ترجمة وتحرير نون بوست
كرّست الدكتورة ديبورا غوردن نفسها خلال العقود الثلاثة الماضية لدراسة مستعمرات النمل في صحراء أريزونا. ومع أن موضوع الدراسة الذي اختارت العمل عليه ألا وهو “النمل الحاصد الأحمر” ليس جذابا، إلا أنه تبين أن هذا النوع من النمل يكون قادرا على تحقيق أمور ملحوظة على المستوى التنظيمي عندما يعمل في مجموعات.
حسب البروفيسورة في علم الأحياء في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، ديبورا غوردن، فإنه “ليس بإمكان أي نملة بمفردها معرفة ما تفعله أو تقييم ما حولها بشكل شامل، ولكنها عندما تكون في مستعمرات كاملة تستطيع إنجاز الكثير”. ويستطيع النمل الحاصد الأحمر الحفاظ على الأعشاش المعقدة التي يبنيها على بعد أمتار تحت الأرض من خلال العمل ضمن مستعمرة تضم 10 آلاف نملة تعيش ما بين عشرين وثلاثين عاما، وذلك مرتبط بحياة الملكة التي يتسبب موتها في تقهقر المستعمرة ببطء.
يتمثل السبب الكامن وراء النجاح المبهر لهذا النمل في الخوارزميات. وتركز أبحاث غوردن على كيفية تطوير مختلف فصائل النمل لطرق خوارزمية من خلال الاستجابة لمحيطها، ما سمح لها بتحقيق التوازن في كمية المياه التي تستهلكها وبناء مسالك أكثر كفاءة وإيجاد مصادر طعام جديدة. وقد تبين أن هناك بعض الأمور التي يمكن للإنسان تعلمها من خوارزميات النمل.
بالنسبة للنمل الحاصد، فإن أهم خوارزمية هي تلك التي تنظم البحث عن الطعام. وتمثل بذور الأعشاب أهم مصدر للطعام والماء، حيث يخزنها النمل لعدة أشهر داخل مستعمراته الشاسعة التي تمتد تحت الأرض. ولكن في صحراء أريزونا، لابد من معرفة ما إذا كان استنفاذ الطاقة والماء بحثا عن بذور الأعشاب أو الاختباء والحفاظ على الموارد مهما لنجاح المستعمرة.
بشكل عام إذا اشتمت نملة في حالة الانتظار رائحة عشر نملات أو أكثر من الباحثين عن المؤونة فإنها ستصبح نملة نشيطة جاهزة للبحث بدورها عن الطعام في غضون ثلاثين ثانية.
في الواقع، إن النملة بمفردها غير قادرة على اتخاذ مثل هذا القرار. في المقابل، يعول النمل الباحث عن المؤونة على الإشارات التي يرسلها بقية النمل العائد إلى العش محملا ببذور الأعشاب ليقرر ما إذا كان عليه أيضا الانضمام له للبحث عن الطعام. ويغطي جسم النمل الحاصد طبقة من مادة دهنية تتغير رائحتها وفقا للعمل الذي تقوم به النملة ضمن المستعمرة، ذلك أنه عندما يشتم النمل الباحث عن المؤونة رائحة النمل العائد إلى العش بمعدل مرتفع للغاية يخرج لينضم إلى المجموعة التي تبحث عن الطعام. ويضطلع النمل بوظائف أخرى، حيث أنه قادر على تغيير مهمته بناء على معدل الرائحة المنبعثة من بقية أنواع النمل.
وفقا لغوردن، يعتبر ذلك نوعا من ردود الفعل الإيجابية. فإذا عاد النمل الباحث عن المؤونة بسرعة فإن ذلك يعني أن هناك الكثير من الطعام الذي يسهل جمعه في الخارج، لذلك من المنطقي أن يخرج أكبر عدد ممكن من النمل لجمع بذور الأعشاب وتخزينها في وقت لاحق. ويتميز النمل الحاصد بنوع معين من “مستويات التحفيز” التي تتغير وفق رطوبة المحيط، لكن بشكل عام إذا اشتمت نملة في حالة الانتظار رائحة عشر نملات أو أكثر من الباحثين عن المؤونة فإنها ستصبح نملة نشيطة جاهزة للبحث بدورها عن الطعام في غضون ثلاثين ثانية.
أوضحت البروفيسورة غوردن أن النمل “يجري مفاضلة بين معدل حصوله على الطعام مقارنة بمعدل خسارته للماء أثناء عملية البحث تحت الشمس الحارقة”. إن خوارزمية البحث عن الطعام شبيهة بما يسمى بـ “بروتوكول التحكم بالنقل” (TCP)، وهو عبارة عن نظام ينظم تدفق البيانات عبر شبكة الإنترنت من خلال إرسال حزم صغيرة من المعلومات لمعرفة النطاق الترددي المتاح. وإذا توفر ما يكفي من النطاق الترددي، فإن بروتوكول التحكم بالنقل يحرص على أن يرسل بقية البيانات، لكن إن حدث العكس فإن حركة تدفق البيانات ستكون وفق وتيرة بطيئة للحفاظ على الطاقة.
الخوارزمية التي يعتمد عليها نمل الأشجار لتحديد المسارات تقدم نموذجا مفيدا لأسراب هذه الحشرات الآلية مما يساعدها على إيجاد طرق جديدة أثناء التنقل
طورت بقية فصائل النمل الأخرى خوارزميات خاصة لتنظيم مستعمراتها. فعلى سبيل المثال، طور نمل الأشجار خوارزمية تمكنه من إصلاح شبكات طرقاته عندما تتعطل المسالك المعتادة بين مختلف الأعشاش. وتنقسم مستعمرات نمل الأشجار بين عدة أعشاش موصولة بتدفق ثابت من النمل الذي يتنقل من عش إلى آخر، بيد أنه بين الحين والآخر يتسبب سقوط غصن من الشجرة أو ورقة في قطع هذا الطريق. وعندما يتعلق الأمر بإيجاد مسلك جديد حول المعرقل فإن نمل الأشجار يطبق استراتيجية بحث واسعة حيث يجرب الكثير من المسالك الجديدة المختلفة في البداية ثم يقوم بتقليلها ولا يترك سوى المفيدة منها فحسب.
بالنسبة لساكت نافلاخا، المتخصص في علوم الأحياء الحاسوبية والذي يعمل مع غوردن في دراستها المتعلقة بالنمل، فإن نمل الأشجار يسلط الضوء على الخصائص الفطرية للخوارزميات البيولوجية. وأوضح نافلاخا “غالبا ما نبحث في الهندسة عن حلول تتسم بكفاءة عالية وتؤدي المهام المطلوبة في أسرع وقت ممكن، بيد أنه في علم الأحياء تعتبر الكفاءة مهمة لكن القوة والمرونة والقدرة على التكيف ليست مهمة بقدر إنجاز العمل بأسرع وقت ممكن”.
يقول نافلاخا إن الخوارزمية التي يعتمد عليها نمل الأشجار لتحديد المسارات تقدم نموذجا مفيدا لأسراب هذه الحشرات الآلية مما يساعدها على إيجاد طرق جديدة أثناء التنقل. وفي البيئات التي تكون فيها الموارد شحيحة، قامت الطبيعة بعمل رائع من خلال التوصل إلى حلول ساهمت في خلق التوازن بين الأهداف والكفاءة.
يؤدي دفع فصيلة معينة إلى أقصى حد إلى ضياع خوارزمياتها إلى الأبد. وهذا يعني، حسب نافلاخا، أن البشر قد ينتهي بهم المطاف إلى تفويت دروس الهندسة التي يمكنهم تعلمها من هذه الفصائل.
ليس النمل الكائن الوحيد القادر على تعليمنا كيف نبتكر خوارزميات أفضل. ففي الحقيقة، تزخر الطبيعة بخوارزميات يمكن تطبيقها لحل مشاكل العالم الحقيقي. وقد درس نافلاخا كيف يمكن للأنابيب التي تنقل الماء والمغذيات داخل النباتات أن تجد التوازن بين الفائدة والطاقة المستهلكة، مبينا أن ذلك من شأنه أن يمنحنا إطار عمل لبناء شبكات أنفاق وطرق أفضل.
لكن وصولنا إلى خوارزميات الطبيعة قد يكون تحت التهديد، ذلك أن أبرز الخوارزميات الطبيعية تطورت عندما عاشت بعض الفصائل في بيئات قاسية دفعتها إلى إيجاد طرق مبتكرة للوصول إلى الموارد الشحيحة أو التنقل في بيئة خطرة. وبيّن نافلاخا أن “كل بيئة تفرض قيودا جديدة على خوارزمية معينة. وقد تمكنت بعض الفصائل من تشفير أفكار فريدة من نوعها”.
غالبا ما يجد هذا النوع من الفصائل نفسه مهددا بالتغيرات التي تطرأ على بيئته. وقد يؤدي دفع فصيلة معينة إلى أقصى حد إلى ضياع خوارزمياتها إلى الأبد. وهذا يعني، حسب نافلاخا، أن البشر قد ينتهي بهم المطاف إلى تفويت دروس الهندسة التي يمكنهم تعلمها من هذه الفصائل.
بالنسبة لكل من غوردن ونافلاخا وبقية العلماء الذي يعملون في مجال علم الأحياء الحاسوبية المزدهر، فإن هذه المعطيات تضفي حدا من الاستعجالية على الأبحاث. وحيال هذا الشأن، قال نافلاخا “أعتقد أن بعض هذه الفصائل تقوم بأمور ذكية جدا ومهمتنا تقتضي معرفة كيفية فعلها لذلك”. وقد بدأ السباق الآن لاكتشاف خوارزميات الطبيعة الخفية قبل أن تختفي.
المصدر: وايرد