ترجمة وتحرير: نون بوست
القلق على سلامة أفراد العائلة الذين يخدمون في الجيش هو جزء من حياة العائلة في إسرائيل؛ مثل أقراني، كنت أبًا قلقًا عندما خدم أبنائي في الجيش الإسرائيلي، وأنا الآن جدٌ أكثر قلقًا. إنني أشعر بالرعب من القتل الجماعي للمدنيين في غزة ومنزعج من تأثير هذه الوحشية على صحة الجنود النفسية، فجنودنا مهددون بسبب الخطاب التحريضي للحكومة وضعف نظامي القضاء المدني والعسكري. وهذه السياسات تقوض مدونة سلوك الجيش الإسرائيلي، وتدعم الفظائع، وتزيد من خطر الإصابة بالضرر الأخلاقي.
يحدث الضرر الأخلاقي عندما يتصرف الجنود ضد قيمهم ومعتقداتهم الأخلاقية أو يشاركون كمراقبين، ويعاني أولئك المصابون بهذا الضرر من الشعور بالذنب والعار، وهم عرضة للاكتئاب والقلق والدوافع الانتحارية. ويوفر الجيش الإسرائيلي علاجًا مكثفًا لمدة شهر للجنود المصابين بالصدمات النفسية، وبعضهم ممن تعرضوا للضرر الأخلاقي، في مراكز إعادة التأهيل الخلفي. وبعد ذلك؛ يتم تسريح نصف هؤلاء الجنود باعتبارهم غير مؤهلين للخدمة العسكرية.
وينظر المجتمع الإسرائيلي إلى الجيش الإسرائيلي على أنه جيش أخلاقي، ويثير الحديث عن الفظائع مقاومة عاطفية على الرغم من أنه من المفهوم فكريًا أن الجرائم موجودة في كل مجتمع متحضر وأن جرائم الحرب ارتكبها جنود في كل جيش. وحدد علماء النفس التنموي سمات قسوة القلب لدى الأطفال الصغار؛ بينما أثبت علماء النفس الاجتماعي أن التوجيهات السلطوية والضغط الاجتماعي يقودان الأشخاص العاديين إلى سلوك مؤذي.
ومع ذلك، من الصعب مواجهة عنف الجنود القساة ووحشية الجنود العاديين. لذلك لا أشعر بالاطمئنان عندما يقول لي حفيدي: “لا تقلق، يا جدي، سأرفض أي أمر غير قانوني”.
أريد أن أحميه هو والآخرين جميعًا ممن يخاطرون بأجسادهم وعقولهم عندما يخدمون في الجيش الإسرائيلي، وأريدهم أن يعرفوا مدى صعوبة أن يقفوا في وجه قائد قاسٍ وأن يقاوموا ضغط الأقران الذي يشجع على الوحشية، وأريدهم أن يعرفوا عن المنحدر الزلق للتوحش وأن يتعلموا عن المعضلات الأخلاقية التي سيواجهونها أثناء الحرب، وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال بصفتي جدًّا وبصفتي عالم نفس درس تجربة الجنود مع الوحشية.
كانت نوبهار إيشاي كرين ضابطة الرعاية الاجتماعية لكتيبتيْ مشاة ميكانيكية كانتا متمركزتيْن في جنوب قطاع غزة خلال الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وتحدثتْ مع الجنود وفتحوا لها قلوبهم. وبعد أربع سنوات؛ أشرفتُ على دراستها البحثية في مرحلة الدراسات العليا حول وحشية الكتيبتين. واستخدمت المقابلات السرية لاستكشاف الانحراف الأخلاقي والوحشية والمشاكل النفسية المترتبة على ذلك. ونُشرت مقالتنا العلمية لاحقًا كأول فصل في كتاب محرر بعنوان “لطخة من غيمة خفيفة: الجنود والجيش والمجتمع الإسرائيلي في الانتفاضة” في سنة 2012.
عكست الفصول اللاحقة بحثنا وتوسعت فيه، وكتبها مجموعة متعددة التخصصات من الباحثين في مجالات الصحة النفسية وعلم الاجتماع والقانون والعلوم السياسية والإعلام والفلسفة، وكان هناك أيضًا كتّاب وفنانون وضباط متقاعدون ذوي الرتب العالية في الجيش.
لقد حددنا خمس مجموعات من الجنود بناءً على السمات الشخصية. 1. مجموعة صغيرة تتكون من جنود قساة القلب، وقد اعترف بعضهم بممارسة العنف قبل التجنيد. وارتكب هؤلاء الجنود معظم الفظائع الشديدة. وكانت القوة التي حصلوا عليها في الجيش مغرية: “إنها مثل المخدرات… تشعر وكأن أنت القانون، أنت من يضع القوانين. كما لو أنه منذ اللحظة التي تغادر فيها المكان المسمى إسرائيل وتدخل إلى قطاع غزة، تصبح أنت الله”؛ كانوا ينظرون إلى الوحشية كتعبير عن القوة والرجولة.
ويقول أحدهم: “ليس لدي مشكلة مع النساء. لقد رمتني إحداهن بنعلها، فركلتها هنا (مشيرًا إلى العانة)، وكسرت كل شيء هنا، ولا يمكنها الإنجاب اليوم”
أطلق “إكس” النار على عربي؛ حيث أصابه بأربع رصاصات في ظهره، وأفلت من العقاب بدعوى الدفاع عن النفس، ويقول: “لقد كانت أربع رصاصات في الظهر من مسافة عشرة أمتار جريمة قتل بدم بارد. وكنا نفعل أشياء كهذه كل يوم”.
ويضيف: “كان هناك عربي يسير في الشارع، يبلغ من العمر نحو 25 سنة، ولم يلق حجرًا، ولم يفعل شيئًا. وفجأة، أطلقوا عليه رصاصة في بطنه، وكان يحتضر على الرصيف، ثم ابتعدنا بالسيارة بلا مبالاة”.
وكان هؤلاء الجنود بلا رحمة ولم يَبلغوا عن إصابتهم بإصابة نفسية أخلاقية، وقد تم إدانة بعضهم من قبل المحاكم العسكرية، وشعروا بالمرارة والخيانة.
2. كانت هناك مجموعة صغيرة عنيفة من الناحية الأيديولوجية تدعم الوحشية دون أن تشارك فيها. وكانوا يؤمنون بتفوق اليهود ويظهرون ازدراء تجاه العرب، ولم يتم الإبلاغ عن إصابات نفسية أخلاقية في هذه المجموعة.
3. كانت هناك مجموعة صغيرة نزيهة تعارض تأثير المجموعات القاسية والأيديولوجية على ثقافة الكتيبة. في البداية تم ترهيبهم من قبل القادة الوحشين، ثم اتخذوا موقفًا أخلاقيًا في وقت لاحق، ومضوا في الإبلاغ عن الفظائع التي ارتكبوها إلى قائد اللواء. وبعد تسريحهم من الخدمة؛ اعتبر معظمهم أن خدمتهم كانت ذات مغزى ومعززة. ومع ذلك؛ تعرض أحد المبلغين عن الفظائع لمضايقات والإقصاء الشديد، وكان من الضروري نقله إلى وحدة أخرى، ولقد أصيب بالصدمة والاكتئاب وغادر البلاد بعد تسريحه.
4. تألفت مجموعة كبيرة من الأتباع من جنود لم يكن لديهم ميول سابقة نحو العنف، وتأثرت سلوكياتهم بشكل كبير بتقليد الضباط الصغار وأعراف الكتيبة. وأبلغ بعض الأتباع الذين ارتكبوا الفظائع عن إصابات نفسية أخلاقية، حيث يقول أحدهم: “شعرتُ وكأنني مثل النازيين… وبدا الأمر وكأننا نحن النازيون وهم اليهود”.
5. كانت المجموعة المقيّدة تتكون من جنود كثر ذوي توجيه داخلي، الذين حافظوا على الأعراف العسكرية ولم يرتكبوا الفظائع. لقد استجابوا للعنف الفلسطيني والمواقف التي تهدد حياتهم بطرق متوازنة ومبررة قانونيًا، ولم يُبلّغوا عن إصابات نفسية أخلاقية.
وفي كل من الكتائب، تطورت ثقافة داخلية تأثرت بشكل كبير بالضباط الصغار والجنود ذوي الكاريزما. وفي البداية، كانت الأعراف تحرض على ارتكاب الفظائع.
يقول أحدهم: “جاء قائد جديد إلينا. وخرجنا معه في أول دورية في السادسة صباحًا، لقد توقف؛ حيث لم يكن هناك أحد في الشوارع، وكان هناك فقط طفل صغير يبلغ من العمر أربع سنوات يلعب في الرمال في فناء منزله. فجأة بدأ القائد في الجري، وأمسك بالطفل، وكسر ذراعه من المرفق وساقه من هنا. وداس على بطنه ثلاث مرات وغادر. وقفنا جميعًا هناك وأفواهنا مفتوحة من الذهول. ونظرنا إليه في حالة من الصدمة … سألتُ القائد: “ما قصتك؟” قال لي: “يجب قتل هؤلاء الأطفال منذ اليوم الذي يولدون فيه”. عندما يفعل القائد ذلك، يصبح الأمر مشروعًا”.
أدى التدخل القوي من قائد اللواء إلى تغيير مكان كتيبتيْ المشاة، وبعد التقرير الذي قدمه الجنود النزهاء، بدأ القائد تحقيقًا أسفر عن إدانات. بالإضافة إلى ذلك، تم تعيين اثنين من الجنود النزهاء لتدريب الضباط. وعندما عادوا إلى الكتائب كضباط، راقبوا الجنود عن كثب، وفرضوا انضباطًا صارمًا، وعززوا ثقافة داخلية كانت متوافقة مع مدونة قواعد سلوك الجيش الإسرائيلي.
وهناك الكثير من الأدلة على جرائم الحرب المزعومة في الحرب الحالية وهي متاحة بسهولة. وقد قام لي موردخاي، المؤرخ الإسرائيلي، بجمع البيانات وتصنيفها وتحديثها بانتظام. وتشمل البيانات تقارير من مؤسسات مرموقة مثل الأمم المتحدة، وتقارير من وسائل الإعلام الرئيسية، بالإضافة إلى الصور ومقاطع الفيديو التي تم تحميلها على وسائل التواصل الاجتماعي.
وهناك توثيق لإطلاق النار على المدنيين الذين يلوحون بالرايات البيضاء، والتنكيل بالأسرى والجثث، وحرق المنازل دون موافقة قانونية، والتدمير الانتقامي للممتلكات، والنهب. بالإضافة إلى ذلك، يجد موردخاي أن “عددًا ضئيلًا جدًا من التحقيقات” قد تم فتحها “مقارنةً بالأدلة على الجرائم المرتكبة.”
وأظهرت دراستي للبيانات تصنيفًا مشابهًا للجنود مع بعض الاختلافات الهامة. وأبرز ما لاحظته هو أن مجموعات الجنود القساة والعنيفين إيديولوجيًا تبدو أكبر حجمًا وأكثر تطرفًا، حيث يعبرون عن أيديولوجياتهم متجاهلين أعراف الجيش الإسرائيلي ونظام العدالة الضعيف.
وتوضح الكلمات التأبينية التي ألقيت في جنازة شوفائيل بن ناتان، جندي الاحتياط الذي قُتل في لبنان، هذا التحول. فقد أشار أحد المتحدثين إلى قتل بن ناتان لفلسطيني يبلغ من العمر 40 سنة كان يقطف الزيتون مع أطفاله في الضفة الغربية. وروى أفراد وحدته العسكرية كيف رفع معنوياته في غزة بإضرام النار في أحد المنازل دون موافقة. وأعلنوا التزامهم بمواصلة عمليات الحرق والانتقام في غزة ولبنان والسامرة (الضفة الغربية).
ومع تزايد تأثير الجنود القساة والعنيفين أيديولوجيًا في الجيش الإسرائيلي، يتم تهميش الجنود النزهاء. وقد أعلن ماكس كريش، جندي احتياطي، معارضته للمشاركة في جرائم ضد الإنسانية مثل “تسوية غزة بالأرض”. وكانت النتيجة النبذ الاجتماعي الشديد؛ حيث يقول: “لقد طردوني من فريقي، وأوضحوا أنهم لا يريدونني”، وعاد من الخدمة الاحتياطية وهو يشعر بأنه “محطم نفسيًا”.
ويشبه سدي تيمان، وهو مركز احتجاز، نموذجًا مصغرًا للوحشية في الحرب الحالية، فقد أصبح هذا المكان سيئ السمعة عندما أبلغ طبيب مخضرم نزيه عن علامات تعرض أحد المحتجزين لاعتداء جنسي شديد. بعد ذلك، تم احتجاز تسعة جنود احتياطيين من الجيش الإسرائيلي للاشتباه في ارتكابهم جريمة اغتصاب الفلسطينيين العنيف وأشكال أخرى من الانتهاكات.
ووفقًا للتقارير الإعلامية، هناك 36 تحقيقًا بشأن وفيات المعتقلين الذين كانوا محتجزين في “سدي تيمان” منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. وتشير شهادات الفلسطينيين الذين تم إطلاق سراحهم والتي جمعها مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان “بتسيلم” إلى استخدام العنف التعسفي القاسي بشكل متكرر، والإهانة والإذلال، والتجويع المتعمد وغيرها من الممارسات التعسفية. وقد أعرب الجنود دون الكشف عن هويتهم عن كيف أن خطاب الكراهية والانتقام قد جعل التنكيل بالمعتقلين أمرًا طبيعيًا.
ووصف أحد الطلاب المقيدين في الاحتياط التعذيب وتأثيره على الأتباع، قائلًا: “رأيت أشخاصًا ساديين هناك، وأشخاصًا يستمتعون بتسبُّب المعاناة للآخرين…. وكان أكثر ما يزعجني هو رؤية مدى سهولة وسرعة انفصال الأشخاص العاديين عن أنفسهم وعدم رؤيتهم للواقع أمام أعينهم عندما يكونون في موقف إنساني صعب وصادم”.
وبالمثل، صرح طبيب احتياطي قائلاً: “هنا يحدث تجريد كامل من الإنسانية. أنت لا تعامِلهم كما لو أنهم بشر… وبالنظر إلى الوراء، فإن أصعب شيء بالنسبة لي هو ما شعرت به، أو في الواقع ما لم أشعر به عندما كنت هناك. ما يزعجني أن ذلك لم يشعرني بالإزعاج. وهناك تطبيع للعملية، وفي مرحلة ما، يتوقف الأمر عن الإزعاج”.
وقالت مجندة احتياطية من فئة “المقيدين” والتي حافظت على معاييرها: “لقد أخافني التجريد من الإنسانية. وكانت مواجهة مثل هذه المواقف الخطيرة، التي أصبحت أكثر تقبلاً في مجتمعنا، كان مؤلمًا بالنسبة لي… لقد قمت بتسريح نفسي من الخدمة الاحتياطية بمساعدة طبيب نفسي”.
ويجب النظر إلى سجن سدي تيمان وجرائم الحرب في غزة ضمن السياق الأوسع. فقد دخلت إسرائيل في الحرب بعد القتل الجماعي للمدنيين على يد حماس وكشف نواياها بشأن الإبادة الجماعية. وبعد ذلك بوقت قصير، هاجم حزب الله الذي كان يعد البنية التحتية لقتل جماعي موازٍ في الشمال، سكاننا المدنيين. لقد تم تسليحهم وانضمت إليهم إيران التي كانت تصرح علنًا بنيتها إبادة دولة إسرائيل واستكمال “الحل النهائي” لليهود الإسرائيليين.
لقد شعرنا بالضعف والعجز ونحن نعيش ذكريات المحرقة مرة أخرى، وكنا بحاجة للدفاع عن أنفسنا ضد التهديدات الحقيقية لوجودنا. كما كانت هناك مشاعر مظلمة من الغضب والانتقام، دون أي تعاطف مع أهل غزة الذين فرحوا بمجزرة النساء والأطفال اليهود.
لقد خاض أبناؤنا وأحفادنا وأزواجنا وزوجاتنا هذه الحرب بشجاعة، وخاطروا بحياتهم بصحبة رفاقهم الذين يعكسون ما كان له قيمة ومعنى في بلادنا. لقد كان من واجب حكومتنا وقيادتنا العليا أن تقود جنودنا في المعركة، وأن تهيئهم بدنيًا وذهنيًا وأخلاقيًا لمواجهة التحديات الخاصة لهذه الحرب، ولقد كنا بحاجة إلى قادة يساعدوننا على مواجهة ظلامنا بشجاعة ويمنعوننا من الانتقام بشكل قاطع.
وكتب اللواء (احتياط) يعقوب عميدرور في كتاب “بقعة من سحابة خفيفة”: “الحرب شيء قاسٍ. إن السؤال الحقيقي هو: كيف يمكن توجيه القسوة إلى أولئك الذين يريدون إيذاءنا، وليس إلى الآخرين الذين تصادف وجودهم في المنطقة.”
وفي هذا السياق، أدى خطاب حكومتنا القائم على الكراهية والانتقام، والذي عززه إصرارها على تقويض النظام القضائي، إلى الإفراط في الانتقام والقتل الجماعي للمدنيين في غزة. وقد وفر ذلك دعمًا للأفعال الوحشية التي ارتكبها الجنود القساة والعنيفون عقائديًا، وزادت من نفوذهم على الأتباع، وهمشت النزهاء.
وفي هذه الوضعية الصعبة؛ تتحمل القيادة العليا مسؤولية الحفاظ على القيم المدرجة في مدونة الأخلاقيات للجيش الإسرائيلي، بما في ذلك طهارة السلاح والانضباط، التي تنص على: “لن يستخدم جنود الجيش الإسرائيلي سلاحهم أو قوتهم لإلحاق الأذى بالمدنيين أو الأسرى غير المتورطين”، و”سيحرص الجندي على أنه لا يصدرأوامر قانونية فقط، ولا ينفذ غير قانونية”، ومن خلال التمسك بهذه القيم، يمكنهم منع الاعتداء على الأبرياء وحماية روح جنودنا.
علينا – نحن المواطنين الذين نرسل أبناءنا وأزواجنا وأحفادنا إلى الخدمة العسكرية – أن نجد سبل المقاومة، فنحن ملزمون بأن نتكلم بوضوح من أجل إبقاء حدود لقسوة الحرب، ومن أجل التمسك بميثاقنا الأخلاقي، وحماية الجنود من الإصابة بالضرر المعنوي وعواقبه على المدى الطويل.
المصدر: هآرتس