بين غمضة عين وانتباهتها، تحولت العاصمة السورية دمشق إلى مزار وقبلة لعشرات الوفود من مختلف دول العالم، وذلك بعد سنوات من العزلة التي فُرضت عليها بسبب نظام الأسد البائد الذي أفسد علاقات سوريا بمحيطها الإقليمي والدولي، وحولها إلى دولة منبوذة، و”تكية” في خدمة أطماعه السياسية ومصالح عائلته التي جثمت على صدور السوريين لأكثر من 5 عقود.
ومنذ الإطاحة بالأسد الذي فرَّ هاربًا فجر الأحد 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تشهد سوريا حراكا دبلوماسيًا مكثفًا، حيث استقبل القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بهيئته الجديدة، البدلة الأنيقة ورابطة العنق، عشرات الوفود رفيعة المستوى، عربية وأجنبية، لمناقشة أوجه التعاون وسبل تعزيز أواصر الصداقة، واستشراف ملامح سوريا الجديدة الخالية لأول مرة منذ عام 1970 من صورة الأسد، الأب والابن.
وتحاول الإدارة السورية الجديدة توظيف هذا الحراك لتقديم نفسها للعالم والمجتمع الدولي بصورة مختلفة عن تلك الصورة المشوهة المأخوذة عنها قبل 10 سنوات، حاملة حزمة من رسائل الطمأنة للجميع بشأن سوريا الجديدة وملامح سياستها الخارجية، وبدء صفحة جديدة من العلاقات الخارجية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون البنّاء.
حراك دبلوماسي مكثف.. دمشق مزار عالمي
تسابقت البلدان العربية والأجنبية والكيانات الأممية ولا تزال، في إرسال وفودها إلى دمشق لاستشراف ملامح سوريا الجديدة، من خلال عدة لقاءات عقدتها تلك الوفود مع الشرع الذي فاجأ الجميع بلغة حوار متطورة، ودبلوماسية هادئة غير معهودة، وقراءة دقيقة للمشهد تعكس خبرة سياسية محنّكة رغم حداثته بالسياسة ودروبها الوعرة.
وزارت وفود عربية العاصمة السورية والتقت الشرع ووزراء حكومته الجديدة المؤقتة، وناقشوا تطورات المشهد السوري وتوجهات الإدارة الجديدة للبلاد وسياستها إزاء العديد من الملفات والقضايا الحساسة، على مستوى الإقليم العربي والشرق أوسطي.
ومن أبرز الوفود كان الوفد القطري رفيع المستوى، ترأّسه وزير الدولة محمد الخليفي لدمشق، الذي وصل دمشق وعقد لقاءات مع الشرع، وذلك بالتزامن مع زيارة وفد بولندي التقى وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد حسن الشيباني.
وصل إلى دمشق قبل قليل على متن اول طائرة للخطوط الجوية القطرية تحط في مطار العاصمة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد سعادة @Dr_Al_Khulaifi،على رأس وفد قطري رسمي رفيع المستوى لعقد مجموعة من اللقاءات مع المسؤولين السوريين وتجسيداً للموقف القطري الثابت في تقديم كل الدعم للأشقاء في…
— د. ماجد محمد الأنصاري Dr. Majed Al Ansari (@majedalansari) December 23, 2024
وفي السياق ذاته، عقد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، جلسة مطوّلة مع الشرع ومسؤولي الإدارة الجديدة، خلال زيارته على رأس وفد تركي إلى دمشق، الأحد 22 من الشهر الجاري، حيث تناقش الطرفان سبل تعزيز أواصر الصداقة وعدد من القضايا المشتركة، على رأسها قضية وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني، فيما أكد الوزير التركي على ضرورة رفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا في عهد نظام الأسد، مضيفًا: “نأمل أن تكون الأيام السوداء في سوريا قد ولت وتنتظرنا أيام أفضل”.
وسبق لقاء الشرع مع الوفد التركي لقاءً أجراه مع الوفد اللبناني الذي زار سوريا برئاسة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، والذي أكد فيه القائد العام للإدارة السورية الجديدة أن بلاده لن تنصر طرفًا على آخر في لبنان، مؤكدًا على احترام سيادة لبنان ووحدة أراضيه وأمنه، مُعربًا عن أمله في انتهاء الانقسام الطائفي، وأن يصل لبنان إلى ما يأمل بالحوار والسلام بعيدًا عن العنف والاغتيالات، وفق تعبيره.
وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أجرى هو الآخر مباحثات مطولة مع الشرع خلال زيارته لدمشق اليوم، حيث ناقش سبل التعاون بين بلاده وسوريا الجديدة، التي تشكّل عاملًا محوريًا في الأمن القومي الأردني، إذ يبلغ طول الحدود الشمالية للبلدين حوالي 370 كيلومترًا، إضافة إلى العوامل التاريخية والحضارية والسياسية التي تجمع بينهما.
♦️"وزير الخارجية التركي 🇹🇷هاكان فيدان يشرب القهوة مع زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع على جبل قاسيون بدمشق." pic.twitter.com/CsEy4FFaB3
— Muhammet Erdoğan 🇹🇷- محمد أردوغان (@Muhamed_Erdogan) December 22, 2024
وسبقت هذا اللقاء بساعات زيارة وفد سعودي ضمّ مبعوثًا من الديوان الملكي والسفير السعودي لدى سوريا، حيث التقى الشرع وبعض مسؤولي الإدارة السورية الجديدة، في قصر الشعب بدمشق، دون تفاصيل بشأن جدول أعمال اللقاء ولا ما تمّ فيه، إلا أن زعيم الإدارة الجديدة خلال مقابلة له مع صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، قال إن الرياض “وضعت خططًا جريئة جدًّا ولديها رؤية تنموية نتطلع إليها أيضًا”، مضيفًا: “لا شك أن هناك تقاطعات كثيرة مع ما نصبو إليه، ويمكن أن نلتقي عندها، سواء من تعاون اقتصادي أو تنموي أو غير ذلك”.
كما دعت مصر إلى أهمية حشد الدعم الإقليمي والدولي لسوريا خلال المرحلة الانتقالية التي تمرُّ بها الآن، كما جاء خلال الاتصالات التي أجراها وزير خارجيتها بدر عبد العاطي مع نظرائه من الإمارات والأردن والعراق والجزائر، حيث دعا الوزير المصري إلى “تدشين عملية سياسية شاملة تضمّ كافة أطياف ومكونات الشعب السوري وبملكية سورية، دون تدخلات خارجية، لتمهيد الطريق لعودة الاستقرار إلى سوريا، وفسح المجال أمام سورية لاستعادة وضعها على الساحتين الإقليمية والدولية، ووضع حدّ نهائي لمعاناة الشعب السوري”، حسبما جاء في بيان للخارجية المصرية.
أمريكا وأوروبا يطرقان باب سوريا الجديدة
وفي سياق الهرولة لطرق أبواب الإدارة السورية الجديدة، زار وفد أمريكي برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وشمال أفريقيا باربرا ليف، العاصمة دمشق، الجمعة 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وهي الزيارة الأولى لوفد أمريكي إلى سوريا منذ سنوات، حيث التقى الشرع (الذي صنّفته أمريكا كإرهابي وخصّصت مكافأة لمن يدلي على مكانه)، كما التقى كذلك أعضاء من هيئة تحرير الشام التي تصنّفها واشنطن “إرهابية”
واتّسم اللقاء الذي وصفته وكالة “فرانس برس”، نقلًا عن مصدر خاص بها، بـ”الإيجابي”، حيث ناقش الطرفان عددًا من الملفات المتعلقة بالشمول واحترام حقوق الأقليات التي تريد واشنطن تضمينها في الانتقال السياسي في سوريا الجديدة، وضمّ الوفد كلًّا من المبعوث الرئاسي لشؤون الرهائن روجر كارستينز، والمستشار المعين حديثًا دانيال روبنستين، الذي كُلّف بقيادة جهود الخارجية الأمريكية في سوريا.
لأول مرة بعد أكثر من عقد.. #وفد_أمريكي في #دمشق للمباحثات#قناة_اليوم pic.twitter.com/n8eKEo6RAH
— قناة اليوم (@alyaum_news) December 20, 2024
وسبقت الخطوة الأمريكية زيارة وفد بريطاني رفيع المستوى في 16 من الشهر الجاري، حيث التقى السلطة السورية الجديدة، وناقش معها عددًا من القضايا والملفات المشتركة، فيما أكد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، أن بريطانيا ستدعم “عملية سياسية انتقالية جامعة” في سوريا.
وبالتزامن مع تلك الزيارة أجرت وزارة الخارجية الألمانية أول محادثات مع ممثلين لهيئة تحرير الشام في دمشق، مركزة على عملية انتقالية في سوريا وحماية الأقليات.
أما المبعوث الفرنسي الخاص إلى سوريا جان فرنسوا غيوم، والذي زار دمشق الأسبوع الماضي، أكد في تصريحات للصحفيين أن بلاده مستعدة للوقوف إلى جانب السوريين خلال الفترة الانتقالية، لافتًا أن الوفد الفرنسي جاء “لإجراء اتصالات مع سلطات الأمر الواقع” في دمشق، في حين رفع العلم الفرنسي فوق السفارة الفرنسية في دمشق التي أُغلقت منذ العام 2012.
وفي 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بحث الشرع خلال اجتماعه مع المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن، ضرورة مراجعة القرار الأممي 2254 في ضوء التطورات السياسية الأخيرة، مشددًا على أهمية التعاون السريع والفعّال لمعالجة قضايا السوريين، وضرورة التركيز على وحدة أراضي سوريا، وإعادة الإعمار، وتحقيق التنمية الاقتصادية، منوّهًا على ضرورة التعامل بحذر ودقة في مراحل الانتقال وإعادة تأهيل المؤسسات لبناء نظام قوي وفعّال.
رسائل الطمأنة ومساعي إنهاء العزلة
حاول الشرع والإدارة السورية الجديدة من خلال تلك اللقاءات والحراك الدبلوماسي المكثف تحقيق هدفين رئيسيين:
الأول طمأنة المجتمع الدولي بشأن هوية الدولة السورية الجديدة وتوجهاتها الخارجية، وهي الرسالة الأهم حاليًا بعد سقوط نظام الأسد، في ظل حملات الشيطنة والتشويه التي تُشن منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري لخلق صورة ذهنية مشوّهة عن المعارضة السورية وإلصاق تهم الإرهاب والتشدد بها، على أمل توسيع الهوة بينها وبين الاعتراف الدولي، وتجييش الجهود الإقليمية والدولية لإجهاض التجربة السورية، عبر بثّ المخاوف والرعب وتأليب الداخل والخارج لوأدها قبل بدايتها.
غير أن تعامل قائد السلطة الجديدة ومساعديه مع تلك الحملة كان مفاجئًا للجميع، بداية من التغير الواضح في الهيئة واستبدال الزي العسكري بالمدني الأنيق، مرورًا بعبور المطبات وتجاوز الفخاخ التي وضعتها بعض وسائل الإعلام الدولية خلال لقاءات أجرتها مع الشرع، وصولًا إلى التصريحات الدبلوماسية المنمقة التي أزالوا بها كل المخاوف، والتي تكشف عن فهم دقيق لمجريات الأحداث ومتطلبات المرحلة، وهي التصريحات التي صدمت حتى الوفود المشاركة التي لم تخفِ إعجابها وتقديرها بمقاربات وتوجهات الإدارة الجديدة.
وبعث الشرع عبر اللقاءات المنعقدة مع الوفود الدولية، ومن خلال التصريحات الخاصة بوسائل الإعلام العربية والأجنبية، بعشرات الرسائل الإيجابية عن هوية سوريا الجديدة وسياستها الخارجية إزاء مختلف القضايا والملفات الحساسة، وهي الرسائل التي لا تزال أصداؤها تفرض نفسها على ردود الفعل الإقليمية والدولية إزاء القيادة الجديدة لسوريا، الأمر الذي يساعد وبشكل كبير في تحقيق الهدف الثاني من خلال هذا الحراك الدبلوماسي.
الثاني إنهاء العزلة، حيث طمأنة المجتمع الدولي وإزالة المخاوف بشأن الإدارة الجديدة لسوريا ما بعد الأسد، خطوة أولى نحو إنهاء العزلة التي فُرضت على البلاد خلال نظام الأسد الإجرامي، والذي أفسد علاقات الدولة بجيرانها ومعظم القوى الدولية، ما يمهّد الطريق نحو رفع العقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية المفروضة، والتي دفع السوريون ثمنها باهظًا جدًّا خلال السنوات الماضية.
ومن ثم يحاول الشرع توظيف الدبلوماسية الناعمة لإجبار العالم على إعادة النظر في مواقفه السابقة من مؤسسات الدولة السورية، فيرفع الحظر عن الأرصدة السورية المجمدة بالخارج، ويفتح الباب نحو علاقات اقتصادية قوية مع دول المنطقة، والتمهيد لجدولة أو إلغاء الديون المفروضة على الدولة، والتي تهدد بإصابة الحياة المعيشية بالشلل التام، وأخيرًا رفع هيئة تحرير الشام من قائمة الكيانات الإرهابية، بما يسمح لها بالانفتاح على العالم وإبرام علاقات ثنائية على أُسُس من السيادة والتعاون المشترك.
بالتنسيق مع تلك الجهود الدبلوماسية، تسابق الإدارة السورية الجديدة الزمن لترتيب البيت السوري من الداخل على كافة المستويات، في ظل التحديات الخطيرة التي تواجهها والمخططات التي تتربّص بها، حيث الإسراع في تشكيل الحكومة المؤقتة، رغم علامات الاستفهام بشأن بعض الاختيارات، بجانب العمل على رسم هوية وشكل المؤسسة العسكرية في سوريا الجديدة، حيث التقى الشرع مع قادة فصائل المعارضة السورية التي شاركت في إسقاط نظام بشار الأسد، لبحث تلك المهمة الصعبة والحساسة في ظل السيولة التسليحية التي تعاني منها الساحة السورية.