عقب سقوط نظام بشار الأسد، توجهت المنصات الإعلامية إلى مخيم اليرموك في دمشق، لتوثيق حجم الدمار الذي شهده أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين المهجرين منذ النكبة في سوريا، وكان يضمّ آنذاك حوالي ربع مليون فلسطيني، إضافة إلى أكثر من ربع مليون سوري.
تظهر ملامح الإبادة العمرانية في مخيم اليرموك بصورة واضحة، حيث أظهرت المقاطع المنقولة مشاهد دمار تشبه إلى حدّ بعيد ما يشهده قطاع غزة حاليًا، في سياق التدمير الممنهج الذي أدّى إلى تراكم الأنقاض وخراب شامل للبيئة العمرانية، بمنهجية تمحو ملامحه وتحول دون إمكانية التعافي وإعادة الإعمار.
يسلط هذا التقرير الضوء على معاناة مخيم اليرموك، مقارنًا حجم الدمار فيه بما خلفته حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، في محاولة لرصد أوجه التشابه بين المكانين، وتأثير ذلك على هوية المناطق المستهدفة، وعلاقتها بالذاكرة الفلسطينية.
إبادة عمرانية وسكانية
رغم اختلاف السياقات بين المسألة السورية والقضية الفلسطينية، فإن الأولى تشكلت نتيجة انتفاضة شعبية تطالب بتغيير نظام الحكم، بينما تعدّ الحرب على الجغرافيا الفلسطينية استعمارية بالأساس تستهدف وجود الفلسطينيين وهويتهم، إلا أن هناك قاسمًا مشتركًا بينهما، يتمثل في استخدام القصف الممنهج كأداة للقمع وتكميم الأفواه وفرض الإخضاع، ضمن سياسة توحد بين “إسرائيل” والأنظمة القمعية المتوحشة مثل النظام السوري السابق.
يتجلى هذا النهج في مشاهد الدمار الهائل التي شهدها كل من مخيم اليرموك وقطاع غزة، إذ عمد كل من الجيش السوري وجيش الاحتلال إلى استخدام أسلحة محرمة دوليًاـ لفرض واقع جديد للحروب قائم على إبادة المكان بالدرجة الأولى، ليترك خلفه معالم مدمرة تعيد تشكيل الجغرافيا وتطمس الهوية العمرانية والإنسانية لهذه المناطق.
ففي مخيم اليرموك نتجت مشاهد الدمار الحالية عن قصف القوات التابعة للنظام السوري للمخيم بالطيران الحربي والصواريخ والبراميل المتفجرة، ما خلف دمارًا جعل من الحياة غير ممكنة في المخيم، فيما تنعكس السياسة الممنهجة ذاتها في القصف مع فارق تنوع الأسلحة التدميرية على قطاع غزة باستخدام القنابل الخارقة للتحصينات، بالإضافة إلى صنوف متعددة من القنابل استهدفت البنية الجغرافية ومقومات الحياة للسكان المدنيين.
ويتضح من الصور التي نقلت عن قرب من داخل مخيم اليرموك، تحوله من بيئة مكتظة بالسكان إلى مساحة خاوية على عروشها إلا من بقايا الحياة التي تمثلها حوالي 600 عائلة، إذ سبق وأن مارست قوات النظام سياسة الحصار والتجويع ضد المدنيين في المخيم لتفريغه، وهي سياسة استهدفت تحقيق الإبادة بشكليها العمراني والسكاني، فيما يؤدي كل منهما للآخر بالضرورة في إطار استراتيجية ممنهجة تهدف إلى محو الحياة بكافة مظاهرها.
وبصورة مماثلة، تنعكس السياسة الممنهجة ذاتها في الحصار والتجويع على قطاع غزة، كوسيلة لتحقيق الإبادة وتهجير السكان، فكما دفعت هذه السياسة سكان مخيم اليرموك إلى النزوح القسري، تواصل إجبار سكان غزة على الفرار من الموت الناتج عن الحصار الخانق وممارسات التجويع الممنهج، إلى جانب القصف المستمر الذي حوّل العديد من مناطق القطاع إلى مساحات مهجورة إلا من الأنقاض.
وينعكس في الحروب القائمة على الإبادة بشكل أساسي ابتكار أساليب حربية تحقق أكبر عدد من القتلى في صفوف المدنيين، ما يسهّل على الأطراف المعادية عملية إفراغ المكان وإحكام الهيمنة عليها وجعلها خاضعة بصورة تستهدف الارتباط بالمكان.
وهذا ما حققه النظام السوري المخلوع و”إسرائيل” باستخدام القنابل الفسفورية ضد المدنيين، ما يجعل من القصص المأساوية المرتبطة بالمكان مهيمنة على ألسنة سكان مخيم اليرموك وقطاع غزة الذين ينعون أبناءهم، لتظل القصص المرتبطة بالقتل والدمار مهيمنة على ذاكرة المكان وسكانه.
محو الهوية المكانية
كان مخيم اليرموك معروفًا بمعالمه المكانية التي بناها الفلسطينيون، ما منح المكان هوية فلسطينية مميزة تجسّدت في حياة سكانه الذين شكّلوا دعامة حيوية للحياة الثقافية والتعليمية في المخيم، حيث أسهموا في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية وأنشأوا العديد من المرافق العامة، بما في ذلك بناء أكثر من 10 مساجد تضمّ مكتبات، بالإضافة إلى 28 مدرسة تحتوي على مكتباتها الخاصة، كما شيّدوا دور نشر ومراكز ثقافية وتعليمية.
لكن تعكس الصور القادمة من مخيم اليرموك غيابًا تامًّا لأي ملامح للمكان، حيث تجسّد سياسة القصف التي اتبعها النظام السوري محاولة طمس الجغرافيا ومحو هوية المخيم بشكل متعمد، ففي البداية استهدف القصف مسجد عبد القادر الحسيني، الذي كان أول مسجد يتم تشييده في المخيم، ويمثل رمزًا تاريخيًا للوجود الفلسطيني في المنطقة.
وتبعت تلك الهجمات حملة تدمير ممنهجة استهدفت البنية التحتية للمخيم، حيث شنّت القوات الروسية عام 2018 حملة تدمير شاملة وفق خطة تهدف إلى هدم المخيم بالكامل بشكل يجرّده من هويته الفلسطينية، ويحول الأماكن المألوفة فيه إلى ركام لا يمكن التعرف إليه.
ويعدّ مشهد المخيم الفارغ من سكانه تجسيدًا للتهجير الممنهج الذي سعى النظام السوري لتحقيقه بهدف إحكام السيطرة على العاصمة دمشق، إذ مثلت سياسة محو المكان بالقصف ضرورة في نظر النظام لمحو الهوية الفلسطينية التي ميّزت المخيم لعقود طويلة، إلا أن هذه السياسة لم تفرّق بين فضاءات الفلسطينيين والسوريين الذين عاشوا جنبًا إلى جنب وتقاسما الظلم والمعاناة من النظام المخلوع.
ولا تغيب حقيقة محو “إسرائيل” للهوية المكانية في قطاع غزة، وسط مشاهد الركام المكدسة للمدن الغزية والتي تبعث على شعور عميق بالأسى، إذ يكرّس جيش الاحتلال الإسرائيلي كامل قوته للنيل من القطاع ومحوه كليًا، مستهدفًا المعالم الثقافية والمؤسسات التعليمية وكل ما يقتضي وجود تفاعل اجتماعي بين الفلسطينيين.
هذا الواقع المأساوي يجعل مصير ما شهده الفلسطينيون في مخيم اليرموك امتدادًا لأسى النكبة التي تشكّل على إثرها أيضًا قطاع غزة، الذي يضمّ فلسطينيين من شتى المدن الفلسطينية المهجرة عام 1948، وذلك يأتي ضمن مخطط “إسرائيل” الاستعماري بإعادة احتلال القطاع وتهجير أكبر عدد من سكانه.
الواقع المعاش
لا يمكن تجاهل الحقيقة المأساوية التي تعيشها المجتمعات التي تعرضت للإبادة، حيث يعكس حجم الدمار غياب أبسط مقومات الحياة وتلاشي عوامل البقاء، وهو ما يظهر بوضوح في واقع مخيم اليرموك، الذي تحول إلى ركام وأصبح خاليًا من أي حركة تجارية أو حيوية كانت سمة أساسية قبل اندلاع الثورة.
ورغم هذا الواقع المؤلم، يزداد عدد الناس الذين يتوافدون إلى المخيم بعد تمكُّن المعارضة السورية من إسقاط النظام، على أمل القدرة على إعادة تأهيله وإحيائه من جديد، وفي قلوبهم شعور الحنين لـ”جنة” المخيم التي بددتها الحرب.
في المقابل، يسود شعور بالغ الحزن بين سكان قطاع غزة على ما لحق بمنازلهم وممتلكاتهم من دمار جراء القصف الإسرائيلي، الذي استهدف جميع الأماكن في القطاع من مدارس ومستشفيات ومرافق ترفيهية، حتى أصبحت حياة السكان عبارة عن نزوح وهروب مستمرَّين من الموت المحتمل في أي لحظة.
وفي ظل هذه الظروف، غابت أشكال الحياة الاجتماعية، حيث يعيش الناس في حالة بحث دائم عن الطعام والمياه، وسط سياسة تجويع ممنهجة تمارسها “إسرائيل” بمنع دخول المساعدات الإنسانية.
ولا يتخفّف سكان مخيم اليرموك من الإحساس بما يعيشه الناس في قطاع غزة، حيث تتشابه الإبادة التي لحقت بكل من المكانَين، إذ يقول جمعة أحمد العينة أحد سكان المخيم، إن “نفس الشر الذي يقومون به في غزة فعلوه في مخيم اليرموك”، ويضيف إن “بشار تلميذ إسرائيل”.
تكشف الإبادة العمرانية عن توجهات عنف متعددة الأشكال، سياسية واستعمارية، حيث لا يمكن فصل حقيقة الدمار الذي حلَّ بمخيم اليرموك وعموم سوريا عن الدمار الجاري في قطاع غزة وسائر الجغرافيا الفلسطينية، وذلك يشمل حالة الهدم في الضفة الغربية على سبيل المثال، التي تتبع نفس السياسات التدميرية والاستعمارية.
إذ تخدم هذه السياسة الممنهجة في الإبادة أهدافًا متعددة تشمل قمع السكان، وقتلهم، وتهجيرهم، واستلاب ارتباطهم بأرضهم، فضلًا عن الاستيلاء على ممتلكاتهم وتجريدهم منها، وتجسد ذلك في سياسة النظام السوري المخلوع على مخيم اليرموك الذي مُحيت ملامحه بالكامل، فيما ما زلنا نشهده في واقع الاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية.
كما لا يمكن تجاهل حقيقة الاعتقال الممنهج الذي مارسه النظام السوري السابق بحق كل من السوريين والفلسطينيين، ما أدّى إلى تعرض مئات الآلاف لأنواع متعددة من التعذيب والتصفية البشرية في معتقلات النظام.
وتستمر “إسرائيل” في ممارسة هذه السياسة بحق الفلسطينيين حتى اللحظة، حيث لا يُعرف مصير العديد منهم في المعتقلات الإسرائيلية نتيجة لسياسة الإخفاء القسري التي تصاعدت مع بداية العدوان على قطاع غزة، فيما تبقى الآمال قائمة في أن ينجح الفلسطينيون في وضع نهاية للاحتلال الإسرائيلي، كما نجحت الثورة السورية في وضع نهاية للنظام السوري.