الكتاب: الحداثة والهولوكوست
الكاتب: زيجمونت باومان
نقله إلى العربية: حجَّاج أبو جبر – دينا رمضان
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر
القاهرة – 2014
صدرت بالقاهرة أخيرًا الترجمة العربية الأولى لكتاب “الحداثة والهولوكوست” عن مدارات للأبحاث والنشر، وقد جاءت مقدمة المترجم الدكتور (حجَّاج أبوجبر) للكتاب وافية وتثير من التساؤلات الكثير، ولا غَرو فالمترجم مُتخصِّصٌ في كتابات باومان وعبد الوهَّاب المسيري. ولابد –بداية- من الثناء على دقة الترجمة وبلاغتها التي تجعلك تقرأ الكتاب كعملٍ مؤلَّفٍ بالعربية أصلاً، حيث كُتِبت بلسانٍ عربيٍّ فصيح كما أنَّ المترجم قد أضاف الكثير من الهوامش والحواشي التي أضاءت النصَّ وأزالت مُستغلقاته.
تُعّدُّ مشكلة الهولوكوست من أكثر القضايا حساسية في الطرح والتحليل حسبما يظنُّ جُلُّ علماء الاجتماع الغربيين، وقد سُجنت القضية في الغالب الأعم داخل سياق التوظيف السياسي لها؛ والذي يخدم المشروع الصُهيوني من جهة ويبتزُّ من قاموا بتلك الجريمة من جهة آخرى ، ومع مطلع الثمانينات ظهرت الكثير من الدراسات التي تعتمد علي إخراج قضية الهولوكوست من الإطار السياسي الصُهيوني والتعامل معها من منظور جديد كلية ، فكما تقول (جانينا باومان): “لقد وُلدت الهولوكوست ووقعت في مجتمعنا الغربي العقلاني الحديث، وفي أوج مجد حضارتنا، وفي ذروة إنجازنا الثقافي الإنساني ، لذا فهي مشكلة من مشكلات المجتمع الغربي والحضارة الغربية”. وهنا تكمُنُ الرؤية المحورية لكتاب ” الحداثة والهولوكوست” لمؤلِّفهِ عالم الإجتماع اليهودي (زيجمونت باومان) الذي يرى أن الهولوكوست هي تعبير عن فكر الإبادة الكامن في مشروع الحداثة الغربي والذي تحول من مشروع يستند إلي مركزية الإنسان في الكون إلي مشروعٍ معادٍ للإنسان، فالهولوكوست هي أول مشروع إبادة متكامل يقوم به الإنسان الغربي علي أرضه ضد جماعات تشترك معه في اللون والوطن.
وما يدعونا للتوقف أمام تلك القضية هو مدى تقبُّلِ العقلانية الغربية لقتل هذا العدد الهائل من البشر تحت شعارات مثل “النظام” و”القانون” و”الامتثال للسلطة”. وكل “القيم” المذكورة آنفًا تُمثِّلُ أُسسًا رئيسة من أسسِ المجتمع العقلاني الحديث في الغرب، فمفاهيم مثل “حماية النظام” و”تنفيذ القانون” و”بيروقراطية السلطة” هي مفاهيم تبلورت في عصر التنوير الذي زعم حماية الإنسان وتدعيم مركزة في الكون. وهنا تبرُز المفارقة حين تصطدم عقلانية الحداثة بلاعقلانية أهدافها؛ فعقلانية الحداثة تتضح من خلال الإجراءات والأدوات اتي اتبعتها الدولة الألمانية في التعامل مع المسألة اليهودية فقد نظرت تلك الدولة – وهي جهاز علماني بإمتياز (يُعدُّ إحدي ثمار حركة التنوير الغربية) – إلي جماعات اليهود والغجر والسلافا وغيرهم على أنهم فائض بشري لا نفع منه لذا حاولت التخلص منهم وكانت الإبادة هي الحل النهائي الذي توصلت إليه (اللاعقلانية في الهدف) والمثير للدهشة هنا مشاركة كافة مؤسسات الدولة في تحقيق هذا الهدف فقد شاركت الجامعات الألمانية والعلماء الألمان ومراكز الأبحاث في إجراء التجارب علي تلك الجماعات وكيفية الاستفادة بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع أي كتلة مادية صمَّاء.
ومن المتواتر في هذا السياق هو أن الجنود الألمان كانوا قد تلقوا أوامر بعدم إساءة معاملة الضحايا!! والأمر الأخر المثير للعجب هو ذلك التجاوب الغريب من أبناء المجتمع الألماني مع الأوامر الصادرة إليهم بقتل الألاف. فهاذين العاملين؛ رؤية الدولة للجماعات اليهودية وتعاون الأفراد العاديين من جهاز الدولة وغيرهم في تنفيذ تلك الجريمة لا يمكن إختزاله في كراهية اليهود (ماذا عن غير اليهود الذين تم التخلص منهم أيضًا؟!) كذلك فإنَّ وضعه في إطار السياق السياسي الألماني لا يُقدِّمُ تفسيرًا كافيا عن حقيقة ما حدث. وإلاَّ فكيف نفسر رفض الدول الغربية (بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية) استقبال اليهود بل وصمتها تجاه تلك الجريمة التي بدأت في 1933 ولم تنتهِ إلاَّ عام 1945؟
يقدم (زيجمونت باومان) في كتابهِ سالف الذكر أطروحة جديدة تعتمدُ على إبراز مسؤلية المجتمع الغربي والعقل الغربي بل ومشروع الحداثة الغربية بأكمله عن جريمة الإبادة في الهولوكوست. فالعقلانية التي دعت لها حركة التنوير وتطورت عبر قرون هي عقلانية محايدة أخلاقياً بمعنى أن تلك العقلانية تعمل بلا ضمير وبلا وازع وهي تستلهم مشروعها من الحياد العلمي الجاف والبارد الذي يرى الإنسان ويتعامل معه وفقاً لرؤية مادية بحتة ومن هنا كانت الأزمة، فالهولوكوست جاءت تعبيراً عن فشل مشروع الحداثة الغربي حيث تماهي العقل الغربي على مستوى الأفراد والمؤسسات مع الأوامر الصادرة إلية من سلطة عليا بإقتراف جرائم غير أخلاقية يراها هذا العقل علي أنها أمورٌ روتينية لايسأل هو عنها ولا يشعر بأي تأنيب للضمير عند تنفيذها.
فهذا الضابط الألماني في معسكرات الغاز والذي يقوم بقتل عشرات الألاف يوميًا يعود إلي بيته ليداعب زوجته ويمازح أبنائه بل وتشعر معه بأنه مرهف الحس ولا يجرؤ علي جرح عصفور، هنا يرفض (باومان) إختزال قضية المحرقة في ثلة من القادة أو مجرمي الحرب المصابين بهوس التعذيب أو القتل بل يسعى إلي تحليل القضية في إطار التحليل المعرفي الشامل للحضارة الغربية وقد ربط (باومان) بين اللحظة النازية في أوروبا والمشروع الصهيوني في فلسطين عندما وجد أن الفكر الإبادي والعنصري قائمٌ في كلا النموذجين ومن هنا كان رفضه للمشروع المعرفي الغربي الذي عرَّف “اللا أخلاقي” بأنه “كل ما يعادي المجتمع” فهذا التعريف يجعل من “اللا أخلاقي” عملاً نسبيًا مبهمًا ومتغيرًا. ويختتم (باومان) كتابه بأنه علي أوروبا، إن أرادت النجاة من أخطاءها المعرفية، أن تعيد النظر في الخطاب السوسيولوجي المُعرِّفِ للمبادئ الأخلاقية.