ليس للإعلام وجه حقيقي واضح دائمًا، وليست وكالات الأخبار منصفة بالكامل حتى أكثرها مصداقية، فهي إحدى أدوات السلطة المستخدمة للتوجيه وبناء الرأي العام والحشد. كما أن دور الإعلام يأخذ أشكالاً مختلفة وفاعلة في التخطيط للحروب وتغيير مجرى الأحداث وحشد التأييد، وهو ما سنحاول تسليط الضوء عليه في هذا المقال عبر طرح المثال الأمريكي وتعامل الإعلام في وقت الحروب.
الإعلام الأمريكي والحرب النفسية على العراق
يعمر تاريخ الإعلام الأمريكي بالتدخلات والتوجيهات التي قام بها خلال تغطيته للأخبار والأحداث منذ انطلاقته حتى الآن. فقد سجل الكثير من نقاط الضعف التي كانت محط أنظار بعض المحللين السياسيين والمنصات الإعلامية. ومن أبرزها استخدامه لمصادر مجهولة خلال تغطياته الإخبارية أو الصحفية. فقد قام عام 2003 بتقديم الحرب في العراق على أساس معلومات غامضة ومصادر مجهولة ألهبت عناوين الصحف ونشرات الأخبار. فحسب دراسة للدكتور حمزة خليل الخدام، هدفت إلى تحليل الحملة الإعلامية الأمريكية في حرب الخليج الثالثة عام 2003 توصل بها إلى أن الحملة الإعلامية الأمريكية قد بدأت قبل عملية تحرير العراق وسارت موازية لها، واستمرت بعدها، واستخدمت سلاحاً سادساً في الأزمة بالإضافة إلى الأسلحة الجوية والبحرية والضغط الاقتصادي والسياسي، ألا وهي حرب الإعلام.
لم يكتف الإعلام الأمريكي بالتحريف والتحوير لصالحه بل اختلق أحداثاً لم توجد من الأصل.
إذ تم توثيق الاقتحامات والقصف التي تابعها العالم عن بعد وعدّت جزءاً من كسب المعركة، بينما كانت أخبار حرب جزر الفوكلاند تستغرق أسبوعاً حتى تصل إلى الشاشات مما شكّل علامة استفهام للمحللين. ومن أوّل الأدلة على أن هذه الحملة كانت حرباً إعلامية بالدرجة الأولى إشارة المخرج الأمريكي، ريتشارد كابلان، أن محطة الـ CNN عممت على جميع مراسليها بوجوب إرسال مسودة عن المادة التي ستبث قبل الإرسال حتى تتم الموافقة عليها من قبل المسؤول في أتلانتا حيث المقر الرئيسي للمحطة العالمية.
لم يكتف الإعلام الأمريكي بالتحريف والتحوير لصالحه بل اختلق أحداثاً لم توجد من الأصل. ففي مؤتمر صحفي للرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش مع طوني بلير، الذي كان رئيس حزب العمال البريطاني حينها، زعم فيه أن العراق أعدم جنديين بريطانيين، وقد أدعى أن قامت قناة الجزيرة بثت صورهما في إشارةٍ منه إلى أن الإعلام العربي يحرض على الحرب. ولكن المفاجئة كانت حين تراجعت الحكومة البريطانية لاحقاً عن هذا الاتهام بعد أن قالت قريبة أحد الجنديين لصحيفة بريطانية إن الجيش أبلغها أن الجندي قتل في العمليات العسكرية. ولكنها ليست المرة الأولى من نوعها للإعلام الأمريكي.
أحداث 11 سبتمبر والمسرح الإعلامي
بعد مرور أكثر من 10 أعوام على أحداث 11 سبتمبر التي هزّت أمريكا وجعلت الأنظار تتجه نحو العالم الإسلامي كافة، ما زالت تقارير الإعلام الأمريكي تجهل أعداد القتلى والمتضررين حتى الآن ولم تقدّم أيّ كشف عن هوياتهم الحقيقية. مما جعل هذا الحدث نقطة شكّ للكثير من المحللين وقنوات الإعلام الأخرى.
قيام الوزراء الأمريكان باتخاذ الإيمان الإسلامي والعراق كرموز إرهابية في سبيل توسيع الرقابة الاجتماعية المحلية.
وفي إطار هذا التشكيك المستمر وحسب حديث للباحث في الشؤون الأمريكية، أسامة بورشيد، مع موقع الخليج أونلاين كان قد لمّح فيه إلى أنه “لا يرى أن هناك معلومات كافية حول هذا الموضوع المثير، على الأقل في الصحافة الأمريكية”. كما شككت عدة منصات حول هذه الحادثة في أكثر من جهة مثل انهيار برج التجارة رقم 7 بينما لم يكن من بين الأبنية التي تضررت وأيضاً نشوب حريق في البناء الملحق بالبيت الأبيض في ذلك اليوم وعدم تغطية الإعلام الأمريكي لهذه الحادثة. وقد أشارت بعض التقارير أيضاً إلى أن بعض أهالي المتضررين قدموا اعتراضهم على رواية الحكومة وطالبوا بإعادة فتح التحقيقات ولكن لم تسفر جهودهم بأي نتيجة.
وفي تقرير لعالم الاجتماع، ديفيد ألثيد، نشر عام 2007 لجامعة أريزونا الأمريكية عنوانه “فوضى الإعلام والإرهاب” يقول في مقدمته أن وسائل الإعلام الأمريكية هي من يشجع على الإرهاب عن طريق تخويف الجمهور من مستقبل مجهول يتواجد به المسلمين. بينما لم تقم الدولة بفرض أيّ قوانين جديدة تساعد في الحدّ من هذه الجرائم والعمليات. وأن هذا التشجيع بدأ منذ أحداث 11 سبتمبر بالرغم من أن تاريخ أمريكا مع الجرائم والإرهاب قديم، وأن صانعوا القرار السياسي قاموا بتعديل الدعاية السياسية التي هي جزء من مشروع “أمريكا الجديدة” الذي يهدف إلى قيادة أمريكا للعالم. كما استشهد في تقريره بقيام الوزراء الأمريكان باتخاذ الإيمان الإسلامي والعراق كرموز إرهابية في سبيل توسيع الرقابة الاجتماعية المحلية.
تكثر الأسئلة حول محاولات الإعلام الأمريكي بالتغطية على بعض الأحداث أو الأخبار لما يتناسب مع مصالحه في جوّ يملئه الشكّ. بينما ينبهنا هذا إلى تساؤل حول حقيقة أهدافه. فهل هي محاولات للتأثير على الرأي الأوروبي العام في تجاه العالم الإسلامي أمّ هي طريقة ممنهجة في توجيه الأحداث لما يصب لصالحها على كل الأصعدة؟
البروباغندا الأمريكية في الحرب العالمية الثانية
للحروب نهايتان وحيدتان يمكن أن تتحقق واحدة منهم فقط. الأولى أن تسقط البلد كاملةً معلنةً خسارتها، أو أن تربح الحرب حتى لو كلفها الفوز خسارات كبيرة. ولكن أن تفوز دولة وتكسب الكثير فهذا ما كان جديداً في الحرب العالمية الثانية. وكمثال على هذا تأتي الولايات المتحدة الأمريكية المثال الأوضح إذ اعتمدت أمريكا على خلق دعاية كبيرة لتوجيه الجمهور، وراء المجهود الحربي، وتوحيد البلاد، في حين كانت على أعقاب خسارة كبيرة، ولكن جهود الحكومة نجحت في توجيه هذه الجهود ورفع معنويات الشعب الأمريكي من خلال دعاية مدروسة ما زالت تدهش المحللين حتى الآن.
لم يقتصر نجاح هذه الدعاية في الفوز بالحرب إلا أن أمريكا حققت نجاحات أخرى على عدة مستويات كالصناعة والتجارة والزراعة
قدم الإعلام الأمريكي جهوداً جبارة في توجيه الشعب الأمريكي نحو الفوز في الحرب، مستخدمين كل أنواع الشائعات ابتداءاً من البث في الراديو إلى توزيع المناشير المكتوبة والكتب الكوميدية المصورة وحتى الأفلام في السينما. ولم يقتصر الأمر على هذا إلا أنهم سعوا إلى إدخال هذه الدعايات إلى التلفزيون إلا أنها باءت بالفشل بسبب عدم توافر التلفزيون في أغلب البيوت الأمريكية. كما تم إنشاء فريق يضم كتّاب ومؤلفين سيّئين السمعة للمساعدة في كتابة وتوزيع الدعاية في كل مكان. سمّي هذا الفريق باسم “كتّاب الحرب”، وقد كان فريقاً ناجحاً إلا أنه قد تم حلّه فور انتهاء الحرب.
لم يقتصر نجاح هذه الدعاية في الفوز بالحرب إلا أن أمريكا حققت نجاحات أخرى على عدة مستويات كالصناعة والتجارة والزراعة فقد أعادت تدوير كميات مخيفة من الورق تصل قيمتها إلى 46 مليار جنيه استرليني استخدمتها في طباعة ونشر الدعايات الملصقة والكتب الكوميدية الرخيصة. كما دعت المواطنين إلى زراعة طعامهم في الحدائق العامة نتيجة نقص المؤن الغذائية مما أدى إلى خروجها من الحرب باقتصاد قويّ نسبياً كما سعت إلى تمكين المرأة واشراكها في هذه العملية من خلال دعاية “السوبر وومن”.
بهذا يكون الإعلام الأمريكي قد سجل أوّل انتصاراته في استخدام الحرب الإعلامية ضد أعدائه، وضد الشعب الأمريكي في توجيهه الجهود نحو مصالح البلاد بتوحيد الجمهور والجيش في المعركة ليستمر بعدها بسلسلة طويلة من البروباغندا الممنهجة لحلّ أموره في الشرق الأوسط وفي سياسته مع العالم أجمع جاعلاً من أمريكا قوةً عظمى.