العربي ما يعوَّل عليه خلال حادثتي الفجيرة واستهداف منشآت “أرامكو”، فقد اقتصر الأمر حينها على بيانات لفظية لا أكثر، ولا يتوقع أن يكون وراء أكمة المحيط العربي سوى ذلك بعد أن أثخنته في غير موضع مغامرة السياسة السعودية والإماراتية، وهما الآن أول من يستغيث بحثًا عن دعم العرب وأشقاء الخليج.
يبدو العنوان العريض للقمم الثلاثة مواجهة ما يُوصف بالتحديات والمخاطر الإيرانية من خلال تحشيد دبلوماسي عربي وإسلامي وخليجي
يبدو العنوان العريض للقمم الثلاث مواجهة ما يُوصف بالتحديات والمخاطر الإيرانية من خلال تحشيد دبلومماسي عربي وإسلامي وخليجي، وفي ذلك ما يستبطن عمليًا الدفاع عن المملكة، فهي تواجه من يوم لآخر رشق هجمات تنفذها جماعة الحوثي على الأراضي السعودية، كان أكبرها ضرب أنبوب نفط في العمق.
هي إذًا “قمة الأنبوب النفطي” كما سمَّاها خليجيون، وذاك في توقيته ومكانه يثير تساؤلات عدة عن جدوى حشد المسلمين والعرب لها في جنبات مكة وبجوار بيت الله الحرام، وفي العشر الأواخر المباركة من رمضان، وبدعوة من خادم الحرمين الشريفين، ترد الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في السعودية سيرًا في نفس اتجاه السديس، مؤكدة أن ذلك “يكسب هذه القمم أهمية بالغة”.
قد يقع ذلك في باب استضلال المكان ورمزيته، في محاولة مكررة للتماهي بين سلطة حكم زمني ومكان مقدس وسلطة حكم لديها جيوش وأسلحة توجهها سياسة راشدة تقود ليس لحماية الدولة وحسب بل إنهاء جماعة مسلحة صار من شأن تهديدها أن تجتمع له الدول والقمم، وهي دعوات لم تقع مثلاً لمذابح السوريين المفتوحة أو الهجوم على عاصمة عربية هي طرابلس.
قمم مكة في تيه شعابها
ماذا عن الدعم المرجو من قمة عربية وبالأخص الخليجية؟ وهل بقي من كيان التعاون الخليجي ما يسعف في مثل هذه الأزمة بعد أن صدعته الرياض بيدها قبل عامين حين حاصرت وشيطنت شقيقًا خليجيًا مجهِزة على أي أمل في حيوية ذلك الكيان العربي؟
ثم أكملت كتابة شهادة وفاة المجلس في أواخر عام 2017، حين اختارت السعودية والإمارات يوم انعقاد القمة الخليجية لتكشفان عن إطار عمل ثنائي، تمثل في تشكيل “لجنة مشتركة” برئاسة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وثمة من قرأ في ذلك رسالة سلبية من حيث المحتوى والتوقيت، أي أنها تحاول نسف نحو 4 عقود من العمل المشترك في إطار مجلس التعاون الخليجي.
تأتي قمم تبدو لمن قرأها محاولة تحميل الأمة مسؤولية الإخفاق دون السؤال عمَّن أوصل المملكة لهذه الحال
ولأن القمم بالقمم تُذكر، سيعود للأذهان ما كان عليه الحال قبل عامين حين حلَّ الرئيس الأمريكي المنتخب حينها ضيفًا على الرياض، حيث التفت الأيدي تصافح وتشد ثم توقع اتفاقات قاربت نصف تريليون دولار، وهو رقم أذهل العالم.
يومها ألقى الرئيس ترامب خطابًا، قال فيه: “إيران مصدر الإرهاب”، ودعا الدول العربية والإسلامية لمكافحة ما سماه “التطرف الإسلامي”، لكن القتال أو الحرب ليست عليه، فقد أعطى السلاح بمئات المليارات من الدولارات، ولم يكف بعدها عن استعراض مهاراته في أخذها كأهون من تأجير شقة في نيويورك، في حين لم تجدِ الأسلحة في صد الهجوم على المملكة.
في ذلك المؤتمر ظهر بقوة على العالم الأمير محمد بن سلمان، الموصوف صعوده لولاية العهد آنذاك بـ”الإصلاحي”، وهو أيضًا مهندس حملة الحزم للقضاء على جماعة الحوثي من موقعه كوزير للدفاع، وانطلق بعدها الأمير الشاب في سياساته وتحكم بالأمر، ثم رد الزيارة لترامب، فما لقي غير عروض الدفع عبر مال من النفط ومن الحج والعمرة، وهذه وحدها تقارب 17 مليار دولار، يقول منتقدون إنها تُبذل لسلاح يُقتل به مسلمون دون فائدة.
ترامب يرقص مع الملك سلمان في السعودية
بعد ذلك تأتي قمم تبدو لمن قرأها محاولة تحميل الأمة مسؤولية الإخفاق دون السؤال عمَّن أوصل المملكة لهذه الحال، فعند النظر في الإقليم بعد قمة 2017 بأيام قادت المملكة مع 3 دول حصارًا على قطر فخسرت الجار ووحدة الخليج.
وفي الدول العربية ينقسم الناس حولها (السعودية)، وهي رأس ما يُوصف بـ”الثورات المضادة”، أمَّا اليمن فيغرق في دمه بلا طائل، وفيه من يقول إن سياسة المملكة هي من مكنت الحوثي منذ البدايات.
أمَّا الجار بالجنب، تركيا، فتُوجه إليها سهام الهجوم في خصومة غير مفهومة رغم استحالة إخراجها من أي معادلة لبناء جبهة سنِّية عند تصنيف المعادلة من حيث المذهب.