شهدت الأيام الماضية موجة من الإفراج عن العشرات من رجال الدين والعلماء المعتقلين في السجون السعودية، على رأسهم الشيخ محمد عبد العزيز الخضيري، الذي اُعتقل ضمن حملة سبتمبر/ أيلول 2017، بسبب إلقائه خطبة جمعة في قطر إبّان الأزمة الخليجية، كذلك الشيخ محمد الهبدان، والدكتور مالك الأحمد، وذلك بعد 7 سنوات قضوها في غياهب السجون، حسبما ذكر حساب “معتقلي الرأي” المعنيّ بأخبار المعتقلين السعوديين بسبب آرائهم الشخصية والعامة.
وقال الحساب في منشور على منصة “إكس”، “هام، تأكد لنا الإفراج عن عشرات المعتقلين من السجون السعودية، وبعضهم ممّن لديهم أحكام مطوّلة، جاء ذلك بعد تسارع عمل اللجنة المكلفة بإعادة النظر في المحكوميات، التي تم تشكيلها قبل أقل من سنتَين، لكنها كانت بطيئة في قراراتها”.
🔴 نقدم لكم #نشرة_معتقلي_الرأي رقم (49) لسنة 2024:
من هم آخر المعتقلين المفرج عنهم؟
وماذا عن حملة الإفراجات الأخيرة؟
وغيرها من التفاصيل في النشرة أدناه.. pic.twitter.com/CcNSeHn4EG
— معتقلي الرأي ـ مرئي (@m3takl_video) December 23, 2024
وتواجه المملكة انتقادات حقوقية لاذعة بسبب سجلّها المشين، ومسلسل انتهاكاتها الإنسانية الذي لا يتوقف، حيث الزجّ بالمئات داخل السجون والمعتقلات، بعضهم من الأسرة الحاكمة والنخبة الاقتصادية والدعوية، دون أي جرم سوى التعبير عن آرائهم الخاصة، أو ابتزازهم ماديًا، وتوعُّد كل من يغرد خارج السرب بالتنكيل والاعتقال، والقضاء على أي بصيص أمل نحو ميلاد معارضة حقيقية.
وتنفق السعودية عبر أذرعها الإعلامية والفنية والرياضية، بجانب شراء الذمم والولاءات، مئات المليارات من الدولارات لتحسين تلك السمعة السيّئة وترميم الصورة المشوهة، التي تحاول السلطات الحاكمة من خلالها تقديم نفسها في ثوب إصلاحي جديد، كإحدى خطوات تقديم أوراق الاعتماد رسميًا للمجتمع الدولي بأحقية ولي العهد، محمد بن سلمان، في خلافة والده على عرش المملكة.
مناشدات لا تتوقف لإطلاق سراح المعتقلين
منذ حملة اعتقالات عام 2017 التي استهدفت عددًا كبيرًا من رجال الدين والأكاديميين السعوديين، ليقضوا أحكامًا بالسجن على خلفية دعاوى معنية بحرية التعبير، منهم الداعية الشهير سلمان العودة، الذي اُعتقل بعد نشره على منصة “إكس” منشورًا يدعو فيه إلى “تأليف القلوب” بين حكّام قطر والسعودية أثناء الأزمة الخليجية، وتتعالى الأصوات الحقوقية التي تطالب بإطلاق سراح هؤلاء المعتقلين دون قيد أو شرط.
كانت آخر تلك الدعوات ما وجّهته منظمة العفو الدولية الشهر الماضي، حين طالبت السلطات السعودية بالإفراج عن الأشخاص الذين اُعتقلوا وأُدينوا لمجرد ممارستهم حقهم في حرية التعبير على الإنترنت، كما سلّمت المنظمة وبعض الكيانات الحقوقية الأخرى عريضة موقع عليها من 100 ألف شخص، للسفارات السعودية في جميع أنحاء العالم تطالب فيها بوقف تلك الانتهاكات فورًا.
وأشارت المنظمة الدولية أنه قد حان الوقت أمام المملكة لتظهر التزامها باحترام ودعم حرية التعبير، مضيفة أنه “ما لم يفرج فورًا ودون قيد أو شرط عن جميع المعتقلين المحتجزين بسبب التعبير على الإنترنت، فإن نفاق السلطات سيظهر بشكل كامل”، بحسب تعبيرها.
منوهة أن حالة الرعب من الاعتقال والتنكيل بسبب الرأي لم تقتصر على السعوديين فقط، إذ إن الزوار الأجانب من الممكن أن يكونوا عرضة لخطر السجن، لمجرد تعبيرهم عن آرائهم على الإنترنت، بما في ذلك انتقاد السلطات السعودية قبل وصولهم إلى المملكة.
وفي السياق ذاته طالب ائتلاف مكوَّن من 19 منظمة حقوقية دولية السلطات السعودية بضرورة تحرير معتقلي الرأي من داخل السجون السعودية، وذلك قبيل انعقاد منتدى حوكمة الإنترنت 2024 (IGF)، الذي استضافته الرياض في فترة 15-19 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وعزف عن حضوره العديد من منظمات المجتمع المدني والدعاة، خوفًا من عدم تمكنهم من المشاركة بأمان وحرية في المؤتمر، وفقًا للمنظمة.
⌛ الوقت يمضي!
بقي 5 أيام على بدء الاجتماع السنوي لمنتدى حوكمة الإنترنت #IGF2024، ونحن لا نزال ندعو إلى الإفراج عن #السدحان و #القحطاني و #الغامدي و #سلمى و #مناهل وجميع ضحايا القمع في السعودية!#أفرجوا_عن_الأصوات_السعودية
#FreeSaudiVoices pic.twitter.com/UM6coN2tHP
— منظمة العفو الدولية (@AmnestyAR) December 10, 2024
وقبل شهرين تقريبًا، وبالتحديد في 6 سبتمبر/ أيلول 2024، دعت 40 منظمة مجتمع مدني السلطات السعودية إلى إطلاق سراح كل الأشخاص المحتجزين تعسفيًا بسبب تعبيرهم عن آرائهم على الإنترنت، غير أن المملكة تجاهلت تلك الدعوات كما تجاهلت الأخرى التي تلتها، في ظل إصرار ممنهج على المضيّ قدمًا في طريق الانتهاكات واستهداف المعارضة، وخنق أي أجواء تفاؤلية بشأن حرية التعبير عن الرأي في البلد المحكوم بالحديد والنار من سلطاته الحاكمة.
وفرضت السعودية طوقًا أمنيًا خانقًا على حريات الرأي والتعبير، فصعّدت من قمعها لتلك الحريات عبر استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان، وإصدار أحكام جزافية بحقهم وصلت في بعض الأحيان إلى 45 عامًا دون أي جريمة، فضلًا عن افتقاد تلك المحاكمات الشكلية لأبجديات النزاهة في التقاضي، ما حوّلها إلى محاكمات هزلية مثيرة للسخرية.
هذا بخلاف التجسُّس على المعارضين والمغردين خارج السرب، داخل البلاد وخارجها، من خلال برامج تجسُّس مخصّصة اشترتها المملكة لهذا الغرض تحديدًا، من بينها برنامج “بيغاسوس” سيّئ السمعة.
فيما تُترجم أرقام الإعدامات في المملكة مدى تفاقم الوضعية الحقوقية والتنكيل بها شكلًا ومضمونًا، حيث بلغ عدد من نُفّذ بحقهم حكم الإعدام خلال هذا العام فقط 300 شخص بينهم أكثر من 100 أجنبي، لتحتل بذلك المرتبة الثالثة عالميًا في تنفيذ أحكام الإعدام بعد الصين وإيران.
تصاعد الضغوط
تواجه المملكة خلال الآونة الأخيرة حزمة من الضغوط الحادة جراء هذا السجلّ المشين حقوقيًا، واعتقال الآلاف من النخبة الدينية والمجتمعية والأكاديمية بسبب آرائهم الشخصية، تنقسم إلى 3 أقسام:
أولًا: الاحتقان الداخلي.. حيث تصاعدت حدة الغضب الشعبي -وإن لم يخرج للعلن بشكل واضح- جراء إدارة السلطات السعودية الحاكمة للدولة، والإسفاف البيّن في إنفاق وإهدار موارد الدولة على الحفلات ومواسم الرياض وجدة، وعلى المنظومة الرياضية والإعلامية والمشاريع التي يراها السعوديون غير ضرورية في الوقت الراهن، كمشروع نيوم الذي التهم خزانة المملكة، والذي يخدم في النهاية مصالح ولي العهد وبطانته المقربة، فيما يقبع أكثر من 13% من الشعب السعودي تحت مستوى خط الفقر.
ثانيًا: تصاعد نشاط المعارضة بالخارج.. والتي نجحت خلال الأعوام القليلة الماضية في أن يكون لها حضورًا نسبيًا على الساحة الدولية من خلال الفعاليات التي تنظمها، والتي تتم تغطيتها إعلاميًا بشكل جيد يسمح بإيصال رسائلها للداخل السعودي والمجتمع الدولي على حد سواء، والتي تتمحور في إجراء إصلاحات عاجلة على صعيد حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية.
في مايو/ أيار الماضي نظم عدد من المعارضين السعوديين خارج المملكة مؤتمرًا في العاصمة الأمريكية واشنطن، تحت عنوان “البحث عن الديمقراطية في السعودية”، شارك فيه معارضون سعوديون من بينهم لينا الهذلول وعبدالله العودة ويحيى عسيري وعمر عبدالعزيز، وشخصيات أخرى غير سعودية أبرزهم الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، وطالبوا فيه بإجراء إصلاحات سياسية وحقوقية حقيقية.
اليوم من قلب العاصمة : ناشطة سعودية تندد أمام منتدى أممي في الرياض بـ"إسكات"
أصوات المعارضة.
راجعين يا بلادي راجعين ♥️ https://t.co/rsJS9Onlii
— Lina Alhathloul لينا الهذلول (@LinaAlhathloul) December 18, 2024
وفي كلمته خلال المؤتمر، قال عبدالله العودة إن “ما جاء بنا إلى هنا هي الرؤية الشعبية للإصلاح في السعودية، وهي رؤية وضعها نشطاء سعوديون وأكاديميون ومنفيون يجرؤون على تخيل مستقبل فيه حقوق الإنسان وحكم القانون أمور واقعية وليست مجرد طموح”.
وتابع: “هذه الرؤية هي دعوة للتغيير وخارطة طريق تطالب بإطلاق فوري لكل معتقلي الرأي وضمان حرية التعبير والدفاع عن حقوق كل المواطنين، بما فيها المشاركة السياسية والتصويت وحماية حقوق الجميع، خاصة النساء والأقليات الهشّة ومن بينهم العمال الأجانب”.
ثالثًا: التطورات الإقليمية والدولية.. مثّلت التطورات التي شهدتها المنطقة والخارطة الدولية هي الأخرى ضغوطًا على الرياض، فالوضعية الحالية مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه عام 2017، حين شنَّ ولي العهد حملة الاعتقال الأكبر في تاريخ المملكة.
ومن أبرز التطورات التي من المتوقع أن تلقي بظلالها على الساحة السعودية، وتدفع القائمين على أمور الدولة هناك نحو إعادة النظر في السجل الحقوقي، تطورات المشهد السوري، حيث الإطاحة بنظام بشار الأسد وسيطرة المعارضة على الوضع، والكشف عن الكوارث الإجرامية التي ارتكبها النظام البائد بحقّ شعبه داخل السجون والمعتقلات، وأبرزها سجن صيدنايا الملقب بـ”المسلخ البشري”.
وبعد ساعات قليلة من افتضاح أمر سجن صيدنايا الإجرامي، شنَّ أعضاء من حزب التجمع الوطني (أسّسه معارضون سعوديون في الخارج عام 2020) وعدد من النشطاء حملة إلكترونية طالبوا فيها بتسليط الضوء على حال السجون السعودية، وما يجري فيها من أهوال تعذيب، لافتين إلى أن في المملكة سجونًا لا تقلّ إجرامًا عن السجن السوري.
ونشر المتحدث الرسمي باسم حزب التجمع، أحمد حكمي، تغريدة علّقَ فيها على العثور على جثة المعارض السوري مازن حمادة في سجن صيدنايا، قائلًا: “كم من مازن حمادة في سجن الحاير الشهير ببشاعته أو سجن ذهبان الذي يتذكره الناس برعب؟”، مضيفًا: “رحم الله مازن، وقريبًا كما تحرر صيدنايا سنحرر الحاير وذهبان ونخرج معتقلينا”.
كما عرض مقطع فيديو مصوّرًا يوثّق اعتداء على “فتيات يتيمات” طالبن بحقوقهن داخل دار أيتام خميس مشيط بعسير، على يد رجال أمن سعوديين قدموا إلى الدار استجابة لاتصال الإدارة بهم، رغم مطالبتهن بالحصول على حقوقهن في الدار، وذلك في 31 أغسطس/ آب 2022، معلقًا بالقول: “هذا اللي تسويه السلطات السعودية في يتيمات، فما بالك بما يحدث في السجون؟”.
كما ألقت التطورات التي شهدتها خارطة الإقليم والمجتمع الدولي مؤخرًا هي الأخرى بظلالها على المشهد السعودي، خاصة ما يحدث في سوريا بالتزامن مع المستجدات على الساحة اللبنانية اليمنية العراقية الفلسطينية والأجندة الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، وحالة الارتباك التي تخيّم على الساحة بعد فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتقزيم دور موسكو بعد سقوط الأسد وانكفائها على الساحة الأوكرانية، كذلك طهران التي أُجبرت بالقوة على إعادة النظر في جغرافيا نفوذها.
كل هذا خلق حالة من السيولة السياسية والأمنية والاقتصادية، تجعل من المرونة وفرض تقييمات جديدة تتوازن مع تلك التموضعات مسألة حيوية للجميع، وإلا فالفوضى غير المنضبطة قد تكون المصير المحتوم.
عطفًا على ما سبق، يحاول ابن سلمان استثمار التطورات الحالية في تحقيق هدفين رئيسيَّين، الأول امتصاص حالة الغضب الشعبي المتصاعد جراء نسف المرتكزات الوطنية للمملكة، والهرولة نحو الليبرالية على حساب الهوية الدينية، كذلك الخطوات السريعة نحو التطبيع مع الاحتلال، وتجنب السيناريو المعاكس للمشهد السوري وكابوس نقل العدوى الذي يؤرق مضاجع الكثير من الأنظمة ومنها المملكة.
أما الهدف الثاني فهو تبييض وجه المملكة وتقديم قرابين الولاء والطاعة، ومغازلة الإدارة الأمريكية الجديدة بتصدير النموذج الإصلاحي المرن، الساعي لإجراء إصلاحات حقيقية على الصعيد الحقوقي، بما يخفّف نسبيًا من انتقادات المنظمات الحقوقية الدولية، وتفويت الفرصة إزاء توظيف هذا الملف كورقة ضغط في مواجهة طموحات الأمير الشاب.
وستحسم الفترة القادمة تلك الجدلية بشكل كبير، بشأن ما إذا كانت الإفراجات الأخيرة حالة عرضية لتحقيق أهداف مؤقتة تتمثل في غسل سمعة المملكة وتبييض لوحتها الملطخة، تنتهي بهدوء العاصفة وتكسير أمواج الانتقادات الحادة، أم توجُّه جديد يُصلح به ولي العهد بعضًا ممّا أفسده طيلة السنوات الماضية، إذ إن هناك عشرات الآلاف من المعتقلين ما زالوا قابعين في السجون سيّئة السمعة، وقائمة مطولة من الملفات المتخمة بانتهاكات حقوقية على كافة المستويات.. فكيف سيكون التعامل معهم ومعها؟