نشر موقع مدى مصر تقريرًا كارثيًا قبل أيام، هو الأحدث فيما يخص الترتيبات والملامح الجديدة لصفقة القرن، التي اعتمد الموقع على استخلاصها من مصادر عربية وغربية على اطلاع بهذه الصفقة، هذه الملامح تعتبر الكابوس الأسوأ الذي لم يكن من الممكن توقعه في أي وقت مضى، فإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي بهذه النتيجة، لم يُكن متوقعًا في ظل أي هزيمة حدثت.
إن كانت كامب ديفيد وأسلو همشت المقاومة ضد الاحتلال وسطحت الصراع العربي الإسرائيلي وفرغته من أي قواعد يمكن بناء دولة فلسطينية مستقلة عليه، فالملامح التي يجري تسريبها تقتل ليس فقط أحلام العودة والحقوق الفلسطينية، بل تضع “إسرائيل” بصفتها واسمها وممثليها وسلاحها في منصب “سايس المنطقة”، المنظم لكل شيء والمسيطر على كل شيء والحاكم في مصائر الشعوب والقيِم على أدوار الحكومات في رعاية مصالحه، وتحول دول المنطقة لأكثر من مجرد “خدامين لقمة العيش”، عند أمريكا و”إسرائيل”.
الصفقة ربما تكون أكثر لحظات ترامب جنونًا، لكنها، طبقًا للمعطيات المتاحة في الشرق الأوسط ستمُر، حتى إن كان هناك بعض الاعتراضات النظرية من بعض الأطراف (السلطة الفلسطينية ومعها الأردن والمغرب والجزائر ولبنان)، لكن ما يجعل هذه الاعتراضات لا تتجاوز كونها حبرًا على ورق، أنها مُجرد اعتراضات نظرية، فعلى سبيل المثال الأردن يعترض على إخفاء وثيقة البنود عنه رسميًا وعدم إشراكه في صياغة البنود، ما يعني أن الرفض ليس رفضًا مبدأيًا، باعتبار الموضوع برمته اعتداءً على الحق الفلسطيني في العودة ووقف الاستطيان وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، كما نصت القرارات الدولية وقرارات الجامعة العربية.
حِزمة الإجراءات التي يسعى ترامب وصهره كوشنر لفرضها على الشعوب العربية لن تقف عند مجرد إغلاق ملف الصراع العربي الإسرائيلي، بل ستمتد إلى إغلاق كل الملفات التي تمثل صداعًا لديكتاتوريات المنطقة
لكن هنا يُطرح سؤال لا يقل أهمية عن الأسئلة التي تُطرح منذ إعلان هذه الصفقة، بُعَيد وصول ترامب للحكم، هل تؤثر صفقة القرن على القضية الفلسطينية فقط؟ بالتأكيد لا، اليوم، تقود قوى الثورات المضادة المنطقة، وتقود آلاتها الإعلامية إقناع الشعب بهذه الصفقة وتحاول صياغة مبرر منطقي للشعوب للصمت على صفقة القرن، فطبقًا للتقارير والتسريبات التي يجري نشرها تباعًا، فإن هؤلاء يحاولون الضغط على رأس السلطة الفلسطينية محمود عباس وملك الأردن وباقي دول المنطقة بقبول الصفقة، التي ستغير شكل منطقتنا تمامًا وأهمها الشكل السياسي للمنطقة.
فحِزمة الإجراءات التي يسعى ترامب وصهره كوشنر لفرضها على الشعوب العربية لن تقف عند مجرد إغلاق ملف الصراع العربي الإسرائيلي، بل ستمتد إلى إغلاق كل الملفات التي تمثل صداعًا لديكتاتوريات المنطقة.
يمكن تخيل الصورة ببساطة، دونالد ترامب اليميني الشعبوي المُعادي للحريات والشعوب ذات البشرات غير البيضاء، من أمريكا اللاتينية إلى أعالي إفريقيا، سيتفق مع عبد الفتاح السيسي الذي يُخضع آلاف المعتقلين اليوم في السجون وإلى جانبه محمد بن سلمان الذي لم يجد بُدًا من صوت معارض له، إلا “تقطيعه” داخل قنصلية بلاده، ومحمد بن زايد، عراب الثورات المضادة والانقلابات في المنطقة، كُل هؤلاء يصطفون علنًا إلى جانب “إسرائيل” لتصفية كل القضايا العربية، لم تتضح الصورة بعد؟
صفقة القرن لن تجلب الشؤم على القضية الفلسطينية فقط، بل سيمتد الخط بطول الخريطة، وينسحب على كل شيء لتعود الدول لعصورٍ أسوأ من الديكتاتوريات
ما يجري صياغته اليوم ليس إنهاءً لآخر الملفات النضالية في المنطقة، وفقط، بل هو إغلاق لملفات الحريات والتحرر والوطني وزيادة القمع والقتل وانتهاكات حقوق الإنسان ونهب الثروات الوطنية وإغراق الأوطان بالديون والتبعية، وكل ذلك بغطاء قوي من الولايات المتحدة التي تملك حق إصدار العقوبات على أي دولة أو مؤسسة أو منظمة أو أفراد، كائنًا من كان ولأي أسباب، وبرعاية إسرائيلية، تقوم على توفير خدمات الكيان واحتياجاته.
البنود التي نحن بصددها اليوم هي بنودُ شرق أوسط جديد مُهجَن، يبيع ثرواته ويحمي أمن المُحتل مع مزيد من الفقر والجهل والقمع
صفقة القرن لن تجلب الشؤم على القضية الفلسطينية فقط، بل سيمتد الخط بطول الخريطة، وينسحب على كل شيء لتعود الدول لعصورٍ أسوأ من الديكتاتوريات التي حاول الربيع العربي إزاحتها، وربما سنترحم على نتائج اتفاقات أوسلو وكامب ديفيد وحسني مبارك وعبد الله صالح وحتى عمر البشير.
ففي عام 2017، بثت وسائل إعلام مصرية تسجيلًا صوتيًا أظهر الرئيس المخلوع حسني مبارك، يتحدث فيه تعليقًا على ما نُشر حينها في الصحافة الغربية، بشأن موافقته على إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء، ففي عام 2009 سأله نتنياهو: “إن كان من الممكن للفلسطينيين في غزة أن يأخذوا جزءًا من الشريط الحدودي في سيناء”، فرد عليه مبارك: “انسى.. ما تفتحش معايا الموضوع ده تاني.. حنحارب بعض تاني.. فقال لي لا خلاص وانتهى الحديث”، وهو ما أعاد مبارك إعلانه في حواره مع صحيفةٍ كويتية قبل أسبوعين.
إن البنود التي نحن بصددها اليوم، هي بنود شرق أوسط جديد مُهجَن، يبيع ثرواته ويحمي أمن المُحتل مع مزيد من الفقر والجهل والقمع، دون طائل، فكُل وعود الرخاء التي يُمكن أن توعدَ بها الشعوب سمعناها من دون واقعٍ حقيقي، ولا عجب، فـ”الحِدَاية مبتحدِفش كتاكيت”، والشعوب العربية التي منعها ترامب من دخول بلاده بعد وصوله للسلطة بأيام، من غير المنطقي أن تنتظر منه خيرًا.