لطالما كانت المواضيع المتعلّقة بالمرأة وصحّتها الجسدية والنفسية والجنسية من المحرّمات والمحظورات التي يجب تجنّبها والامتناع عن الخوض فيها أو مناقشتها على الملأ. لكن لو نظرنا حولنا الآن لوجدنا أنّ المشهد الثقافي قد تغيّر كثيرًا في السنوات الأخيرة في ظلّ العالم التكنولوجي والرقمي الذي نحيا فيه.
واستجابةً لتلك التغييرات الثقافية، أصبحت “صحة المرأة” جزءًا من السوق التكنولوجي الآخذ بالنموّ والاتّساع أكثر فأكثر مع الوقت. يُطلق عليه اليوم التقنية الأنثوية أو femtech أو Female technology، وتُشير إلى مجموعة واسعة من التطبيقات والأدوات التكنولوجية التي يُروّج لها بكونها صمّمت خصّيصًا لمساعدة المرأة في مراقبة صحّتها وخلق أنماط حياة صحّية ومستدامة.
يمكن للمرأة الآن استخدام تطبيقات وأدوات تمكّنها من تتبّع دورتها الشهرية وأوقات خصوبتها ومعرفة إمكانية حملها من عدمه ومواعيد ولادتها المتوقّعة. ولا يتوقّف الأمر عند هذا. فمن خلال الخوارزميات المعقّدة التي تتبعها تقدّم هذه التطبيقات، غالبًا ما يكون مبدأ عملها مبنيّ في إطارٍ تثقيفيّ وتعليميّ يقدّم المعلومات والنصائح التي تدّعي أنها تثقّف المرأة حول جسدها وما يتعلّق به من جوانب نفسية وجنسية بطريقة تُعطي وهمًا بالشعور بالسيطرة ومعرفة كلّ شيء.
صعودٌ هائل
اليوم، هناك أكثر من 200 شركة ناشئة في جميع أنحاء العالم متخصصة بالصحة الرقمية للمرأة، جزءٌ منها تمّ تأسيسه على يد نساء فيما جزء آخر لا يزال يخضع للهيمنة الذكورية. وبلغة الأرقام والحسابات، يقدّر رأس المال المخصّص لهذا السوق في هذا العام فقط أكثر من 241 مليون دولار، رقم لم يكن من المتخيّل تحقيقه قبل عقدٍ من الزمان على سبيل المثال. أما بحلول عام 2025، فمن المتوقّع أنْ يصل الرقم إلى أكثر من 50 مليار دولار.
أحدثت هذه التطبيقات تحوّلًا في المنظومة الاجتماعية فيما يتعلّق بموضوعات مثل الحيض والخصوبة والجنس وغيرها
تقوم الفكرة الرئيسية لأشهر التطبيقات في هذا المجال على الاهتمام بالحيض والدورة الشهرية وما يرتبط بها من موضوعات الصحة الجسدية والجنسية للمرأة كالخصوبة والإباضة والحمل وانقطاع الطمث وغيرها. فيما يركّز جزءٌ آخر منها على تقديم المشورة والنصائح للمشكلات والمخاوف وتقديم الدعم النفسيّ للنساء، وهناك التطبيقات التي تروّج لبعض المنتجات والمستلزمات بصفة أنها تسهّل على المرأة حياتها وتعطيها قدرًا من السيطرة عليها؛ كوسائل تحديد النسل وأدوية الحيض أو الطمث على سبيل المثال. ومنها ما يتناول مواضيع خارج نطاق الصحة الجنسية والتناسلية مثل سرطان الثدي وأمراض المناعة ومشاكل الغدة الدرقية والهرمونات والاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب.
وبشكلٍ عام، يشكّل النموّ السريع لهذه الصناعة أهمية كبيرة لا لأنه يدلّ على زيادة الرغبة في الاستثمار بصحة المرأة والاهتمام بها أكثر، ولكن لأنّه أحدث تحوّلًا في المنظومة الاجتماعية والثقافية فيما يتعلّق بموضوعات مثل الحيض والخصوبة وانقطاع الطمث والصحة الجنسية والتي ظلّب على مدى التاريخ محصورةً إمّا بين النساء أنفسهنّ أو في النقاشات الحاصلة في مكاتب أطباء النسائية. ولكن كما هو الحال مع أيّ تحول في المعايير الثقافية، لا يزال هناك عددٌ من الوصمات والتحيّزات التي تتحكّم في هذا المجال.
عالم للرجال تحكمه الصور النمطية
يرى البعض بالفعل بأنّ الرجال يهيمنون ويسيطرون على المجال التكنولوجي والتقني في العالم. وبمجرّد إلقائنا نظرة قريبة على الأرقام، سنجد أنّ 10٪ فقط من الاستثمارات العالمية تذهب إلى الشركات الناشئة التي تقودها النساء. ونظرًا لأنّ غالبية المستثمرين والمبتكرين ورجال الأعمال والعلماء هم من الرجال، فمن المرجّح أنْ يقوموا بالاستثمار في الأمور التي تتعلّق بهم وتتقاطع مع حياتهم. وبما أنّ برامج الصحة الرقمية الأنثوية لا تفيد الرجال أو تتواصل معهم بشكلٍ مباشر، فلا عجب أنّها لا تجذب المستثمرين الذكور نحوها ونحو الاستثمار فيها وتطويرها.
من جهةٍ ثانية، تقوم الفكرة الأساسية لهذه التطبيقات على قيام المستخدمات لها بإدخال البيانات والمعلومات اللازمة مثل بداية الحيض ونهايته وكثافة الدم وشكله، والعوامل الأخرى المرتبطة مثل الحالة المزاجية والألم البدنيّ ودرجة حرارة الجسم والنبض والوزن والنشاط الجنسي وغيرها.
تعمل تطبيقات الصحة الرقمية بشكلٍ خفيٍّ ولا واعٍ على تسويق الكثير من المنتجات بحجة إعطاء المرأة سيطرةً أفضل على حياتها وفهمًا أعمق لما يحدث معها
أي أنّها تعتمد على مقدار المعلومات التي تُبدي المستخدمة استعدادًا لإعطائها والإفصاح عنها مروجةً لفكرة أنه كلما زادت البيانات المُدخلة واتّسع نطاقها، أصبحت التنبؤات والقراءات أكثر دقّة ومصداقية. وبالتالي، يصبح استخدام هذه التطبيقات دون إدخال معلومات مفصلة لا يقلّل من فعاليتها فحسب، بل يمكن أنْ يؤدي إلى العديد من الأخطاء والتنبؤات غير الصحيحة التي يمكن أنْ تؤثّر سلبًا على المرأة.
وعلى الرغم من أنّ تلك التطبيقات يمكن أنْ تؤدي بالفعل إلى نتائج صحية أفضل ومتابعة أدقّ للدورة الشهرية وغيرها، إلا أنّها تعمل بشكلٍ خفيٍّ ولا واعٍ على تسويق الكثير من المنتجات بحجة إعطاء المرأة سيطرةً أفضل على حياتها وفهمًا أعمق لما يحدث معها. وبكلماتٍ أخرى، أصبحت صحّة المرأة جزءًا من نظام اقتصاديّ واستهلاكيّ يتغذّى على الإعلانات باستغلال الحالة النفسية والمزاجية المرتبطة بصحة المرأة.
قد تعزز تطبيقات الصحة الصور النمطية عن أجساد النساء وأمومتهنّ ونشاطهنّ الجنسي وغيرها
فعلى سبيل المثال، العديد من تطبيقات الصحة الأنثوية تزوّد مواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من البيانات والمعلومات الخاصة لاستغلالها وتفعيلها في مجال الإعلانات والتسويق. فحين يعلم فيسبوك بموعد الدورة الشهرية أو الحمل، تعمل الخوارزميّات على تقديم إعلانات ودعايات تتعلّق بهذه الأمور، مثل المنتجات الصحّية الأنثوية أو مستلزمات الحمل والولادة وغيرها الكثير.
كما تعمل تلك المعلومات على ترسيخ وفرض عددٍ من الصور والأفكار بطرقٍ ملتوية. فحين يستمرّ تطبيق ما بالإعلان عن تجميد البويضات أو عن تحسين الخصوبة، يمكن لبعض النساء أنْ يفسرنَ ذلك وكأنه ضغط عليهنّ حتى يقمن بالأمر، أو أنْ يصبح الموضوع امتدادًا للقيم الاجتماعية التي تدعو النساء للإنجاب في سنٍّ معيّنة أو تعزّز الصور النمطية الأخرى عن أجسادهنّ وأمومتهنّ ونشاطهنّ الجنسي وغيرها.
عوضًا عن أنّ جزءًا كبيرًا من المحتوى الخاص بتلك التطبيقات يركّز أساسًا على فئة معيّنة من النساء، في الغالب يكنّ في عمرٍ صغيرة ممّن يتمتعن بصحةٍ جيدة وقادرات على إنجاب الأطفال أو يمكن أنْ يكنّ يحاولن فهم أجسادهنّ بشكل أفضل حتى يتمكن من إنجاب أطفال في يوم من الأيام.
ما يعني أنّ المجال بالرغم من تقدّمه السريع إلا أنه لا يزال بحاجة للكثير من الجهد والاستثمار والتحسين بحيث يكون بالفعل قادرًا على خدمة المرأة وتسهيل حياتها لا جزءًا من السوق الرأسمالي والاستهلاكي أو من المنظومة الاجتماعية التقليدية التي ترسّخ الصور النمطية عن المرأة وحياتها.