بعد أقل من أربعة أشهر على الحملة التي قادتها السلطات الباكستانية ضد المدارس الدينية عقب الهجوم الانتحاري الذي استهدف قافلة أمنية هندية في فبراير الماضي أسفر عن مقتل 40 شخصًا، قررت إسلام آباد إجراء إصلاحات كبرى في المناهج الدراسية لأكثر من 30 ألف مدرسة إسلامية في مختلف أنحاء البلاد.
القرار وفق ما ذكرته الحكومة الباكستانية جاء بدافع القلق طويل الأمد من تخريج تلك المدارس التي تمول من القطاع الخاص خارج نطاق الإشراف الحكومي، لخريجين غير ماهرين، ينغمسون في تفسيرات متعصبة لنصوص الإسلام، وذلك بعد تحميل بعض الجماعات الممولة لتلك المدارس مسؤولية هجوم كشمير الأخير.
تشمل الإصلاحات المقترح إجراؤها على المناهج الباكستانية حذف فصول من الكتب الدراسية التي تغذي الكراهية، وإدخال مواد حديثة مثل العلوم والمهارات وتدريس اللغة الإنجليزية في المناهج، فيما أشار مسؤول بارز بوزارة التعليم في إسلام آباد، طالبًا عدم كشف هويته “ستتحمل الحكومة العبء المالي لإدخال هذه الإصلاحات الرئيسية في المدارس التي تعد مصدرًا رئيسيًا للتعليم للأطفال الفقراء”.
وأضاف “سيتم دمج القيادات الدينية ورعاة هذه المؤسسات في عملية مراجعة المناهج”، مشددًا في حديثه لـ”الأناضول” أن “هذه الإصلاحات ستساعد الطلاب على التخرج بالمهارات الحديثة”، معتبرًا أن هذه الخطوة “ستكشف عن أعداد كبيرة من الفرص الوظيفية التي تتناسب وقدارات الخريجين من الكليات والجامعات وبمختلف المجالات”.
وفق الخطة المقدمة، التي لا تزال قيد التجهيز، تستعد الحكومة لتأهيل معلمي اللغة الإنجليزية والمواد العلمية، هذا بخلاف إعداد المدارس بما يتناسب مع التطورات الجديدة، مع الوضع في الاعتبار أن مثل تلك المدارس الخاصة تعد النافذة الوحيدة لتوفير التعليم الديني المجاني للأطفال الفقراء، بجانب توفيرها الطعام والإقامة المجانية.
الحملة التي تقودها باكستان ضد المدارس الدينية أرجعها البعض إلى ضغوط خارجية تتعرض لها الدولة لإضعاف هذه المدارس بحجة محاربة التطرف
مناهج متطرفة
في بيان صحفي له في 27 من مارس الماضي قال وزير الإعلام الباكستاني فواد شودري إن مناهج المدارس الدينية أتت من الولايات المتحدة الأمريكية، مشيرًا إلى أن جامعة نيبراسكا الأمريكية وضعت مناهج المدارس الدينية في باكستان إبان الغزو السوفييتي لأفغانستان.
الوزير ذكر في بيانه أن الهدف الأساسي من وراء تلك المناهج وقتها هو قتل الروس عام 1980 ومن ثم كانت النواة الرئيسية للتنظيمات الجهادية في بث معاني الجهاد والمقاومة في نفوس الباكستانيين ومعهم الأفغان في نفس الوقت، استجابة لمخطط الأمريكان في مواجهة السوفييت.
لكن مع سقوط الاتحاد السوفيتي بات من الواضح أن المناهج ما عادت تصلح في هذا الوقت، من وجهة النظر الأمريكية على الأقل، خاصة أنها ذاتها من الممكن أن تستخدم في مقاومة الأمريكان وتهديد مصالحهم في المنطقة، خاصة في ظل التوتر مع بعض تلك الجماعات على رأسها طالبان وغيرها.
في فبراير الماضي جمدت باكستان أصول عشرات المدارس الدينية والمساجد والمؤسسات الأخرى وفرضت سيطرتها عليها، بدافع الاعتقاد أنها تنتمي إلى جماعة “جيش محمد” و”جماعة الدعوة”، وقد سبق أن اتهمت الهند “جيش محمد” بتورطها في هجوم كشمير الأخير، كما تُتهم “جماعة الدعوة” بالتورط في هجوم “بومباي” الإرهابي لعام 2008 الذي أسفر عن مقتل أكثر من 150 شخصًا.
أكثر من 30 ألف مدرسة دينية في باكستان
إضعاف المدارس الدينية
الحملة التي تقودها باكستان ضد المدارس الدينية أرجعها البعض إلى ضغوط خارجية تتعرض لها الدولة لإضعاف هذه المدارس بحجة محاربة التطرف، وهو ما أشار إليه مجلس “وفاق المدارس العربية” الباكستاني على لسان أمينه العام القاضي عبد الرشيد الذي اتهم الحكومة الباكستانية بأنها تعمل على إضعاف المدارس الدينية، وتخلق لها المشاكل والعقبات، نتيجة الضغوطات الخارجية عليها.
عبد الرشيد في مؤتمر صحفي له مشترك مع العديد من علماء الدين في مارس الماضي شدد على أن المدارس الدينية لا ولن تكون خطرًا على أمن المنطقة وباكستان، بل إنها ساهمت إلى حد كبير في إحلال الأمن في المنطقة وبث رسالة السلام، قائلاً: “المجلس من أكبر المنظمات التعليمية في باكستان، إذ تعمل تحت إدارته أكثر من 20 ألف مدرسة في باكستان، ويدرس فيها أكثر من مليونين ونصف المليون طالبة وطالب، كما أن لها وجودًا في جميع أقاليم باكستان، بما فيها جلجت بلتستان والشطر الهندي من إقليم كشمير”، مشيرًا إلى أن مجلس “وفاق المدارس العربية” مظلة لتوحيد صف العلماء وللحفاظ على أمن باكستان.
يوجد حاليًّا أكثر من 30 ألف مدرسة دينية حيث يدرس أكثر من 2.5 مليون طفل، وقررت الحكومة إدخالهم في التيار الرئيسي
وذكر كذلك أن المدارس الدينية ضامنة لأمن وسلامة البلاد، وهي تسعى أيضًا لنشر رسالة السلام في ربوع العالم، غير أن الحكومة الباكستانية تنظر إليها نظرة الشك وتخلق لها مشاكل متعددة الأنواع والأشكال، لافتًا إلى أن السلطات تسعى للربط بين ظاهرة الإرهاب والمدارس الدينية وهو أمر مؤسف للغاية، على حد قوله.
الأمر ذاته أكد عليه المولانا سعيد يوسف، أحد علماء الدين المشهورين في باكستان، داعيًا الجهات التي تتهم المدارس الدينية بالإرهاب إلى الاطلاع على المناهج وعلى ما يدور في المدارس، وتابع “إذا طلبت منا المعلومات الكافية نحن حاضرون للتعاون على جميع الأصعدة ومن دون أي تردد”، مشيرًا إلى أن “أشخاصًا من المدارس الدينية ضالعون في الإرهاب ولكن أن نعمم ذلك ونحمل جميع المدارس الدينية المسؤولية فهذا ظلم وضيم”.
جدير بالذكر أن المتحدث باسم الجيش الباكستاني اللواء آصف غفور، خلال لقاء له بالصحفيين، الشهر الماضي، قال: “يوجد حاليًّا أكثر من 30 ألف مدرسة دينية حيث يدرس أكثر من 2.5 مليون طفل، وقررت الحكومة إدخالهم في التيار الرئيسي”، مضيفًا “تبين أن هناك 100 مدرسة فقط متورطة في أنشطة عنيفة، في حين أن الباقي مصدر جيد وفعال للتعليم للأطفال”، وتابع: “نريد إنهاء التطرف العنيف في البلاد، وسيكون ذلك ممكنًا عندما يحصل أطفالنا على التعليم والفرص بآن واحد”.
المدارس الدينية ملاذ الفقراء ومحدودي الدخل
مخطط أمريكي أم مكافحة للتطرف؟
اتهامات عدة تواجهها حكومة إسلام آباد بشأن خضوعها لعملية ابتزاز أمريكي لتفريغ الجمعيات الخيرية من نفوذها الداخلي عبر القضاء على التعليم الديني من جذوره، وهو ما أشار إليه المولوي فضل الرحمن زعيم جمعية علماء الإسلام، أحد أكبر الأحزاب الدينية في البلاد.
فضل الرحمن خلال مؤتمر صحفي له في مدينة بنو (شمال غرب) قبل أيام، قال: “الحكومة تقود حملة ضد المدارس بإشارة أمريكية” مفندًا الاتهامات التي ساقتها كل من واشنطن وإسلام آباد بشأن مسؤولية تلك المدارس عن تخريج متطرفين، مقارنة بالدور التي تقوم به لتعليم الفقراء ومحدودي الدخل في ظل تواضع مستوى التعليم الحكومي.
وردًا على الاتهامات الموجهة للمناهج الدراسية في المدارس الدينية قال الباحث مفتي منيب الرحمن، وهو باحث في المدرسة العثمانية بمدينة “ناوشيرا” (شمال غرب): “ندرس التفسير والحديث النبوي والشريعة الإسلامية وقواعد اللغة العربية واللغة الأردية وتحفيظ القرآن الكريم والرياضيات”، مضيفًا أن المدارس الدينية نفسها أحدثت عدة تغييرات في النظام، وأوضح أن مدرسته الآن تدرس اللغة الإنجليزية والعلوم وغيرها من المواد الاجتماعية.
ونفى عبد الرحمن في حديثه لـ”الأناضول” ما يتردد بشأن مسؤولية تلك المدارس عن تخريج غير مهيئين وبالتالي يسهل وقوعهم فريسة للتطرف بقوله: “إنها مزاعم لا أساس لها من الصحة”، وبسؤاله عن مصادر تمويلها أوضح “تعتمد على التبرعات، وعدد من المهن مثل الطب والهندسة والأعمال، وحتى المسؤولين الحكوميين يقدمون الزكاة لهذه المؤسسات”.
حالة من الترقب تنتظرها الملايين من الأسر الباكستانية من الفقراء ومحدودي الدخل حيال مثل هذه التحركات التي تهدد مستقبل أبنائهم الدراسي في ظل نظام تعليم حكومي يعاني من الفساد والإهمال ويشهد نسب تسرب ربما تكون الأعلى عالميًا
في مارس 2018 وبينما تتزايد الضغوط الدولية على باكستان بشأن تمويل الجماعات المسلحة، دفعت حكومة إقليم خيبر بختونخوا (شمال غرب)، 227 مليون روبية باكستانية (2045159 دولارًا أمريكيًا) لإحدى المدارس الدينية وتسمى “الجامعة الحقانية” المعروفة في باكستان منذ سبعينيات القرن الماضي على أنها جامعة تخرّج الجهاديين، وبدأ دورها منذ الغزو السوفييتي لأفغانستان، كما أنها لا تزال توفّر العنصر البشري للحركات الجهادية هناك.
أثارت تلك الخطوة حيناها استياء الأحزاب السياسية الباكستانية، إلا أن فريق ذهب إلى أنها محاولة لإرضاخ حلفاء إسلام آباد، لا سيما الولايات المتحدة، خصوصًا بعد المواقف الأمريكية الأخيرة التي بسببها انحاز عن باكستان حتى حلفائها في المنطقة، كالسعودية، وتحديدًا في قضية تبييض الأموال، وذلك بعد فشلها في إقناع المجتمع الدولي بأنها لا تموّل الإرهاب ولا تساعد الجماعات المسلحة.
إلا أن الوضع تغير تمامًا الآن مع قرار إجراء إصلاحات محورية في المناهج الدراسية وتضييق الخناق على المدارس الدينية، تزامن هذا مع تحسن ملحوظ في العلاقات مع الرياض، ومحاولة فتح صفحة جديدة مع الهند، هذا بخلاف مساعي تخفيف حدة التوتر مع واشنطن.
حالة من الترقب ينتظرها الملايين من الأسر الباكستانية من الفقراء ومحدودي الدخل حيال مثل هذه التحركات التي تهدد مستقبل أبنائهم الدراسي في ظل نظام تعليم حكومي يعاني من الفساد والإهمال ويشهد نسب تسرب ربما تكون الأعلى عالميًا، إذ إن 3% فقط ممن يلتحقون بالمدارس الحكومية في باكستان يكملون سنوات الدراسة الاثنتي عشرة.