بينما تواصل إدارة العمليات العسكرية السورية بقيادة أحمد الشرع، ترتيب البيت الداخلي وإنهاء تعيين الوزراء في حكومة تصريف الأعمال وإكمال مشهد الإدارة التي تقود المرحلة المقبلة، لا يزال الجزء الأكثر حيوية من البلاد خارج سيطرتها تمامًا.
وتشكّل تسمية وزير للدفاع مؤخرًا التطور الأهم في حكومة تصريف الأعمال السورية، لأنها تُعدّ مقدمة لحلّ جميع الفصائل تحت إمرة هذه الوزارة، وفي هذه الحالة يكون وجود قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في منطقة شرق الفرات وبعض المناطق غربه، حالة شاذةً في المشهد الجديد الذي يحمل عنوان “سوريا الموحدة”.
ولطالما كانت فرضية “تقسيم سوريا” هاجسًا لدى بعض الدول الإقليمية والعربية والغربية، في ظل الوضع الذي كان قائمًا قبل سقوط الأسد، ووجود عدة قوى خارجية يدير كل منها مناطق نفوذ، فالقوات الأمريكية تدعم “قسد” في الاستحواذ على مناطق شمال شرق سوريا، ويقع الشمال الغربي تحت النفوذ التركي الداعم للجيش الوطني، بينما تخضع بقية البلاد بالتقاسم بين إيران وروسيا.
هواجس التقسيم
مع سيطرة المعارضة السورية على العاصمة دمشق وتحرير جميع المحافظات الواقعة وسط وغرب البلاد، تفكّك تلقائيًا الوجود الروسي والإيراني، بينما كانت تركيا تعهّدت في أكثر من مناسبة بأنها ستغادر سوريا في حال تشكيل دستور جديد واستقرار الأوضاع، لتبقى المشكلة الراهنة هي المناطق التي لا تزال تحت سيطرة “قسد”، والتي تحوي كبرى حقول النفط والغاز والثروات في سوريا.
تشكلت قوات سوريا الديمقراطية في العام 2015، من تحالف فصائل تحظى بدعم أمريكي في محاربة تنظيم “داعش”، غير أن المكون الكردي هو المسيطر عليها، مع هيمنة إدارية وعسكرية لكوادر من حزب العمال الكردستاني، المصنف على قوائم الإرهاب التركية والأمريكية والأوروبية.
وبعد انطلاق المعارك في عموم سوريا ضد تنظيم “داعش”، شكّل نهر الفرات حدًّا جغرافيًا فاصلًا بين مناطق سيطرة “قسد” ومناطق نفوذ نظام الأسد المخلوع في شرق البلاد، فيما بات يُعرف إعلاميًا بـ”مناطق شرق الفرات”، التي تعني مناطق الجزيرة السورية التي تشمل محافظة الحسكة ونصف محافظتَي الرقة ودير الزور، ومناطق غرب الفرات (الشامية)، التي تمتد من محافظتي الرقة ودير الزور نحو عمق البادية السورية.
وبالعودة إلى هواجس “التقسيم”، يتخوف سوريون اليوم من أن تواصل “قسد” حالة التمرد على حكومة دمشق الجديدة، وترفض حل نفسها وتسليم مناطقها، مدعومة بوجود الجيش الأمريكي من جهة، وفزاعة تنظيم “داعش” من جهة ثانية.
تشير التقارير الواردة من الإعلام العبري إلى أن مسؤولين كبارًا في ميليشيا “قسد” طلبوا المساعدة من “إسرائيل” بشكل عاجل، بسبب شعورهم بتهديد مستقبل “الحكم الذاتي” الذي يحاولون الوصول إليه شمال شرق سوريا، وبحسب صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية، فإن الحوار كان موجودًا بين “قسد” و“إسرائيل”، لكنه بات أقوى بعد سقوط نظام المخلوع بشار الأسد.
ويدعم ذلك ما نقله موقع “ميدل إيست آي” عن مصادر أمنية إقليمية مطلعة، قالت إن الإطاحة بحكومة بشار الأسد أفشلت خطة إسرائيلية لتقسيم سوريا إلى 3 كتل بهدف قطع علاقاتها مع إيران و”حزب الله”. وتضمنت الخطة الإسرائيلية إقامة شراكات استراتيجية مع الأكراد في الشمال الشرقي والدروز في الجنوب، مع بقاء الأسد في دمشق تحت سيطرة ودعم مالي إماراتي.
ثوابت سورية تركية
أكد أحمد الشرع، قائد الإدارة السورية الجديدة، منذ أول يوم أعقب سقوط الأسد، أن “قسد” يجب أن تدخل في نطاق حكومته، عبر التفاهم أو من خلال القتال، وتعهّد أمام وزير الخارجية التركي في دمشق بأنه لن يقبل بأي سلاح خارج نطاق الدولة، بما فيه سلاح الفصائل الثورية، وذلك الذي يوجد تحت سيطرة “قسد”، ودعا لإنهاء هذا الملف “بأقصى سرعة ممكنة”، وهو الموقف نفسه الذي أعلنته وزارة الدفاع التركية، التي أكدت أن الإدارة الجديدة في دمشق ستحرر المناطق التي تحتلها “قسد” شمال سوريا، مشددةً على أن أنقرة لا تفاوض “أي منظمة إرهابية”.
ونقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول بوزارة الدفاع التركية قوله إن بلاده ستواصل “استعداداتها حتى تتخلى المليشيات الكردية عن أسلحتها شمال سوريا، لأن التهديد الذي نواجهه من هناك مستمر”، وأكد أنه لا يوجد اتفاق لوقف إطلاق النار مع “قسد”.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اعتبر بدوره أن ملف وجود “قسد” في سوريا محسوم، وأن “صلاحية تنظيم بي كي كي الإرهابي وأذرعه انتهت، لأن بيئة الأمن التي ستنشأ بسوريا ستمنع التنظيمات الإرهابية من تجنيد مزيد من العناصر”، وأضاف في حديثه للصحفيين، الخميس الفائت، على متن الطائرة أثناء عودته من مصر: “سنثبت أن وقت تحييد التنظيمات الإرهابية في سوريا قد حان، حتى لا يطالنا أي تهديد من حدودنا الجنوبية”.
وتشير التصريحات التركية إلى أن ملف إنهاء كيان “قسد” في شمال شرق سوريا لا يشكل أهمية عند الإدارة السورية فقط، إنما هو هاجس أمني تركي، من المرجح أن تضعه أنقرة في أولوية مهامها في مرحلة ما بعد إسقاط الأسد.
وفي الوقت الذي تحاول فيه “قسد” إقناع تركيا بأن عناصر حزب العمال الموجودين في صفوفها سيغادرون سوريا، فهي تعمل في عدة اتجاهات في محاولة لشراء المزيد من الوقت، ولعلّ ملف محاربة “داعش” والحفاظ على السجون التي تديرها لعناصره السابقين، يبدو هو الورقة المفضلة لدى تلك الميليشيات.
ويَعتبر طه عودة أوغلو، الباحث بالعلاقات الدولية، أن إقرار “قسد” بوجود حزب العمال الكردستاني في سوريا، هو بمثابة إحراج كبير للجانب الأمريكي، الذي كان ينفي طيلة السنوات الماضية هذا الأمر، كما يؤكد مخاوف تركيا بخصوص أمنها القومي، لأن هذا التنظيم مسؤول عن سلسلة من الهجمات الدامية في الداخل التركي، ولذلك إن أنقرة “لن تتناول عن ثوابتها بشأن نزع سلاح ميليشيات “قسد” في الأراضي السورية”.
موقف أمريكي جديد
وحذّرت “الإدارة الذاتية” الكردية لشمال وشرق سوريا، يوم الجمعة الفائت، أن تؤدي الهجمات التي يمكن أن تشنّها الفصائل السورية على المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلى وصول عناصر تنظيم “داعش” إلى السجون التي تحتضن قادة التنظيم ومسلحيه.
وقال مدير مركز إعلام “وحدات حماية الشعب”، سيامند علي، لموقع “الحرة”: “تحتضن المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية 27 سجنًا، تضمّ ما بين 10 إلى 12 ألف معتقل من أخطر عناصر تنظيم داعش”.
وفي الوقت نفسه، تواصل “قسد” إرسال وفود سياسية من جهتها إلى دمشق، لـ”الحوار” حول مصير مناطق شرق الفرات، لكن تصريحات أمريكية وألمانية صدرت مؤخرًا، ربما تدفع قادة “قسد” إلى اختيار “الحل السلمي” في إخضاع مناطقهم لسيطرة الحكومة السورية الجديدة، وتجنيب تلك المناطق مزيدًا من المعارك والدماء.
وفي هذا السياق، يقول عودة أوغلو لـ”نون بوست”، إن “قسد” تحاول عبر تصريحات الحوار واستخدام فزاعة “داعش”، شراء المزيد من الوقت لتجاوز عهد الرئيس الأمريكي الحالي بايدن، ووصول ترامب للبيت الأبيض في الشهر القادم.
ويشير إلى أن الموقف الأمريكي الحالي لا يزال يتّسم بالتذبذب حول مصير “قسد”، “بينما سيكون الوضع مختلفًا مع مجيء إدارة ترامب، التي سيكون لها مقاربة مختلفة قائمة على إرضاء الجانب التركي من جهة، والوضع الميداني الجديد في سوريا من جهة ثانية”.
ولعلّ التصريح الأبرز من إدارة ترامب كان على لسان باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، خلال لقائها الأخير بأحمد الشرع في دمشق، إذ قالت إن “الظروف التي دفعت الأكراد في شمال شرق سوريا إلى الدفاع عن أنفسهم تغيرت بشكل كبير للغاية، وإن الانتقال المنظم لدور “قسد” أفضل السبل للمضيّ قدمًا”.
فيما أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، بعد محادثات أجرتها في أنقرة مع نظيرها التركي هاكان فيدان، أنه “يتعين” نزع سلاح الجماعات الكردية المسلحة في سوريا وضمّها إلى القوات الأمنية للحكومة الجديدة بالبلاد.
وبالمقابل، كان رأي إدارة ترامب القادمة أكثر وضوحًا، إذ أكّد مايكل والتز، مرشح الرئيس الأمريكي المنتخب لمنصب مستشار الأمن القومي، ضرورة ألا يكون الجنود الأمريكيون في سوريا، معتبرًا أن سياسة ترامب بشأن الشرق الأوسط في أثناء ولايته السابقة كانت “صحيحة”، وأنه “محق تمامًا” بشأن عدم جرّ الولايات المتحدة إلى حروب في الشرق الأوسط.
كل هذه العوامل السابقة أدّت إلى تبدُّل واضح في لهجة قائد “قسد” مظلوم عبدي، الذي صرّح أن قواته لم تطالب بحكم فيدرالي في سوريا، بل تريد أن تكون جزءًا من دولة سورية مركزية دون تقسيم.
وأكد في مقابلة مع تلفزيون “فرانس 24″، على الرغبة في أن تكون قواته جزءًا من جيش وطني سوري في حال تشكيله، مضيفًا: “نحن مستعدون لبحث ذلك الأمر مع الحكومة الجديدة في دمشق”.
ويعتقد طه أوغلو أن تركيا تريد في الوقت الحالي إتاحة المجال أمام ميليشيات لحلّ ملف وجودها بشكل سلمي، بغية عدم اندلاع معارك جديدة في سوريا، ويشدّد على أن البديل لن يكون بالتأكيد سوى “حل عسكري” لن تكون تلك الميليشيات قادرة على مواجهته، لا سيما في ظل الرفض الشعبي لوجودها في مناطق سيطرتها، واعتبار الأهالي وجودها “احتلالًا” صريحًا.
ختامًا.. تجد سوريا نفسها أمام تحديات كبرى تتعلق بتوحيد البلاد وضمان استقرارها، حيث يشكّل وجود “قسد” في مناطق غنية بالموارد شرقي الفرات أحد أبرز العقبات أمام تحقيق هذا الهدف، وفي حين تسعى الإدارة الجديدة إلى توحيد جميع القوى تحت مظلة الدولة وإزالة أي مظاهر للتقسيم، تتزايد الضغوط الإقليمية والدولية، خصوصًا من تركيا التي تصر على إنهاء تهديد “قسد”.