ترجمة وتحرير: نون بوست
لسنوات طويلة، توارث السوريون تحذيرًا من جيل إلى آخر: “الجدران لها آذان”. ففي المقاهي، وسيارات الأجرة، والأسواق – وحتى في غرف معيشتهم الخاصة – لم يكن بإمكان معظمهم التحدث بحرية، خوفًا من أن يتم التنصت عليهم من قبل مخابرات بشار الأسد. وللحفاظ على قبضتها، زرع نظام الأسد الخوف، وامتدت جذوره إلى كل جانب من جوانب الحياة المدنية. وكان عمال النظافة، وجامعو القمامة، وبائعو البالونات، والزملاء، أي شخص يمكن أن يكون مخبرًا.
قال أيمن رفاعي، المقيم في دمشق البالغ من العمر 26 سنة: “وصل الخوف في البلاد إلى درجة أنك تشعر أنه لا يمكنك حتى الوثوق بأفراد عائلتك”.
في هذا المناخ من المراقبة، ابتكر السوريون طرقًا للتكيف؛ حيث طوروا لغة مشفرة سمحت لهم بمناقشة كل شيء، بدءًا من التجارة اليومية إلى المخاوف على عائلاتهم، وحتى الانتقادات المبطنة للنظام، وكانت هذه الشيفرة تُستخدم بين العائلة والأصدقاء الموثوق بهم.
وقالت علياء مالك، مؤلفة كتاب “الوطن الذي كان وطننا: مذكرات عن سوريا“: “كان لا بد من وجود لغة مشفرة بين السوريين لأنه لم يكن هناك حرية حقيقية في التعبير. ولم تكن تعرف من الذي يستمع إليك، بغض النظر عن مكانك”. ووصفت النظام قائلة: “حتى في غيابه، كان حاضرًا”.
إذا كان السوريون يشكون في شخص قريب منهم، كانوا يقولون: “هذا الشخص خطه جميل”، مما يعني أن “هذا الشخص مخبر”.
لم تعش ميسون في دمشق فحسب، بل عاشت في لبنان وفرنسا أيضًا. ولم تشعر أبدًا بالأمان من النظام حتى خارج البلاد. وتذكرت أنها كلما كانت في مجموعة كبيرة من السوريين، كانت تتساءل عما إذا كان أحد أفراد المجموعة “خطه جميل”.
لقد هربت هي وعائلتها من دمشق في سنة 2012 إلى بيروت. وهناك، ولأول مرة، بدأت ابنتها البالغة من العمر 7 سنوات تسمع قصص فظائع الأسد التي كان والدها ووالدتها قد بذلا جهدًا كبيرًا حمايتها منها.
وبعد مرور سنة، قرروا العودة إلى وطنهم متشبثين بالأمل في أن الأسوأ قد انتهى. لكن سرت شائعات بأن الحراس عند نقاط التفتيش كانوا يسألون الأطفال عن قائدهم السياسي المفضل كحيلة لقياس ما إذا كانت ميول الوالدين السياسية قد تخلت عن النظام.
وقبل مغادرتهم، جذبت ميسون ابنتها الصغرى جانبًا وقالت لها: “لا تصدقي ما قاله جيراننا عن الأسد. هو رجل جيد، إنهم لا يعرفون ما يتحدثون عنه”، وأضافت أنه كان يجب إخفاء الحقيقة.
عندما أطاح الثوار الإسلاميون بالأسد هذا الشهر في هجوم مفاجئ، شعر السوريون أنهم أصبحوا أخيرًا قادرين على التحدث بحرية.
وقال رفاعي: “نحن نقول للناس لماذا تخفضون أصواتكم؟”، مضيفًا أنه لم يصدق أنه يمكنه استخدام اسمه الكامل أثناء حديثه مع الصحفي، وتابع: “ليس هناك ما يدعو للخوف”.
وقال ثابت بيرو، البالغ من العمر 60 سنة، وهو عالم حاسوب نشأ في دمشق ويعيش في دبي: “الآن يمكنني استخدام اسمي الحقيقي”. وعلى مدار سنوات، كان يستخدم أسماء مستعارة للتعبير عن آرائه عبر الإنترنت.
وقال بيرو إنه أثناء إقامته في سوريا، لم يكن يقول حتى كلمة “دولار” في الأماكن العامة، مضيفًا: “كان الناس يشيرون إليه بـ”الأخضر”. وبمجرد أن اكتشفت السلطات ذلك، قاموا بتغييرها إلى مصطلحات خضراء أخرى، مثل “البقدونس” أو “النعناع””.
وخلال معظم فترة حكم الأسد، كان الاتجار بالعملة الأجنبية غير قانوني، ويعاقب عليه بالسجن لسنوات، وذلك بهدف السيطرة على سعر صرف الليرة المحلية.
كان الاعتقال خوفًا سائدًا لدى معظم السوريين منذ أن كان حافظ الأسد، والد بشار الأسد، في السلطة. ومنذ ذلك الحين، كانوا يشيرون إلى الذهاب إلى السجن على أنه “الذهاب إلى بيت خالتك”، كما روى العديد من السوريين. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد تعرض أكثر من 110,000 معتقل “للاختفاء القسري” على يد النظام منذ سنة 2011،وتوفي أكثر من 15,000 شخص بسبب التعذيب.
ويتذكر عبد الوارث لحام، 45 سنة، اعتقاله لمدة يومين في يناير/ كانون الثاني 2012 بوضوح؛ حيث تم اعتقاله أثناء مشاركته في مظاهرة مناهضة للحكومة خلال فترة الانتفاضة الشعبية ضد الأسد.
وتذكر أنه تم ضربه لساعات من قبل الحراس باستخدام السياط والقضبان المعدنية، مضيفًا:”لقد فوجئت بمدى قدرة الجسم البشري على التحمل”.
وأضاف لحام أنه قضى ليلتين على أرضية زنزانته الصلبة. وحاول تجنب الأكل والشرب لعدم وجود حمامات لاستخدامها. وفكر قائلاً: “هل سأرى زوجتي وطفلي مرة أخرى أم لا؟”
وعندما تم الإفراج عن لحام، قال إنه شعر بشيء غريب، موضحًا: “كنت أعرف أننا نترك وراءنا أشخاصًا. ولن يتمكن بعضهم من الخروج أبدًا.”
وتذكر كيف تم تقديم التجربة بأكملها بشكل بيروقراطي؛ حيث كان يُطلق على ضربه الأولي اسم “حفلة استقبال”. بعد ذلك، ألقى الحراس محاضرة عليه وعلى عشرات السجناء الآخرين عن “المعنى الحقيقي للحرية”.
لم تقتصر اللغة المشفرة على المدنيين، فقد استخدم نظام الأسد معجمه الشرير الخاص به.
وقالت علياء إنه لاستدعاء شخص ما للاستجواب أو العقاب، كانت الشرطة السرية السورية، أو المخابرات، تدعوه إلى “كوب من الشاي”.
وكان لحام على دراية بهذه الكلمات، وقال: “أو فنجان قهوة، إذا كان الأمر أكثر شدة”.
ثم كانت هناك المزيد من التهديدات الصدامية. فقال لحام: “هل تعرف مع من تتحدث؟” كان هذا ما يستخدمه البعض للإشارة إلى قربهم من آل الأسد، وقال: “لقد عانينا من هذه العبارة. إنها تنهي أي محادثة”.
ومع انتقال سوريا إلى حكومة جديدة، يحرص بيرو على العودة. وهو ليس وحده؛ فهناك الآلاف من السوريين الذين هربوا من النظام يعودون إلى وطنهم.
ولكن حتى مع خروج الأسد من السلطة، فإن عقودًا من الخوف قد تركت آثارها.
وقال بيرو: “لا تزال الكوابيس تراودني بأن هذا الأمر برمته مجرد حلم، وسيأتون في النهاية ليأخذوني”.
المصدر: واشنطن بوست