يخيل إليك وأنت تقلب اللباس القطني الأزرق النيلي في أحد دكاكين أسواق المدينة العتيقة بالعاصمة، بعد أن يتردد إلى مسامعك مدى تعلق التونسيين به طيلة ما يقرب قرن من الزمن، أنه لباس تقليدي توارثه أهل البلد جيلًا بعد جيل، محفوظ في الذاكرة الجمعية كـ”البرنس” و”القشابية” و”الشاشية” وأنواع أخرى من الملابس التي اشتهر بها الأولون في إفريقية، ولكن كثيرًا من التونسيين أنفسهم يجهلون أن “الدنقري” لباس وافد.
يعود ظهور اللباس الأزرق في تونس إلى فترة الاستعمار الفرنسي، ولكن ثبت أنه صيني المنشأ وتحديدًا من بلدة تينغري (Tingri) بمقاطعة التبت، وكانت المنطقة مركزًا عسكريًا إستراتيجيًا قبل أن تكون نقطة إمداد رئيسية حيث تتبادل منطقة شيرباس في نيبال الأرز والحبوب والحديد بالصوف والملح.
راج اللباس خلال الثورة الصينية التي قام بها الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ في العشرينيات من القرن الـ20 ضد الحكم الإمبراطوري، وهو يرمز للتفاني والانضباط في العمل “من أجل الصين الشعبية الاشتراكية العظمى”، ما يعني أنه وافد من الثقافة “الماوية”، لينتقل “الدنقري” إلى العالم عبر أوروبا الشيوعية، ووصل إلى تونس خلال الاستعمار الفرنسي وضمن أطر التجارة وتبادل السلع مع الصين.
الدنقري التونسي
انتشر الدنقري خاصة في الحاضرة أو ما يسمى بـ”الربط” الحلفاوين والقصبة وهي أحياء مشهورة في المدينة العتيقة التونسية في أواخر الخمسينيات وكذلك في الستينيات والسبعينيات، بين أوساط الفتوات “الباندية” والبحارة وبائعي الخضر، وحتى مشاهير الفن الشعبي “المزود” من أمثال صالح الفرزيط.
ومن المعروفين بلباسهم الأزرق أيضًا، مربو “الأكباش” أو كما يحلو للتونسيين مناداتهم بـ”المغرمة” وتعني المغرومين والشغوفين، وتجدهم في ميادين وساحات المصارعة، أو في غرف ومستودعات منعزلة للغرض بأحد أزقة المدينة العتيقة، يجلسون على مقربة من أكباشهم “الفرناني” نسبة إلى مدينة فرنانة الحدودية مع الجزائر، و”الغربي” يرجع إلى مناطق الشمال والجنوب الغربي للبلاد.
ومعلوم لدى التونسيين أن اللباس الأزرق يخفت ويظهر من حين لآخر لكنه لا يموت، له عشاقه وأناسه الأوفياء يلبسونه وإن تغير لونه من قيظ الشمس ولهيبها، أو من كثرة ارتدائه وتعدد مرات غسيله، لكن مؤخرًا رصد إقبال كبير على الدنقري بكل ألوانه مع التركيز على الأزرق طبعًا، من الشباب فتيان وفتيات.
مسلسل “شورب”
تزامن عودة اللباس الأزرق مع عرض التليفزيون الخاص “التاسعة” لمسلسل “شورب” بجزئيه (1و2)، حيث يظهر البطل “شورب” (الممثل لطفي العبدلي) طيلة العمل مرتديًا جمازًا أزرق اللون “الدنقري”، إضافة إلى “الشاشية” الحمراء التقليدية و”الزنار” الذي يعرف في المشرق باسم الكوفية الفلسطينية.
وتدور أحداث العمل الدرامي حول شخصية (علي بن البشير الصغير 1930-1972)، أشهر المساجين الذين عرفتهم تونس بتأثيرهم على الذاكرة الجمعية ورمزيته لدى عامة الناس، عبر تناقل بطولاته وشهامته، ووصف معاركه وصولاته وجولاته، وكيف ينتصر للفقير، مجرم لا يظلم ولا يظلم أحد في حضرته، وهو أيضًا عربيد وبلطجي مصنف في خانة “الصعاليك الشرفاء”.
شخصية “شورب” شغلت معاصريه في تلك الفترة لما تحمله من تناقضات، فهو صعلوك لا يهاب “جدارمية الفرنسيس” (البوليس الفرنسي زمن الاستعمار) ومقدام في مواجهة خصومه ومنافسيه، ولكن تلك الهامة والبنية الجسدية القوية أيضًا، تنحني خوفًا أمام قدمي أمه حين تنهره وتأمره بكف أذاه عن الناس، فيذوب كالملح ويدخل المنزل باكيًا طائعًا.
صورة “الباندي” و”القبضاي” في المسلسل كما الواقع اقترنت باللباس الأزرق و”الزنار”، لتشكل ثنائية القوة والفتوة التي يرمز إليها الدنقري، والأنفة والرجولة التي تمثلها الكوفية الفلسطينية، الأمر الذي أثر على المشاهدين فوجدوا فيه حنينًا للماضي الجميل، ماضٍ يعود بهم ولو قليلاً إلى تلك الحقبة التاريخية، فعلي شورب راسخ في الذاكرة والمخيال الشعبي أسطورة من الأساطير تروى في المجالس الخاصة والعامة، وذكر أيضًا في أحد خطابات الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة.
مسلسل “شورب” أعاد الدنقري لشوارع تونس، فأصبح يرتديه الشباب في المقاهي ومناسباتهم الاجتماعية، وزاد صناع الموضة من تفننهم فزادوه لمسات تقليدية وألوانًا بهية، فتهافت عليه المشاهير ونجوم السوشيال ميديا.
هوس الشباب باللباس الأزرق دفعهم إلى التنافس على مواقع التواصل الاجتماعي بنشر صورهم في مواضع مختلفة وفي أماكن ذات رمزية تاريخية كالمناطق الأثرية والأحياء العتيقة كنهج جامع الزيتونة، وأخرى سياحية كسيدي بوسعيد والمرسى، بل ووصل بهم الولع باللباس الذي يعتبرونه من الموروث التونسي إلى إطلاق هشتاغ على إنستغرام #دنقري و#دنقري_ ستايل.
من جهة أخرى، لم تقتصر تصميمات اللباس على الشباب والكهول، بل عمل بعض المتأثرين بالدنقري إلى نقل شغفهم للأطفال في محاولة ضمنية منهم إلى توريثه للجيل القادم قصد المحافظة عليه واعتماده كهوية ثقافية وتراثية تميز أهل البلد.
الراب والدنقري
من جانبه، لم يتخلف فنان الراب التونسي سواغ مان الذي يعيش في المهجر عن الحدث، وظهر في آخر أغنية طرحها بطريقة الفيديو كليب باللهجة التونسية، بعنوان “خلينا نعيشو” (دعونا نعيش)، مستعينًا بـ”الدنقري” و”الشاشية” الحمراء، إضافة إلى الكوفية.
وحققت أغنيته على موقع يوتيوب أكثر من 3 ملايين مشاهدة في 10 أيام، محققًا بذلك أعلى نسبة متابعة في ظرف قياسي بمسيرته.
أغنية سواغ مان (الجنسية الأمريكية والفرنسية) الأخيرة، جاءت عقب تجميد السلطات التونسية أمواله المقدرة بـ17 مليون دينار أي ما يعادل 6 ملايين دولار بتهم تبييض الأموال، إضافة إلى تحجير السفر.
إلى ذلك، ورغم أن جذور اللباس الأزرق القطني تعود إلى الصين، إلا أنه وجد مكانًا بين التونسيين الذين عملوا على تأصيله وتطويره من خلال إضافة الشاشية الحمراء التقليدية والكوفية الفلسطينية، وسواء ساهم المسلسل في انتشاره من خلال دفع الشباب لمواكبة الموضة وتوجيه ميولاتهم أم لا، فإن الدنقري له مريدوه توارثوا عشقه أبًا عن جد.