في منتصف شارع بورسعيد بمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، يقبع مسجد “سادات قريش”، واحد من أبرز معالم مصر الإسلامية، فهو أول مسجد بُني في المحروسة قبل أكثر من 1422 عامًا وبالتحديد في الثامن عشر من الهجرة على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص، رضي الله عنه، حين فتح مصر.
المسجد الذي سمي بهذا الإسم تكريمًا لشهداء المسلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى معركتهم التى جرت بمدينة بلبيس ضد الرومان في مصر، ومن ثم فهو أقدم آثار المعمار الإسلامي ليس في مصر وحدها بل في أرجاء القارة الإفريقية بأكملها، ومن هنا جاءت مكانته التاريخية الكبيرة.
ورغم تلك المكانة التي لم يصل إليها معلم أثري آخر في مصر منذ الفتح الإسلامي، إلا أن جولة واحدة بداخل المسجد خير شاهد على حجم ما وصل إليه من إهمال، وسواء كان متعمدًا أو غير متعمد، فإن ما يحدث لـ “سادات قريش” حلقة واحدة في مسلسل الإهمال الذي يعاني منه التراث الإسلامي في مصر، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات دون إجابة حتى الآن.
تاريخ طويل
تباينت التفسيرات المتعلقة بأسباب تسمية المسجد بهذا الاسم، غير أن الرواية الأرجح كما ذكر الدكتور مصطفى شوقي مدير عام منطقة التفتيش على الآثار الإسلامية والقبطية بمحافظة الشرقية، تعود إلى أن الجيش الإسلامي، بقيادة عمرو ابن العاص، بعدما سار من رفح ثم العريش والقنطرة والصالحية والقصاصين، وأصبح على مشارف مدينة بلبيس، التقى مع الجيش الروماني، وأسفرت المعركة عن هزيمة الأخير بعد مواجهات حامية الوطيس.
ويضيف شوقي في تصريحاته لموقع “اليوم السابع” المصري أنه بعد هزيمة الرومان استقرت القبائل العربية فى بلبيس، وأقاموا فى المكان الذى استشهد فيه سادات قريش، وحينها فكروا في بناء أول مسجد للعبادة، واستقر الرأي على تسميته بهذا الاسم، وتابع : ورد عن “المقريزى” عن مدينة بلبيس بأنها سميت فى التوراة أرض جازان ومن المرجح أن يكون مسجد سادات قريش من أحد المساجد الأولى التى أنشئت فى مصر، ولكنه لم يسجل فى تعداد الآثار الإسلامية.
بجانب معالمه الإسلامية فالمسجد يضم أيضًا بعض المعالم الفرعونية الموجودة بالناحية الغربية منه، على هيئة نوافذ زجاجية وسقف خشبى، وهو ما أهله لأن يكون قبلة لأبناء مدينة بلبيس والقرى المجاورة
أما عن مساحة المسجد، فأشار شوقى مدير عام منطقة التفتيش على الآثار الإسلامية والقبطية بمحافظة الشرقية، إلى أنها تبلغ نحو ثلاثة آلاف متر مربع، ويتخذ شكل المستطيل بوجه عام، إلا أنه من الداخل يقسم إلى أربعة أروقة موازية لجدار القبلة، ومقسمة بثلاث صفوف من البوائك (مجموعة الأعمدة المتتابعة على خط مستقيم)، كل بائكة مكونة من ست عقود محمولة على أعمدة ذات تيجان مختلفة الشمل منها قبطى وكورنثى وإسلامية.
كما يتميز المسجد بثلاث وجهات رئيسية، فيما يوجد المدخل في الجهة الشمالية الشرقية منها، وقد تم تجديد المسجد نهاية العهد العثمانى على يد الأمير أحمد الكاشف، أمير مصر السابق، والذى أنشأ مئذنة المسجد، كما شهد بعض محاولات التجديد خلال العقود الأخيرة لكنها لم تكن على مستوى قيمة وقامة هذا المعلم الأثري الكبير.
بجانب معالمه الإسلامية فالمسجد يضم أيضًا بعض المعالم الفرعونية الموجودة بالناحية الغربية منه، على هيئة نوافذ زجاجية وسقف خشبى، وهو ما أهله لأن يكون قبلة لأبناء مدينة بلبيس والقرى المجاورة لها لآداء الصلاة، خاصةً فى شهر رمضان، والذى يشهد إقامة صلاتى التراويح والتهجد بحضور آلاف من أهالى المنطقة والمناطق المحيطة.
ما يقرب من 1422 عاما على إنشاء المسجد
الإهمال.. كلمة السر
” لن يصدق عقل أن أول مسجد بني في مصر وإفريقيا يعاني من الأهمال بهذه الطريقة، فبعض الجدران تعاني من تشققات كارثية، والمظهر الخارجي لا يشير لا من قريب أو بعيد لمكانة هذا الأثر الكبير”.. كان هذا تعليق شريف عبود، أحد سكان مدينة بلبيس بشأن ما وصل إليه المسجد من إهمال.
مسجد “سادات قريش” أقدم مسجد في تاريخ القارة الإفريقية بحسب الروايات الأرجح، ومع ذلك لم يلتفت إليه أحد من المسئولين رغم المناشدات المتواصلة
عبود البالغ من العمر 35 عاما والذي يعمل مدرسًا، أشار في حديثه لـ “نون بوست” أنه في الدول التي وصفها بـ “المحترمة” يحافظون على أثارهم وإن لم تتجاوز عقود قليلة مضت، أما في مصر فالأمر يختلف كلية وتفصيلا، متهما القائمين على الأثار في مصر بتعمد تشويه مثل هذه المعالم لاسيما الإسلامية منها.
كما ذكر أن المسجد ليس المعلم الأثري الوحيد من نوعه في بلبيس ومع ذلك تعاني من إهمال جسيم، مناشدًا الحكومة بسرعة التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مضيفًا : لو هناك تخطيط جيد وإرادة حقيقية وحب فعلي لهذا الوطن لتحول المسجد إلى مزار سياحي تاريخي يجذب الملايين من المهتمين بالعمارة الإسلامية في العالم أجمع”.
يعاني المسجد من إهمال الجهات المسئولة
ذات الرأي ذهب إليه الباحث الأثري محمد عبد الغني، الذي أشار إلى أن كثيرًا من المعالم الأثرية في مصر تعاني من إهمال وقصور شديد، وصل في بعض الأحيان إلى هدم بعضها وإخفاء الأخرى، في الوقت الذي تتنافس فيه الدول الأخرى على تطوير معالمها وإن لم تساوي صفرًا على اليسار مقارنة بنظيراتها في مصر.
عبد الغني لـ “نون بوست” كشف أن مسجد “سادات قريش” أقدم مسجد في تاريخ القارة الإفريقية بحسب الروايات الأرجح، ومع ذلك لم يلتفت إليه أحد من المسئولين رغم المناشدات المتواصلة من باحثي الأثار والمهتمين بالتاريخ الإسلامي، معربا عن تعجبه من موجة الإهمال التي منيت بها عدد من الأثار الإسلامية خلال السنوات الأخيرة.
وفي المجمل.. يقبع أقدم مسجد بٌني في تاريخ القارة السمراء أسير الإهمال والتقصير، وبينما بُحت أصوات أهالي بلبيس من جانب والأثريين من جانب آخر، لإعادة الهيكلة والتطوير، فإن الحكومة تسير في واد أخر، في الوقت الذي تشكو فيه من تراجع معدلات السياحة التي تعد المورد الأول للاقتصاد المصري.