ظل العيد على مدار عقود طويلة مضت متنفسًا للمصريين وموسمًا للخروج من عباءة ضغوطات الحياة على مدار العام، فكان نسمة العليل الصافية وأيقونة الفرحة المتفجرة وموسم البهجة وإن قصرت مدته، تتوق إليه أنفس الجميع بلا استثناء، كبارًا وصغارًا، شيوخًا وأطفالًا، رجالًا ونساء.
كان الشاطئ الذي يلقي عليه الناس أحمال وأثقال السنة كلها، والموج الذي يعزف ألحانه العذبة على أوتار الحياة الممزقة، فتطرب الآذان وتأسر القلوب، ومن ثم تعلن البيوت حالة الطوارئ قبل شهر تقريبًا من قدوم هذا الضيف الكريم الذي يغسل الأفئدة والأرواح قبل الأجساد.
لكن يبدو أن الأمور لم تعد كما كانت في السابق، فها هو العيد يطرق الأبواب وإرهاصات إجهاض الفرحة به تلوح في الأفق، فبعيدًا عن الأجواء العامة التي ما عادت كما كانت، فهناك حزمة من القرارات والإجراءات المتخذة ساهمت بشكل كبير في تغيير ملامح الاحتفال بالعيد، وتنسف الكثير من طقوسه المعتادة، تلك التي ربما تفقد الإحساس به شكلاً ومضمونًا.
الأسعار والفرحة المنقوصة
الفرحة المنقوصة بالعيد بدأت مبكرًا مع قدوم رمضان، حين واجه المواطنون جنون أسعار السلع، الأمر الذي دفع كثيرًا منهم إما إلى الاكتفاء بالقليل أو العزوف عن الشراء، فيما اضطر آخرون للجوء إلى المنتجات رخيصة الثمن حتى إن كانت ذات جودة أقل من مثيلاتها.
وفي الأيام الأخيرة من الشهر التي تعد الموسم الأكثر رواجًا لشراء مستلزمات العيد لا سيما الملابس الجديدة، كانت الصدمة أكثر إيلامًا، فالأسعار هذا العام لم تعد في متناول محدودي أو متوسطي الدخل، رغم تراجعها نسبيًا عن الفترات السابقة، فإنها تجاوزت قدرات الشريحة الأكبر من المواطنين.
في تقرير قبل أيام لـ”نون بوست” كشف زيادة في أسعار منتجات العيد بنسب تتراوح بين 50 و200% الأمر الذي أدى إلى تراجع كبير في معدلات البيع والشراء بما يتجاوز 60% وفي بعض الأحيان 90% في أماكن أخرى، حسبما أفاد عدد من التجار ورجال الأعمال.
التقرير نقل عن أحد التجار زيادة كلفية استيراد الملابس بصورة جنونية بعد قرار تعويم الجنيه في 2016، لافتًا إلى أن الدولار الجمركي قبل التعويم كان 6 جنيهات تقريبًا، أما الآن فيتأرجح بين 16 و17 ما يعني زيادة قدرها 250% ما ينعكس بالطبع على أسعار الملابس المستوردة.
“لا يجوز شرعًا الافتئات على سلطة الدولة فيما ينظمه القانون، وأن صلاة العيد لا تنعقد في الشوارع والزوايا والمصليات ولا في الطرقات العامة، إنما تنعقد في الساحات والمساجد التي تحددها الجهة المنوط بها ذلك” وزارة الأوقاف المصرية
الزيادة الواضحة في الأسعار دفعت الكثيرين للبحث عن بدائل أرخص في الثمن، فكانت المنتجات الصينية البديل الأوفر حظًا، وهو ما انعكس بالفعل على حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي بلغ في 2018 قرابة 10 مليارات دولار، بزيادة بلغت 29.3% عن نفس الفترة من العام الماضي حسبما أكد هان بيينج المستشار التجاري الصيني بالقاهرة الذي أشار إلى أن حجم الواردات الصينية إلى مصر بلغ 8.7 مليار دولار بزيادة بلغت 28%، فيما بلغ حجم الصادرات المصرية إلى الصين 1.3 مليار دولار بزيادة بلغت 38%.
في السياق ذاته يعد الكعك والبسكويت أحد المظاهر الشعبية في العيد، التي يحرص عليها المصريون، ورغم ارتفاع أسعارها التي وصل في بعض المحال إلى أكثر من 6500 جنيه (390 دولارًا) للكيلو الواحد فإن كثيرًا من المواطنين حريصون على شرائها ولو بكميات قليلة كتقليد شعبي منذ عصر الفراعنة وحتى الآن.
ووفق ما ذهب إليه أحد التقارير فإن الأسر المصرية تسارع قبيل أيام العيد لشراء مثل هذه السلع من الأفران والمخابز والمحال المختلفة، حيث يتراوح استهلاك المصريين للكعك سنويًا ما يقرب من 70 ألف طن تقدر بنحو مليارين ونصف جنيه مصري (151 مليون دولار).
جدير بالذكر أن الزيادة في الأسعار لم تنحصر في مستلزمات العيد فقط، بل شملت معظم الخدمات التي يتمتع بها المصريون، آخرها تلك التي أعلنتها وزارة الكهرباء المصرية قبل أيام بخصوص زيادة في فواتير الاستخدام وفق شرائح الاستخدام بدءًا من يوليو القادم، هذا بخلاف ما يتردد بشأن زيادة أسعار الوقود والطاقة في إطار خطة الدولة لرفع الدعم نهائيًا خلال العام المقبل والمقدمة كشرط للحصول على قرض صندوق النقد الدولي.
ارتفاع كبير في أسعار الكعك
صلاة العيد.. بشروط
ربما يستطيع المصريون التحايل على الأسعار عبر البدائل، على أمل أن تكون طقوس العيد (المجانية) تعويضًا لهم عن تلك الفرحة المنقوصة، لكن يبدو أن هذا الأمر هو الآخر طالته أيادي التغيير، فصلاة العيد في العراء (الساحات) وعبر مكبرات الصوت العالية التي تهز أرجاء المنازل التي كانت واحدة من أبرز سمات العيد لم يعد مسموح بها إلا بضوابط.
وزارة الأوقاف المصرية أعلنت في بيان لها، الإثنين الماضي، أنه لا يجوز شرعًا الافتئات على سلطة الدولة فيما ينظمه القانون، وأن صلاة العيد لا تنعقد في الشوارع والزوايا والمصليات ولا في الطرقات العامة، إنما تنعقد في الساحات والمساجد التي تحددها الجهة المنوط بها ذلك.
الوزارة أشارت في تبريرها لهذا القرار أن إمامة الصلاة والجمع والأعياد من الولايات العامة التي لا يجوز شرعًا الافتئات فيها على جهة الولاية الشرعية المسند إليها الأمر من الدولة أو ولي الأمر، وفي البيان “بما أن وزارة الأوقاف هي المنوط بها هذا الشأن فإنها تؤكد عدم سماحها إقامة صلاة العيد خارج الساحات والمساجد التي حددتها مديريات الأوقاف ورفعتها إلى ديوان عام الوزارة، وأنها ستتعامل بكل حسم تجاه أي مخالفة، وكذلك مع من يمكن أي شخص غير مصرح له بالخطابة من الأوقاف من أداء خطبة العيد أو إمامة المصلين في صلاة العيد”.
وحتى تأخذ الأوقاف الموضوع على محمل الجدية فقد كلفت لجنة برئاسة الشيخ جابر طايع رئيس القطاع الديني وعضوية كل من الدكتور سيد عبدالباري وكيل الوزارة لشؤون الدعوة والدكتور نوح العيسوي وكيل الوزارة لشؤون المساجد والشيخ علاء شعلان وكيل الوزارة لشؤون الوجه البحري والشيخ أحمد عبد المنعم مدير عام التفتيش، بمتابعة كل ما يتصل بتنظيم صلاة العيد على أن تكون اللجنة في حالة انعقاد دائم من يوم إصدار البيان إلى انتهاء صلاة عيد الفطر.
أحمد سالم داعية مصري، يقول إنه لا يوجد نص شرعي يحرم الصلاة في الساحات، فأداء صلاة العيد في العراء سنة مستحبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأي أحد أن يتجرأ على المصطفى في تقنين سنته، خاصة أنها واحدة من أبرز السمات التي تميز العيد وفرحته.
الداعية المصري في حديثه لـ”نون بوست” لم ينكر ضرورة توفير الضمانات لأمن المسلمين، لكنه في الوقت ذاته استنكر توظيف هذا المبرر “على الفاضي والمليان” للتنغيص على الناس وحرمانهم من أداء صلاة العيد في أجواء روحانية جميلة، حيث تمتلئ الشوارع والطرقات والميادين العامة بالمصلين في مشاهد تغيظ الكافرين.
حسام الغمري البالغ من العمر 60 عامًا، يتساءل: كيف يمكن للعيد أن يكون دون صلاة في الساحات؟ وأي ضمانات تلك التي يطلبونها للسماح بإقامة الصلاة؟ وهل ستكون مراقبة من المتعاونين مع الأمن، سواء من الشيوخ أم المواطنين العاديين؟ مختتمًا أسئلته: ما الهدف من ذلك؟ مجيبًا على ذاته: يبدو أنهم مش عاوزين الناس تفرح حتى بصلاة العيد.
الستيني المصري في حديثه لـ”نون بوست” أكد أنه في بلدته بمحافظة الشرقية لن يلتزموا بمثل هذه التعليمات، مشيرًا أن الناس هناك تعد الأماكن المخصصة للصلاة كما الأعوام السابقة، ولن يجرؤ أحد على حرمان المسلمين هناك من أداء الصلاة مهما كان الثمن، وأيًا كانت العقوبة المتوقعة.
صلاة العيد
الترفيه ليس لمحدودي الدخل
من سمات المصريين في العيد تعدد منافذ الترفيه، من حدائق ومتنزهات ودور سينما ومسرح وملاهي وخلافه، حيث تكتسي حدائق المحروسة خلال أيام العيد بموجات من الأطفال والشباب بألوان ملابسهم الزاهية، فترسم لوحة فنية رائعة يفوح من بين ثناياها عطر البهجة والفرحة.
وأمام دور السينما فتقف الطوابير في انتظار أفلام معينة، تعد خصيصًا لموسم العيد، أغلبها مصبوغ بالطابع الكوميدي، كذلك أمام المسارح، لكن يبدو أن رفاهية الاختيار التي كان يتمتع بها المصريون في السابق فيما يتعلق بأماكن الترفيه المختارة لم تعد ملك يمينهم اليوم، فالخريطة تغيرت كثيرًا.
بعض الحدائق رفعت قيمة تذكرتها ثلاثة أضعاف تقريبًا، تحولت معها إلى ما يشبه القطاع الخاص التي تجاوزت في معظمها قدرات محدودي ومتوسطي الدخل، ما جعل زيارتها حلمًا يداعب الفقراء وإن كان بعيد المنال حتى في أوقات العيد
حتى الحدائق العامة كحديقة الحيوان والأورمان بالجيزة والأزهر بارك والفسطاط بالقاهرة وغيرها من الحدائق المملوكة لوزارة الزراعة المصرية، زادت أسعار تذاكرها خلال الفترة الأخيرة بنسب تتراوح بين 50 و300% وفق ما ذكر هاني بشري، الصحفي المتخصص في الملف الزراعي.
بشري لـ”نون بوست” كشف أنه في إطار سياسة التطوير التي تتبعها الوزارة خلال السنوات الماضية اضطرت إلى زيادة مواردها عبر رفع قيمة التذاكر ورسوم الخدمات، هذا بخلاف زيادة رسوم المحال المؤجرة الواقعة بداخل تلك الحدائق وهو ما انعكس بدوره على الكلفة العامة للزيارة.
الصحفي المتخصص في الملف الزراعي كشف أن بعض الحدائق رفعت قيمة تذكرتها ثلاثة أضعاف تقريبًا، تحولت معها إلى ما يشبه القطاع الخاص والتي تجاوزت في معظمها قدرات محدودي ومتوسطي الدخل، ما جعل زيارتها حلمًا يداعب الفقراء وإن كان بعيد المنال حتى في أوقات العيد.
عامر سعد محاسب مصري، يتساءل: لماذا لا تقدم الحكومة على تخفيض رسوم دخول الحدائق والمتنزهات التابعة للدولة في العيد كنوع من التخفيف عن المواطنين كما تفعل الدول الأخرى؟ مستنكرًا استغلال الحكومة فترات الأعياد لزيادة الأسعار وابتزاز المواطنين من أجل إنعاش خزائنها دون أي اعتبار لقدرات الشعب الذي يئن من الضغوط الاقتصادية.
المحاسب الذي يبلغ من العمر 55 عامًا يقول لـ”نون بوست”: “لدى 4 أطفال، الأكبر في الثانوية العامة والثاني والثالث في مرحلة الإعدادية، أما الطفلة الصغرى في المرحلة الابتدائية، هذا بجانب الزوجة التي تعمل ربة منزل، حين فكرنا في الخروج هذا العيد وجدنا أن الكلفة ربما تتجاوز نصف ميزانية الشهر بأكمله”.
وأضاف: “حسبناها أنا وزوجتي وجدنا أن ذهابنا لحديقة الأزهر بارك وتناول الغذاء هناك ثم الذهاب في المساء إلى كورنيش النيل للوقوف عليه قليلا وبعده التوجه إلى إحدى دور السينما يكلفنا تقريبا 1000 جنيه مع العلم أن راتبي لا يتجاوز 2500 جنيه، هذا بخلاف أجرة المواصلات والألعاب التي ربما تجبرني بنتي الصغرى على شرائها لها”.
هذا بعيدًا عن المتنزهات الأخرى التي يتجاوز سعر تذكرة دخول بعضها 500 جنيه وتبلغ تكلفة الوجبة الواحدة بداخلها قرابة 300 جنيه كما هو الحال في مول العرب ومول مصر ودريم بارك وكريزي ووتر ومثل هذه المناطق التي باتت حكرًا على ميسوري الحال وفقط.
زيادة أسعار تذاكر الحدائق والمتنزهات العامة
ولكن..
رغم كل تلك العقبات التي تنغص على الكثيرين فرحة العيد، فإن هناك من أصر على الاستمتاع وعدم السماح للآخرين باغتيال فرحته بهذا الموسم السنوي المبهج، إذ قرر البعض الاكتفاء بأقل المتاح والخروج للحدائق والمتنزهات رخيصة الثمن ومحاولة إضفاء جو عائلي مفرح مهما كانت الوسائل.
سعد كامل الشاب الثلاثيني من محافظة المنصورة، يؤكد أنه سيخرج لصلاة العيد كما هو المعتاد في الساحة المعروفة لأهالي بلدته دون الالتزام بقرار الأوقاف، مؤكدًا أن طقوس العيد لن تتغير مهما كانت الإجراءات التي وصفها بـ”المتعسفة” وتستهدف فرحة المصريين بالعيد.
وأضاف كامل لـ”نون بوست”: ليس شرطًا أن أذهب إلى متنزهات غالية الثمن، سأكتفي وزوجتي وطفلتي الصغرى بالذهاب إلى حديقة “شجرة الدر” بالمنصورة ونستمتع هناك بالمناظر الجميلة والخضرة اليانعة، إضافة إلى استخدام الملاهي الموجودة هناك، ورغم أنها ليست على المستوى المطلوب، إلا أنها ستفي بالغرض.
الأمر ذاته أكده سعيد لاشين الذي أشار إلى أنه لن يسمح لأحد بإفساد فرحة العيد، قائلاً: مش كفاية الأسعار والأحوال المعيشية الصعبة طول السنة، جايين على العيد وعاوزين يفسدوه علينا.. لن نسمح بذلك وسنخرج ونستمتع ولو بأقل الإمكانات.
لاشين لـ”نون بوست” أضاف أن المصريين بطبيعتهم شعب متدين صبور، يستطيع العيش بأقل القليل، مشيرًا أنه في رمضان ورغم التضييق الواضح ابتداءً بعدم أداء صلاة التراويح بمكبرات الصوت أو في الساحات، فإن الكثير لم يلتزم خاصة في القرى والأقاليم، فالشعب لن يترك أحد يحدد له كيفية الاحتقال بالعيد، متخلصًا من طقوس وعادات موروثة منذ آلاف السنين.