لم تسفر القمتان الطارئتان التي دعت إليهما المملكة السعودية في مكة المكرمة، عن مخرجات يمكننا الحكم عليها بالنجاح، أو على الأقل نستطيع القول إنها سارت بالوجهة التي أرادتها المملكة أو إنها أصدرت قرارات جريئة قابلة للتنفيذ تصب في خدمة المملكة ومحورها، بل إننا نتساءل عن جدوى عقد هذه القمم وبهذا التوقيت بالذات.
من الواضح للجميع أن الدعوة لتلك القمتين جاءت بعد التهديدات الأمنية التي شكّلتها أذرع إيران بالمنطقة، على المصالح السعودية والإماراتية، حينما هاجموا سفنًا كانت راسية في موانئ إمارة الفجيرة، بالإضافة إلى ضرب محطة الضخ النفطية السعودية من مليشيات الحوثي، فهذان الحادثان ربما جعلا البلدين لا سيما المملكة، تستيقن أن لا قبل لها لمواجهة هذا النوع من التحديات، وجعلها تفكر بالتراجع بشكل عميق عن رغبتها في شن حربٍ على إيران كما كانت تريد بالسابق بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك لأن كلتا العمليتين، بمثابة رسالة إيرانية لدول الخليج، تُفيد بأن النظام الإيراني إذا كان عاجزًا عن الرد على الضربات الأمريكية المتوقعة، فهو ليس بعاجزٍ على ضرب مصالح الدول الحليفة للأمريكان.
واستوعبت المملكة الدرس بشكل عميق، أنها غير قادرة على الصمود أمام هذا النوع من العلميات العسكرية التي لا تعتمد على الجيوش، إنما على الخلايا النائمة والسرية التي تضرب ثم تختفي، مما يمكنها أن تصيب الاقتصاد السعودي والإماراتي بحالة من الشلل، وهو أمر لا يمكنهما المغامرة به.
بلد مثل العراق فاقد لإرادته السياسية منذ وقت طويل، يحاول تمثيل إيران بالمحافل السياسية العربية والدولية وتبني مواقفها السياسية، اعترض على البيان الختامي للقمة العربية
وعلى هذا الأساس، فقد جاء البيان الختامي لمؤتمري القمة الخليجي والعربي، خاليًا من الدعوات إلى الحرب، ورغم الانتقاد الشديد الذي تضمنه البيان الختامي لتصرفات النظام الإيراني بالمنطقة، لكنه لم يأت بجديد، وهذا يدلل بشكل واضح على أن السعودية نبذت فكرة الحرب مع النظام الإيراني واستبدلتها بفكرة توحيد المواقف السياسية للدول المجتمعة في القمتين، بالضد من النظام الإيراني، لحمل الأخير على تقليل تدخله بدول المنطقة.
لكن حتى هذه الرغبة السعودية المتواضعة تصطدم بحقائق قوية تجعلها بعيدة عن التحقيق، فالمنظومة العربية الذي تريد المملكة توحيد مواقفها السياسية بالضد من إيران، ليس لها بالحقيقة وجود فعلي، فبلد مثل العراق فاقد لإرادته السياسية منذ وقت طويل، يحاول تمثيل إيران بالمحافل السياسية العربية والدولية وتبني مواقفها السياسية، اعترض على البيان الختامي للقمة العربية لأنه تضمن انتقادات قوية للدور الإيراني.
ورغم أن الموقف العراقي لم يكن مفاجئًا أو مستغربًا، بتبنيه وجهة النظر الإيرانية والدفاع عنه، لكن الغريب أنه يطرح نفسه كدولة وساطة بين إيران وباقي خصومها سواء الأمريكان أم العرب؟ بينما يفترض على الدولة الوسيطة أن تكون على مسافة واحدة من المتخاصمين.
أما عن باقي الدول العربية الأخرى، فتجدها جميعًا غارقة بمشاكلها السياسية والاقتصادية، للدرجة التي لا تأبه بالتهديدات التي تواجهها المملكة وباقي دول الخليج، إلا من ناحية مقدار العطايا التي يحصلون عليها من تلك الدول، فمصر مثلًا، التي يحاول نظامها العسكري السيطرة بكل ما أوتي من قوة على حكم البلاد، خلت كلمة رئيسها من أي انتقاد صريح لإيران، بل إنه تعمد عدم ذكر اسم إيران في خطابه.
أما ما يتعلق بالأردن التي تجد أن واقع حاله أقرب للشماتة من تلك الدول وما يجري عليها، بسبب ضغوطها لجعلها توافق على صفقة القرن، بل لا غرابة أن يجد الأردن نفسه أقرب إلى الموقف الإيراني منه إلى الموقف السعودي، نفس الحال يشمل المغرب الذي هو في خصومة لم تعد خافية على أحد مع المملكة السعودية.
فيما باقي الدول العربية الأخرى، تغوص في حروب داخلية أو اضطرابات سياسية وتظاهرات شعبية، تجعلها لا تعطي الأولوية لمشاكل المملكة مع إيران، مثل سوريا وليبيا والجزائر والسودان ولبنان وتونس، ومن قبلهما اليمن.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بدا متوافقًا مع محور السعودية ومدافعًا عنه، يبدو أنه سيتركهم وحدهم ويذهب لعقد اتفاقية مع إيران، يحقق فيها مصالحه ومصالح بلاده فحسب
فما الذي تبقى من هذه المنظومة العربية؟ إن ما يسمى بالنظام العربي المزعوم قد تم اختزاله بالدول الخليجية التي هي الأخرى منقسمة على بعضها، فالسعودية والإمارات والبحرين يناصبون العداء لقطر، ودولة الكويت التي كان تحاول التوسط بينهما، كادت أن تُشمل بالمقاطعة الخليجية هي الأخرى، أما سلطنة عُمان، فقد حسمت أمرها منذ وقت بعيد، وربطت نفسها بعلاقات استثنائية مع إيران، ربما هي أعمق من علاقتها مع السعودية، فعن أي نظام عربي تتحدث السعودية،وتريد توحيد موقفه تجاه النظام الإيراني.
إن سياسات المملكة السعودية ومن خلفها الإمارات، حينما وقفت ضد إرادة الشعوب العربية في ربيعها ضد الأنظمة القمعية لبلدانها، لم تجن شيئًا يعود عليها بالنفع، لقد أدخلت تلك البلدان في حروب أهلية أتت على كل مقدراتها، ودعمت بعض تلك الأنظمة القمعية التي بقيت على رأس السلطة، والبعض الذي تم استبداله بأنظمة أكثر قمعًا وبطشًا، لكن الفرق الوحيد أن الأنظمة القمعية الجديدة لم تستطع تقديم يد العون للسعودية أو الإمارات لتقف معها ضد التغول الإيراني القادم إليها، رغم أنها أنفقت عليهما المليارات، وأصبحت كلتا الدولتين تعيشان في عزلة عربية شعبية وتواجه مصيرها لوحدها.
ليس مستغربًا إزاء هذه التطورات أن تجد السعودية نفسها تتعامل بشكل إيجابي مع العرض الإيراني بالتوقيع على معاهدة “عدم اعتداء”
حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بدا متوافقًا مع محور السعودية ومدافعًا عنه، يبدو أنه سيتركهم وحدهم ويذهب لعقد اتفاقية مع إيران يحقق فيها مصالحه ومصالح بلاده فحسب.
ففي زيارته الأخيرة للعاصمة اليابانية طوكيو، اختزل ترامب النقاط الخلافية مع النظام الإيراني في موضوع واحد هو الموضوع النووي فقط، حينما قال: “إننا لا نسعى لتغيير النظام الإيراني، ونتطلع إلى أن تقول فقط: لا أسلحة نووية”، وأضاف “إنني لا أسعى لإيذاء إيران على الإطلاق، وإيران لديها فرصة لأن تكون بلدًا رائعًا مع القيادة الحاليّة نفسها”، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حينما امتدح رئيس الوزراء الياباني شينزو أبي الذي يدرس إمكانية القيام بوساطة جديدة بين الطرفين، وزيارة طهران لأجل هذا الغرض.
وهذا يعني عمليًا أن ترامب تنازل عن شروطه الـ12، ما عدا الملف النووي، مع اعتقادنا أنه ربما يضيف إليه موضوع الصواريخ البالستية، لأنها تشكل خطرًا على ربيبته “إسرائيل”، وبذلك فإن إيران عمليًا، استطاعت الحصول على تنازلات مهمة من ترامب وبوقت قصير، لم تكن تحلم به، وهو يعني عمليًا أيضًا، تخلي واضح من ترامب عن المحور السعودي وتطلعاته بالقضاء على الخطر الإيراني، رغم كل تلك المليارات التي أنفقتها، وليس مستغربًا إزاء هذه التطورات، أن تجد السعودية نفسها، تتعامل بشكل إيجابي مع العرض الإيراني بالتوقيع على معاهدة “عدم اعتداء”.
وبعد هذا كله، ما الداعي لعقد تلك القمم الطارئة، وهي تعرف أن لا قيمة عملية لها؟ قمم مكة لم تأت بجديد يستطيع إنقاذ السعودية مما هي فيه، وآن لها أن تغير مسارها السياسي، بالاعتماد على شعوب المنطقة لا أنظمتها القمعية التي تخلت عنها حين احتاجتهم في ظرفها الحاليّ الصعب.