على بُعد عقد من انتفاضة الأقصى، وبالتوازي مع حملة تهويد واسعة لمدينة القدس وأحيائها وما نتج عنها من “انتفاضة السكاكين” عام 2015، وعمليات الدهس المتواصلة من المقدسيين وفلسطينيي الداخل، نبتت بذور لحراك فلسطيني مقاوم في الضفة الغربية، كُتب له أن يبدأ خجولًا وفرديًا وموسميًا نهاية عام 2015.
بل أن يكون مختلفًا تمامًا في مرجعيته الفصائلية والاجتماعية والدينية والوطنية عن أي حراك سابق، بل ربما يصحّ اعتباره هبّة ذئاب منفردة، لا سيما أن ما زامنه من عمل مقاوم كان عصيًا على التنبؤ، مفاجئًا للجمهور الفلسطيني والمحتل الإسرائيلي على حد سواء، وهو ما أطلق عليه صالح العاروري القيادي في حركة حماس حينها “المقاوم الجديد”.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2015، نفّذ الشرطي محمد ماهر حامد عملية إطلاق نار على قوة من جنود الاحتلال تواجدت في بلدة سلواد شرق مدينة رام الله، وكانت تردّ على حجارة الفلسطينيين بالرصاص، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه نفّذ الضابط في جهاز المخابرات الفلسطينية مازن عريبة، عملية إطلاق نار على جنود الاحتلال على حاجز حزما شمالي القدس، وفي يناير/ كانون الثاني 2016 نفّذ الشرطي أمجد السكري من بلدة جماعين عملية إطلاق نار على حاجز بيت إيل.
ورغم أن عمليات المقاومة لم تكن مقتصرة على أفراد الأمن الفلسطيني، ولم تكن وحدها تعبيرًا عن التغير العميق الذي يجري في الشارع الفلسطيني، وعن الاهتزازات التي كانت تنتظر طوفانًا، إلا أنها كانت الأكثر تأثيرًا ماديًا، لأن أفرادها مسلحون وذو تدريب عسكري سابق، والأبلغ تأثيرًا معنويًا لأنها انطلقت من أفراد مبرمجين على التعامل مع العدو كشريك.
أما التأثير الأكبر فقد كان فلسطينيًا، حيث أسهمت هذه العمليات في تحفيز الفلسطينيين من مختلف الفصائل والمرجعيات على إعادة إحياء المقاومة المسلحة، والإعداد الجيد لها، وعدم احتكار أي نوع من أنواع المقاومة بيد فصيل معيّن، بما يعين على استمرار المقاومة وصعوبة استهدافها من الاحتلال والسلطة، أو ضربها جماهيريًا.
قاوم ولو كنت وحدك
أفكار المقاومة المسلحة وجدت طريقها عبر الشاب جميل العموري من مدينة جنين، الذي بدأ مقاومته وحيدًا منذ عام 2020، فقد أطلق النار على قوات الاحتلال خلال تنفيذها لعمليات هدم منازل الفلسطينيين، أو أثناء اقتحامهم لمخيم جنين، أو على الحواجز ونقاط التفتيش، متصدرًا الجنازات والمسيرات، ومطالبًا المسلحين بوقف إطلاق النار في الهواء وتصويبه إلى صدور المحتلين، وإلى تجديد الاشتباك معهم.
مع اندلاع معركة “سيف الأقصى”، ازداد انخراط العموري بالفعل المقاوم وأصبحت وتيرة عملياته يومية، ما جعله المطارد الأول للاحتلال في الضفة الغربية، وأهّله ليكون مثالًا لأبناء جنين، ملحين عليه في تحويل عمله الفردي إلى مشترك، فبدأ -وهو ابن الجهاد الإسلامي- بـ 4 مقاتلين، ثم 8، قبل أن يتمكن الاحتلال من تصفيته منتصف عام 2021 مع اثنين من أفراد خليته، هما -أبناء حركة فتح وأفراد في الأجهزة الأمنية الفلسطينية- أدهم عليوي وتيسير عيسى.
قبل أن يرحل العموري كان قد أرسى -ودون أن يدري- ملامح العمل المقاوم في مخيم جنين حتى اليوم، فهو عمل يتسع للجميع من كل الفصائل، يتسامى على الخلافات الحزبية والانقسام، ويستند إلى حاضنة شعبية متينة ومتجددة تضع على رأس أولوياتها دعم أهالي الشهداء وإسنادهم ولو معنويًا بالحد الأدنى.
وبالتزامن مع رحيله، كانت تجارب أخرى ترى النور في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، مثل نابلس التي كانت كتيبة عرين الأسود في طلائع عملها المقاوم، ومن ثم كتيبة بلاطة، وكلتاهما ذات مرجعية فتحاوية، وكتيبة طولكرم وطوباس والفارعة والأمعري، وغيرها.
ومع ازدياد الاقتحامات الإسرائيلية للمناطق الفلسطينية، بدأ النفس المقاوم يتمدد من الشمال حتى الوسط، لكن خلاياه -في معظمها- ظلت قصيرة الأمد، سهلة الحصار والاعتقال والملاحقة، ذلك أنها في كثير من الأحيان لم تستطع مواجهة ضغوط السلطة وملاحقة الاحتلال وضعف الحاضنة الشعبية.
نفق الحرية يضع مخيم جنين على السكة
صباح 9 سبتمبر/ أيلول 2021، كانت جنين على موعد مع حدث سيغيرها إلى الأبد، فقد استطاع 6 أسرى فلسطينيين (جميعهم من جنين) التسلُّل عبر نفق حفروه بملعقة من تحت سجن الجلبوع والخروج من الأسر إلى الحرية، بينما نشرت قوات الاحتلال أكثر من 200 حاجز، واستنفرت وحدات المراقبة الجوية وكلاب المطاردة وجهاز الأمن العام وحرس الحدود، لمحاولة الوصول إليهم في أسرع وقت ممكن.
كانت جنين تؤسّس غرفة عمليات مشتركة تضمّ جميع فصائل العمل المقاوم، تعمل وفق مستويات عسكرية وشعبية وسياسية، فعبر 3 مؤتمرات رسمية لغرفة العمليات ألقاها المقاومون الملثمون المسلحون بكامل عتادهم، أكدوا خلالها استعداد المقاومة وجهوزيتها لاستقبال الأسرى والدفاع عنهم وصدّ أي محاولة لاجتياح المخيم، في ردّ على المؤتمرات الإعلامية الصادرة عن الاحتلال.
كما أعلنت استعدادها للثأر لهم في مؤتمرها الأخير الذي عقدته أمام منزل الأسير زكريا الزبيدي بعد اعتقاله وتعذيبه، لتعيد مراكمة حالة جماهيرية تحررية وتخرج المقاومة الميدانية من عنق دايتون للمرة الأولى منذ عام 2005، مقدمة صورة تتجاوز الاستسلام والخنوع للانتهاكات الإسرائيلية، وقبول الأمر الواقع الذي لا يمكن تغييره وفق مفهوم السلطة الفلسطينية.
وبينما كان عدد المقاومين في يونيو/ حزيران 2021 ثمانية، تجاوز في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه 100، لتتحول المقاومة في الضفة الغربية من عمل فردي إلى تنظيم كبير، أُطلق عليه “كتيبة جنين” تأسيًا بما وصف به الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، أسرى نفق الحرية.
وخلال فترة ملاحقة الاحتلال للأسرى، انطلقت الغرفة المشتركة للمقاومة في سلسلة من فعاليات الإرباك، استهدفت من خلالها الحواجز والنقاط العسكرية المحيطة بجنين، وخرجت في مسيرات عسكرية، وأطلقت بيانات عبر قنوات تيليغرام تؤكد من خلالها استعدادها لحماية الأسرى والدفاع عنهم.
وحين تمكن الاحتلال من إعادة اعتقال جميع الأسرى، والذين كان آخرهم مناضل نفيعات وأيهم كممجي، حيث كانا على بُعد أمتار فقط من مخيم جنين، أثبتت كتيبة جنين بإطلاقها موجة العمل العسكري ضد الاحتلال، أنها تأسيس مقاوم وليس حالة عابرة، وأنها رغم ميلها للجهاد الإسلامي إلا أنها تتسع لمختلف البيئات الاجتماعية الفلسطينية، ففيها من حركة فتح، وفيها من أفراد الأجهزة الأمنية السابقين، وفيها من حماس، وفيها من لا رابطة له سوى الوطن.
كما أثبتت قدرتها على الارتباط الفعلي أو الشكلي مع أنوية المقاومة الأخرى في الضفة الغربية، بالإسناد والدعم المتبادل، ومرونة استمراريتها رغم الاستنزاف، وتفوقها على استمالات السلطة أو ترهيبها، فبعد أقل من شهر واحد فقط كانت أجهزة السلطة قد أعدّت قائمة بـ 40 اسمًا ممّن تصفهم بالمطلوبين، مطلقة حملة تفكيك معنوي للكتيبة أولًا.
ثم ما لبثت أن استهدفت فتيان المخيم ومناصري الكتيبة بالاعتداء والضرب، وهو ما دفع المخيم للاستنفار ردًّا على هذا الاعتداء وإطلاق النار على مقرات الأجهزة الأمنية والمقاطعة الحكومية في المدينة، لتشهد نهاية العام 2021 أول مواجهة بين السلطة ومقاومة جنين.
وتتلوها بعد أشهر مطاردات أخرى لكتائب العمل المقاوم في نابلس، حيث تمكنت السلطة بعد 6 أشهر من المطاردة من نصب كمين لمصعب اشتية وعميد طبيلة، وبينما استطاعت السلطة أن تبرر عمليتها الأمنية باستهدافها لنشاط حماس العسكري، فشلت في ذلك بمواجهاتها في جنين، لا سيما أنها استهدفت ابن زكريا الزبيدي، أحد أسرى نفق الحرية، وقائد كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح خلال انتفاضة الأقصى.
كتيبة جنين: سرّ البقاء وخطاب التهديد
مدفوعة بالكثير من الحوافز ما بين الضغط الدولي والإلحاح الإسرائيلي والحاجة المتجددة لإثبات الولاء والسيطرة، تقدم الأجهزة الأمنية الفلسطينية منذ الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول الحالي، على شن حملة أمنية على مخيم جنين تحمل عنوان “حماية وطن”.
الجديد في هذه الحملة كثير؛ فمن توقيتها الذي يتزامن مع إبادة إسرائيلية لقطاع غزة، وبوادر صفقة قد تتيح لمخططات “اليوم التالي” أن ترى النور وتكون السلطة جزءًا منها، إلى شراستها التي عبّرت عنها التصريحات الرسمية الفلسطينية وأداء أفراد الأجهزة الأمنية، باستهدافها المواطنين والأطفال، واستخدامها لخطاب “الدعس على الروس، والتصفية، وإنهاء الحالة بلا ثمن”، واقتحام بيوت أهالي الشهداء وضربهم وطردهم منها.
حتى أساليبها التي اعتمدت فيها الحصار المشدد، من قطع الماء والكهرباء ومنع دخول الغذاء وتهديد السكان واستهداف المدنيين، ومنع البنوك ومحلات الصرافة من التعامل المالي مع المواطنين، إلى طول مدة الحملة الذي تجاوز الأسبوعَين، مع ما يرافقه من خطاب تحريضي ضد المقاومين يصفهم بأنهم “خارجون عن القانون، جبناء ومجرمون، مرتزقة ومتكسبون، داعشيو التوجه، يحتمون بالسكان والمشافي، تابعون لإيران وينفذون أجندة خارجية”.
انتهاءً بالزخم الشعبي الاستثنائي الذي وقف في وجه أجهزة السلطة وتقدمها منذ اليوم الأول، من خلال المسيرات والمظاهرات، وفعاليات الإسناد في المدن والمخيمات الفلسطينية في مختلف مناطق الضفة، وعبر خطاب أهلي شعبي يطالب السلطة بمواجهة الاحتلال ومستوطنيه بدلًا من الاستقواء على أبناء المخيم.
هذا التفرد في الحملة يعكس في واقع الأمر حجم التهديد الذي تشكّله الكتيبة على وجود السلطة وتماسك مشروعها التفاوضي، بالتوازي مع بوصلة الكتيبة المصوّبة نحو الاحتلال دون تردُّد، بما يمكن اعتباره سرّ بقائها؛ فالكتيبة جاءت بما لم تأتِ به الفصائل والتنظيمات الفلسطينية العسكرية من قبل، وأخرجت إلى النور شكلًا آخر من أشكال المقاومة، أكثر مرونة وانسجامًا مع المجتمع الفلسطيني، وقدرة على التكيف والتعويض الذاتي لخسائره دون تراجع.
فمن ناحية الهيكل التنظيمي للكتيبة، فلا هو هرمي ولا ممتد، ولا هو جمعي ولا فردي، بل يترك لأفراده حرية اختيار أسلوب عملهم الذي قد يكون على شكل مجموعات، أو أفراد، وقد يكون استهدافًا لنقطة عسكرية أو تصديًا لاشتباك، أو عملية في قلب الكيان، يحمل كل مقاتل مسؤولية تأمين سلاحه، واقتناص هدفه، وتتحمل الكتيبة مسؤولية الدفاع عنه وإسناده في حدود المخيم، وأحيانًا ما حوله.
ومن ناحية التبعية الفصائلية، فرغم الظهور الواضح لسرايا القدس (الجهاد الإسلامي) في تشكيلاتها، إلا أن عددًا كبيرًا من أفرادها ينتمي إلى حركة فتح، والجزء الغالب منهم أفراد سابقون في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهو ما يحولهم إلى “قاتل أبيه”، في استمرار القدرة على اجتذاب المزيد من أبناء الأجهزة الأمنية إلى صفّها.
كما يفتّت بنى المواجهة التاريخية بين السلطة والمقاومة في الضفة الغربية القائمة على مبدأ (محاربة الانقسام)، فقبيل نشأة الكتيبة كانت أجهزة السلطة تتمترس خلف مبرر يجمع المقاومة بحركة حماس، ويحول أي عمل ضد الاحتلال في نتائجه لعمل ضد السلطة وجماهيرية حركة فتح، ولأداة داخلية لإحراج السلطة وإحباط قدرتها على تأسيس الدولة، وكان الخطاب يضع السلطة والشعب في كفّة والمقاومة (حماس والجهاد) في كفّة أخرى، وهو ما لم يعد مقنعًا أو مبررًا.
في أسرار البقاء تتغذى الكتيبة من حاضنتها الاجتماعية، وهي تعيد بذلك مجد الانتفاضة الأولى حين كانت بيوت الفلسطينيين تتسع لجميع المطاردين، وحين غدا المقاومون أبناءً لكل الأمهات، وهي في ذلك أيضًا تتجاوز نخبوية المقاومة إلى شعبيتها، فينغمس الجميع في شكل من أشكال المقاومة بالحجر والإسناد وتغطية أسقف المنازل لمنع المسيّرات من الرصد، وإطلاق صفارات الإنذار وسماعات المساجد في الحشد والتعبئة.
يتلازم ذلك مع فراغ بنيوي متزايد في علاقة السلطة بشعبها، حتى على مستوى المواطن والدولة، يؤسّس لاتساع الكتيبة وتجذرها، فبينما يستشري الفساد من دون محاسبة، ويلاحق أي عمل تضامني مع المقاومة في غزة، وتصعّد خطابها ضد الشعب المطالب بالإصلاح والمقاومة المطالبة بثمن لأوسلو، تتكشف الخطط عن المزيد من الخضوع للاحتلال والتجاوز لمخططات الضم، والارتهان للإدارة الأمريكية الحالية والقادمة.
دون أن يظهر على جدول أولوياتها أي توجه لإصلاح اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، يشمل مخططات لصرف رواتب كاملة، أو تحسين الواقع التعليمي أو الصحي أو العمّالي، أو أية بوادر لمواجهة سياسية أو قانونية أو وطنية لهجمات المستوطنين، وهي جميعًا عوامل تحيل الجمهور الفلسطيني للاصطفاف خلف الكتيبة ومساندتها.
أجهزة السلطة: أدوات إسرائيلية وتنفيذ فلسطيني
استمرار مسار المواجهة الحالي بين جنين (كمخيم وحاضنة ومقاومة) وأجهزة السلطة، كشف جملة من التغيرات التي ستنعكس الآن أو لاحقًا على العمق الفلسطيني، وستزداد باستمرار المواجهة طالما أن السلطة ترى في القضاء على المقاومة حياة لها.
على مستوى الإعداد الداخلي والنفسي للأجهزة الأمنية، كشفت مصادر إعلامية عن احتجاز أكثر من 237 عنصرًا من عناصرها في سجونها، إثر رفضهم المشاركة في حملتها العسكرية، كما أعادت تشكيل قواتها بما يضمن عدم مشاركة أي عنصر من داخل جنين في الحملة، بما يحقق استمرار الضغط على المواطنين دون رادع نفسي أو اجتماعي.
ترافق ذلك مع خطاب تطميني لأفرادها بحمايتهم من أي ملاحقة قانونية أو عشائرية قد تنجم عن مشاركتهم في الحملة، وخطاب هجومي يهدد كل من يتراجع بالمحاسبة أو الإقالة، وهي مؤشرات تعكس بداية انفصام لا بدَّ سيزداد في كينونة الأجهزة الأمنية.
مع ذلك، لا يكشف تفاعل السلطة مع كينونة أجهزتها أو وضع شعبها أي تلمُّس لحساسية الحالة، فمن مواصلة إطلاق تصريحات تؤكد فيها أنها مستمرة في ملاحقة من تصفهم بالمسلحين ومن يقف خلفهم، وأنها لن تتراجع عن ذلك، ولن تقدم أي تنازلات، ولن تخضع لأي “تسويات أو صفقات تحول دون ذلك”، رغم مقتل اثنين من عناصرها، صنّفتهم باعتبارهم “شهداء الوطن”.
وذلك إلى انسجام حملتها الحالية مع الخطة الأمنية التي طرحتها الولايات المتحدة مطلع عام 2023، والتي كانت سابقة للسابع من أكتوبر، حين شارك قادتها الأمنيون في اجتماع بالعقبة الأردنية بوضع خطة يقودها الجنرال الأمريكي مايكل فنزل بمساعدة إسرائيلية، تقوم على إنهاء حالة المقاومة في الضفة، وتعاطي السلطة “بصلابة” أكبر من المقاومين.
جماهيريًا، هناك تأثير جنين في دفع الحراك الشعبي نحو المواجهة مع السلطة، حيث أطلقت الكتيبة برنامج فعاليات موجّهًا للجمهور الفلسطيني من بقية مدن الضفة للمشاركة في “فك حصار السلطة عن المخيم”، بدأت فعالياته يوم الاثنين بإضراب شامل، ثم مسيرات رافضة، ثم حملة شد الرحال إلى المخيم لفكّ طوق الأجهزة الأمنية عنه.
ترافق التفاعل الجماهيري مع إسناد ودعم من كتائب المقاومة في مختلف مدن الضفة الغربية، فاستهدفت كتائب طوباس والفارعة بنارها كلًّا من مقرات المخابرات والأمن الوقائي والشرطة والمقاطعة، فيما تفاعلت الكتل الطلابية في الجامعات الفلسطينية -باستثناء ذراع فتح الطلابية- مع الحراك الشعبي الرافض للحملة.
وفيما تصدرت أمّهات الأسرى والشهداء مشهد الحراك الشعبي الرافض لحملة السلطة، لجأت السلطة إلى برنامج موازٍ لها، يقوم على الحشد والتعبئة لمسيرات تدعم الحملة وتقف في وجه وفق ما وصفته بـ”الفلتان الأمني”.
ومن أجل ذلك، استعانت بعدد من أصحاب الشركات والنقابات المهنية الموالية لها، وبسلطتها على المدارس والمراكز والمؤسسات، فأطلقت تعميمًا بتعليق الدوام تمام الساعة 11، وسُدّت الذرائع بتأمينها مواصلات مدفوعة من القرى إلى قلب المدن، وجعل المشاركة الإجبارية في مسيراتها، باستخدامها لصيغة التهديد “اللي ما رح يحضر رح يتحاسب”.
أما على السطح، فيظهر عمق التنسيق الأمني وأدواته، حيث أشارت مصادر إعلامية “إسرائيلية” إلى أن المستويات الأمنية تتابع الحملة أولًا بأول، دون أن تتراجع عن لغة الإملاءات بتوجيهها تحذيرًا إلى قيادة السلطة بأن الوقت ينفذ، وأن طول مدة الحملة لا يبشّر بالنجاح.
وفي الميدان وثّقت المشاهد المصورة ثمار التنسيق الأمني، باستخدام أفراد الأجهزة للمسيّرات، ولقذائف آر بي جي، ولمدرّعات إسرائيلية، ومعدّات حماية واستطلاع أمريكية في الهجوم على المخيم ومنازله.
وهو ما رفع من الاصطفاف الجماهيري والشعبي خلف جنين، لا سيما أن الأعمال العسكرية أو التصريحات السياسية للسلطة لم تختلف كثيرًا عمّا يقدمه الاحتلال في غزة من حرق وقتل وتبرير، فقذائف الآر بي جي أحرقت 3 منازل بالكامل في جنين، دون السماح لسيارات الإطفاء أو للسكان بالتقدم لإطفائها.
كما أن قنّاصتها نصبوا بنادقهم بين المنازل وعلى أسطحها مستهدفين كل من يتحرك، ما أدّى إلى إصابة الطفل أمجد زيدان برصاص مباشر في صدره، قبل إعلان استشهاده، وهو الطفل الثاني الذي يسقط برصاص القناصة والرابع من ضحايا الحملة.
بينما اقتحم أفراد الأجهزة المقنّعون المشافي ومراكز الطوارئ الصحية بحثًا عن المصابين برصاصها لاعتقالهم، بعدما نجحت خلال اقتحامها مستشفى جنين الحكومي باعتقال الشابَّين بهاء سهيل مرعي وقصي العرسان.
أما إجراءاتها القمعية في عموم الضفة فقد فاقمت من حالة العداء الشعبي لها، حيث شهدت مدينة قلقيلية عمليات إطلاق نار على منازل ومحلات لأفراد بحجّة انتقادهم السلطة، وفي رام الله أطلق النار على سيارة والدة أسيرين ما أدّى إلى انقلابها، ليتبيّن لاحقًا أن السبب هو إقدام شقيقها على انتقاد السلطة في حملتها الأخيرة.
كما أطلقت السلطة حملة استدعاء واعتقالات لمنتقديها على وسائل التواصل الاجتماعية، طالت أكثر من 70 مواطنًا، من بينهم ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعية، مجبرة عددًا منهم على تصوير فيديوهات “اعتذار” للأجهزة الأمنية، والتراجع عن انتقاد سياسة السلطة تجاه مخيم جنين.
بينما ردّت الفصائل الفلسطينية بجملة من البيانات والتصريحات السياسية، أجمعت على رفض مبررات الأجهزة الأمنية في استهداف المقاومة الفلسطينية في مخيم جنين، وأكدت ضرورة وقف نزيف الدم الفلسطيني وإنهاء حصار المخيم.
مستقبل المواجهة بين السلطة والشعب
بمثل هذه المتغيرات التي وضعت السلطة فيها نفسها أمام معادلة “كل شيء أو لا شيء”، يمكن التنبؤ بسيناريوهات ما بعد “حماية وطن”، ونتائجها في إطار تحولها لصراع بين السلطة الحالية وشعبها، والتي تنحصر في 3 سيناريوهات؛ الأول هو تمكُّن الأجهزة الأمنية من بسط سيطرتها كاملة على المخيم، واعتقال وتصفية المطلوبين.
وإن تحقق هذا السيناريو فلا يمكن أن يطول، ذلك لأن طبيعة المقاومة في جنين مرنة ولا فصائلية أو هيكلية، وقادرة على التجدد لأجيال بفعل استمرار الاحتلال ومراكمتها المقاومة كثقافة لا كعبء، بعكس السلطة وسلوك أجهزتها، كما أن فشل حملات الاحتلال السابقة “كاسر الأمواج” في إخضاع المخيم مع فارق الخبرة العسكرية يضعف هذا الاحتمال.
أما السيناريو الثاني فهو انكفاء أجهزة السلطة مؤقتًا، ووقف حملتها الأمنية مقابل النزول إلى تسويات أمنية، تضمن حرية عمل السلطة داخل المخيم، وقدرتها على تفكيك العبوات الحالية، مع تسويات فردية لوضع المطاردين ما بين الترغيب والترهيب.
ولا يبدو أن هذا السيناريو متوقعًا في ظل تهديدات قادة الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها رئيس المخابرات العامة ماجد فرج، بتسوية الوضع في المخيم وتصفية المقاومة، حين قال: “سأدخل المخيم بألف جندي، وسأفكّك جميع العبوات، وسأعتقل جميع المسلحين”، ولا بالتوازي مع رفض الأجهزة لأي شكل من أشكال الوساطة المجتمعية (قدمتها 60 منظمة أهلية فلسطينية) لتجاوز الأزمة والحفاظ على السلم الأهلي.
فيما قد ينحو السيناريو الثالث نحو تدخل عسكري إسرائيلي مساند، يتيح للسلطة إتمام مهمتها بما يخدم الطرفين، ويحقق مبدأ التنسيق الأمني، الذي يوفّر السيطرة والتحكم للسلطة والأمن والهدوء للاحتلال على جبهة الضفة الغربية.
بالمحصلة، الخاسر الأكبر في جميع الاحتمالات هو السلطة وحركتها فتح التي تواصل استعداء شعبها وأبنائها، وإن كان يبدو في استدعائها لأفراد من خارج منطقة جنين، وتحييدها أفراد الأجهزة الأمنية من أبناء جنين بعيدًا عن الحملة، ما يشي بضعف سيطرتها على أفرادها أصلًا.
يضاف إلى ذلك أن استمرار حملتها التي بدأتها بقتل 3 شبان جميعهم ينتمون إلى عائلات تعمل في الأجهزة الأمنية ولها انتماء فتحاوي، وتجاهلها لطبيعة التداخل بين المقاومة وفتح والأجهزة والبُعد الاجتماعي في المخيم، يعني استهدافًا مباشرًا لقاعدتها الشعبية، ويفتح المجال على تفككها داخليًا.
هذه الخسارة حتمية، بغضّ النظر عن الدعاية المكثفة لغطاء إسرائيلي أمريكي عربي يغذي حملة السلطة ويعزز من استمراريتها، فالجانب الإسرائيلي لا يحاول تخفيف “عبء المقاومة” على السلطة بالتراجع عن الضمّ أو الإفراج عن المزيد من أموال المقاصة، أو التلويح بجزرة طاولة المفاوضات، بل يغطي الحملة بدعم أمني وآليات ومعدّات عسكرية، والكثير من التحريض السياسي والإعلامي لحملات أخرى تطال مناطق أوسع في الضفة “مع تمني الخير للجانبين“.
أما أمريكيًا فالدعم شكل آخر من أشكال تخفيف العبء السياسي والعسكري على “إسرائيل” وتحييد الجبهات، وتهيئة الأوضاع على الأرض بما يتيح مرونة أكبر لمخططات إسرائيلية مستقبلية لا تريد أن ترى المقاومة عبئًا ولا السلطة شريكًا، ففي جميع الحالات سيظل الشريك الفلسطيني الذي قد يعول عليه “أضعف” من أن يعول عليه.
بينما يظهر الدعم العربي في صورة استعداد أكبر لاستقبال إدارة ترامب، تحاول من خلاله السعودية ومصر والأردن دفع السلطة للمزيد من القمع والتنكيل بشعبها، بما قد يحلو للمجتمع الغربي تفسيره حينًا باعتباره سيطرة، وحينًا آخر باعتباره سلوكًا تعسفيًا، وفقًا لدواعي الضرورة.
هي أيام ثقيلة إذًا على الفلسطينيين جميعًا، لكنها ولا شك ستنجلي عن صدع أكبر في علاقة السلطة بذاتها وشعبها، فالخط الأحمر الذي وضعه المقاومون لرصاصهم محته السلطة بدماء أبنائهم، ولم تترك أمامهم من طريق لمواجهة المحتل إلا عبر مواجهتها أولًا، حيث تتمترس السلطة هذه المرة أمام المحتل وليس خلفه، مقبلة على نهاية محتمة، يصعب التنبؤ بشكلها أو نتائجها.