اضطر المجلس الدستوري الجزائري لإعلان استحالة تنظيم الانتخابات الرئاسية المقررة في 4 من يوليو المقبل، بعد رفض أغلب الشخصيات الوطنية والأحزاب المشاركة فيها ومقاطعتها من طرف الحراك الشعبي، إضافة إلى عدم استيفاء ملفي المترشحين الاثنين شروط خوض هذا السباق، ورمى في الوقت ذاته بالكرة في ملعب رئيس الدولة المؤقت المرفوض شعبيًا لإعلان تاريخ جديد لانتخابات يؤمل منها أن تأتي برئيس جديد للبلاد.
ومنذ اضطرار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة للاستقالة في 2 من أبريل بعد رفض الشعب خطط التمديد له ومشروع ترشحه لولاية خامسة، لقي مقترح تنظيم الرئاسيات في 4 من يوليو الذي قدمه بن صالح رفضًا واسعًا من طرف الجزائريين، جعل مصير هذا الاستحقاق واحدًا وهو الإلغاء.
فتوى دستورية
أعلن المجلس الدستوري الأحد في بيان رفض ملفي الترشح المودعين لديه في إطار انتخابات 4 من يوليو القادم، وجاء في البيان “اجتمع المجلس الدستوري أيام 21 و24 و27 من رمضان عام 1440 الموافق 26 و29 من مايو و1 من يونيو 2019، للتداول حول ملفات الترشح لانتخاب رئيس الجمهورية المقرر إجراؤه يوم 4 من يوليو 2019، وفصل برفض ملفي الترشح المودعين لديه بقرارين فردين”.
وأضاف البيان “وبناءً على قرار المجلس الدستوري المؤرخ يوم 1 من يونيو 2019، صرح بموجبه استحالة إجراء انتخاب رئيس الجمهورية يوم 4 من يوليو 2019 وإعادة تنظيمه من جديد”.
وسط هذه الورطة الدستورية التي ربما لم يتوقعها المشرع الجزائري، تتعالى أصوات من قلب الحراك والمعارضة وخبراء القانون إلى البحث عن حلول أخرى تجمع بين الخلفية الدستورية والواقع السياسي لتجاوز هذه المرحلة
وأوضح المجلس “وبناءً على المواد 7 و8 و102 فقرة 6 و182 و193 من الدستور، وبما أن المؤسس الدستوري خول مهمة السهر على احترام الدستور للمجلس الدستوري، وبما أن الشعب هو مصدر كل سلطة ويمارس سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها، وبما أنَّ الدستور أقر أن المهمة الأساسية لمن يتولى وظيفة رئيس الدولة هي تنظيم انتخاب رئيس الجمهورية، فإنه يتعين تهيئة الظروف الملائمة لتنظيمها وإحاطتها بالشفافية والحياد لأجل الحفاظ على المؤسسات الدستورية التي تُمكن من تحقيق تطلعات الشعب السيد”.
وأوضح المجلس “كما يعود لرئيس الدولة استدعاء الهيئة الانتخابية من جديد واستكمال المسار الانتخابي حتى انتخاب رئيس الجمهورية وأدائه اليمين الدستورية”.
ويفهم من هذا أن تنظيم انتخابات رئاسية جديدة ستكون تحت إشراف رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، وهو ما يطرح تخوفات جديدة لدى الجزائريين بالنظر إلى أن أهم أسباب فشل موعد 4 من يوليو هو بقاء بن صالح ووزيره الأول في السلطة، في وقت يخرج مئات الآلاف من الجزائريين بل الملايين كل جمعة للمطالبة برحيل هاذين “الباءين”.
وينتظر أن يخطر المجلس الدستوري رئيس الدولة المؤقت الذي “يملك صلاحية تحديد تاريخ آخر لتنظيم الرئاسيات”، ووسط هذه الورطة الدستورية التي ربما لم يتوقعها المشرع الجزائري، تتعالى أصوات من قلب الحراك والمعارضة وخبراء القانون إلى البحث عن حلول أخرى تجمع بين الخلفية الدستورية والواقع السياسي لتجاوز هذه المرحلة، وذلك بتفعيل المادتين 7 و8 من الدستور اللتين تنصان على أن السيادة للشعب وحده.
تبقى مشاركة المعارضة في الرئاسيات المقبلة مهما كان موعدها مرتبطة بتوفير ظروف ضمان إجراء اقتراع نزيه وشفاف، الذي لن يتأتى إلا بتشكيل لجنة مستقلة لمراقبة الانتخابات تشرف على الاستحقاق من بدايته إلى نهايته
حذر
تأنت معظم الأحزاب السياسية في إصدار رأي بشأن بيان المجلس الدستوري، وأجلت ذلك إلى اجتماع للمعارضة يعقد الإثنين بمقر حزب اتحاد القوى الديمقراطية والاجتماعية.
ويعد إلغاء رئاسيات 4 من يوليو المقبل مطلبًا تتفق عليه جميع أطياف المعارضة، بما أن تنظيم هذا الاستحقاق كان من سلطة مرفوضة شعبيًا، إلا أن إبقاء سلطة إيجاد مخرج للأزمة التي تعيشها البلاد في يد الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح قد لا توافق عليه معظم التشكيلات السياسية أو قد يشكل موضوع خلاف بينها على الأقل.
وقال رئيس مجلس شورى جبهة العدالة والتنمية (حزب إسلامي) لخضر بن خلاف في تصريح لموقع “سبق برس”: “قرار المجلس الدستوري بشأن استحالة إجراء الرئاسيات في 4 من يوليو استجابة لمطالب الشعب الرافض لإجراء الانتخابات قبل رحيل رئيس الدولة والوزير الأول ورئيس المجلس الشعبي الوطني (البرلمان)”.
وحسب بن خلاف، فإن حديث المجلس الدستوري عن تأجيل الرئاسيات واستمرار رئيس الدولة المؤقت في منصبه “فتوى سياسية خارجة عن مهامه الدستورية، لأن المجلس يصدر تفسيرًا لأحكام الدستور عندما يطلب منه رئيس الجمهورية أو رئيس الدولة ذلك”، أي ليس من حقه استباق الأمور.
وتبقى مشاركة المعارضة في الرئاسيات المقبلة مهما كان موعدها مرتبطة بتوفير ظروف ضمان إجراء اقتراع نزيه وشفاف، الذي لن يتأتى إلا بتشكيل لجنة مستقلة لمراقبة الانتخابات تشرف على الاستحقاق من بدايته إلى نهايته، ولا يمكن للسلطة ممثلة في رئيس الدولة التدخل فيها، إضافة إلى رحيل الوزير الأول نور الدين بدوي وحكومته على الأقل.
ورغم حديث رئيس الدولة المؤقت عن تشكيل هذه اللجنة في العديد من المرات، فإن ذلك لم يحدث حتى الآن رغم ضغوط المعارضة ودعوات رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي يبقى موقفه من الموعد الجديد للرئاسيات له وزن في دعمها أو رفضها من جهات متعددة، بالنظر إلى أن مؤسسة الجيش تبقى أحد الأطراف الأقوياء في صنع المشهد الجزائري اليوم رفقة حراك الشارع.
نبه قايد صالح من الوقوع في خطأ تكرار مرحلة العشرية السوداء التي عاشتها البلاد في أواخر القرن الماضي بالقول: “الشعب الجزائري المخلص لوطنه والمدرك لأهمية الإسراع في بلوغ الحلول الملائمة لهذه الأزمة، لا يريد تكرار تجارب مريرة سابقة”
حوار وتنازلات
بإعلان المجلس الدستوري استحالة تنظيم رئاسيات 4 من يوليو وإعطاء الضوء الأخضر لبن صالح لاستدعاء الهيئة الناخبة لموعد رئاسي جديد، تعود دعوة رئيس أركان الجيش بإجراء حوار جاد وواقعي بين جميع الأطراف للخروج من الأزمة إلى الواجهة.
ولأول مرة تحدث الأسبوع الماضي، قايد صالح بالصراحة الواضحة عن رؤية الجيش للخروج من حالة الانسداد الذي تعيشه بلاده، وقال قايد صالح في زيارة ميدانية قادته إلى منطقة برج باجي مختار الحدودية مع مالي: “السبيل الوحيد لحل الأزمة التي تعيشها بلادنا، هو تبني نهج الحوار الجاد والجدي والواقعي والبناء والمتبصر الذي يضع الجزائر فوق كل اعتبار، فسيادة الحوار يعني استعداد الجميع إلى الاستماع بل الإصغاء إلى الجميع بكل روية وهدوء والتزام وتطلع مخلص نحو ضرورة وحتمية إيجاد الحلول المناسبة دون تأخير.”
ونبه قايد صالح من الوقوع في خطأ تكرار مرحلة العشرية السوداء التي عاشتها البلاد في أواخر القرن الماضي بالقول: “الشعب الجزائري المخلص لوطنه والمدرك لأهمية الإسراع في بلوغ الحلول الملائمة لهذه الأزمة، لا يريد تكرار تجارب مريرة سابقة كان قد كابد ويلاتها وعانى من آثارها أشد المعاناة، إنه لا ينسى ولا يريد أن ينسى تلك الفترة الصعبة التي مر بها خلال التسعينيات”.
وأضاف “وعلينا كجزائريين أن نأخذ العبرة مما سبق من تجارب وما سبق من أحداث مأساوية غاب عنها العقل وكان الخاسر الوحيد، من جراء كل ذلك، هو الوطن، لهذا فإننا نشدد الإلحاح على ضرورة شعور الأطراف كافة بالمسؤولية وأن تجعل من الحوار طوق النجاة للوطن.”
وحسب المؤسسة العسكرية، فإن “هذا الحوار الذي يتعين أن تشارك فيه شخصيات ونخب وطنية تكون وفية للوطن ولمصلحته العليا المقدسة، فالحوار الصادق والموضوعي الذي يتم خلاله تقدير الظروف التي تمر بها البلاد، ويتم عبره التنازل المتبادل من أجل الوطن، فبهذه الطريقة يتم محو الفوارق بين الآراء المختلفة أو على الأقل تقليص المسافة في وجهات النظر المتباينة والمتباعدة، فلا شيء يعلو على مصلحة الجزائر وكل شيء يهون في سبيلها”.
وإن كانت الأحزاب الإسلامية وما يطلق عليها الوطنية تؤيد الحوار الذي دعا إليه قائد الجيش، فإن بعض الأحزاب العلمانية التي يتهمها خصومها أحيانًا بتنفيذ أجندات أجنبية تبقى غير مطمئنة للدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية، خاصة بعد إيداع الأمين العام لحزب العمال لويزة حنون الحبس المؤقت بتهمة صلتها بالاجتماع المشبوه الذي عقده السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق ورئيسا المخابرات السابقين الفريقين بشير طرطاق ومحمد مدين لإفشال الحراك الشعبي.
بما أن هاجس ظهور “سيسي جديد” في الجزائر يتخوف منه الجميع في البلاد، رغم اختلاف الظروف والمعطيات، جدد قائد أركان الجيش أنه يزهد في البحث عن طموحات سياسية
ليس طرفًا
رغم أن مؤسسة الجيش تبقى إلى اليوم الطرف القوي في الأزمة التي تعيشها البلاد رفقة الحراك الشعبي، واتهام التيار العلماني لها بالمناورة في الاستجابة لمطالب الشعب، فإن قايد صالح يصر على أن لا تكون المؤسسة العسكرية طرفًا في الحوار الذي دعا له، وعدم الخروج عن المهام الدستورية المحددة للجيش، وذلك تجنبًا لتوريط الأخير في صراعات السياسيين الإيديولوجية ومصالح تموقعهم.
وبيّن قايد صالح أن مهة الجيش تتلخص “في حسن مرافقة أبناء الوطن، وهم يقدمون اقتراحاتهم البناءة خدمة لما يستوجبه الواجب الوطني النبيل”، ومطلب مرافقة الجيش للحل الذي سيخرج البلاد من الأزمة نقطة تتفق عليها معظم الأحزاب السياسية سواء الإسلامية مثل حركة مجتمع السلم وجبهة العدالة والتنمية وحركة البناء الوطني أو الوطنية مثل طلائع الحريات.
وبما أن هاجس ظهور “سيسي جديد” في الجزائر يتخوف منه الجميع في البلاد، رغم اختلاف الظروف والمعطيات، جدد قائد أركان الجيش أنه يزهد في البحث عن طموحات سياسية، حيث قال: “كما سبق لي أن أكدت مرارًا وتكرارًا، فإنني أجدد التأكيد اليوم بأن الجيش الوطني الشعبي سيظل دومًا وفيًا لتعهداته في مرافقة الشعب الجزائري ومؤسسات الدولة وجهاز العدالة، كما أود التأكيد أيضًا مثلما تطرقت إليه في مداخلاتي السابقة أنه ليست لنا أي طموحات سياسية بل إن مبلغ طموحنا هو خدمة بلدنا وجيشنا، طبقًا لمهامنا الدستورية، وهو موقف لن نحيد عنه أبدًا.”
ومع إلحاح المؤسسة العسكرية على “المضي قدمًا نحو حوار مثمر” يضمن السير في طريق بلوغ إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في “أسرع وقت ممكن بعيدًا عن الفترات الانتقالية التي لا تؤتمن عواقبها”، وشح المبادرات السياسية الجادة إذا ما استثني بيان علماء الجزائر، يبقى الشارع يترقب الحل الذي ينهي الأزمة التي تعيشها البلاد ويضمن تحقيق الأهداف التي انطلق من أجلها حراك 22 من فبراير، وذلك بعيدًا عن دعاة التخوين والطائفية والعمالة لفرنسا وباقي الدول الأجنبية.